متى يخرج التعليم من مزادات السياسة؟

في ثنائيتها لتوزيع الأدوار اعتادت بعض الأحزاب السياسية؛ أن تصالح الأنظمة بذراعها السياسي مستخدمة أذرعاً أخرى للتصعيد لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة؛ وكانت القطاعات ذات الطابع الخدماتي خصوصا (التعليم والصحة) بالنسبة لها هي الأنسب لتنفيذ أجندات من هذا القبيل؛ بغض النظر عن ما سيترب على ذلك من أضرار.

لقد حاولت من خلال مقالات سابقة التركيز على حقائق في غاية الخطورة وهي أن معظم منهم في مراحل التعليم معرضون لخطر له أبعاد متعددة تشمل التسرب المدرسي وضعف المستويات وخطر الانحراف؛ كلها عوامل تهدد أمننا بشكل أصبحنا نعيشه يوميا في كل تفاصيل حياتنا.

فمن الطبيعي أن يكون التلاميذ أوالطلاب أصحاب المستويات الضعيفة فريسة سهلة لكل أشكال الجريمة المنظمة العابرة للحدود؛ وحين يعجز المجتمع عن إنتاج كادر بشري قادر على مواجهة التحديات ؛ فذلك يعني بالضرورة أنه أصبح يساهم بفعالية في صناعة العوامل التي تؤدي لتدميره.

المؤسف أن المعلمين انشغلوا بخليط يمزج بين السياسة وتخوين وسب وتشويه كل من يحاول البحث عن حلول لمشاكل تهدد مصالحهم قبل أي شيء آخر ؛ مستخدمين مفردات من قبيل: الانبطاح المظلومية .. النضال ..الحقوق ..

فهل يعني هذا أنهم أصبحوا عن غير قصد جزءًا من الإشكال الذي يُعيق إصلاح منظومتنا التربوية؟ من خلال أساليب تجمع بين التصعيد والتهرب من المسؤوليات وركوب موجات المطالبة المتكررة بزيادات الرواتب ؟..

ليس من الإنصاف ،من وجهة نظري، التصعيد المفتعل تحت يافطة المطالبة بزيادة الرواتب في ظل وجود مخرجات تشكل تهديدا للحمتنا الاجتماعية ولأمننا القومي بشكل عام . تماما كما يٌعد اتهام الدولة بأنها وراء كل هذا التدهور الخطير؛ أمرا غير واقعي؛ نظرا لتعدد الأطراف ( المدرسون رابطة آباء التلاميذ ومنظمات المجتمع المدني) التي ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها فيما بات يعرف بقضية فساد التعليم في البلد ؛ فالبعض قديبالغ حين يحملها المسؤولية عن تخريج الآلاف بدون مستويات وعن اكتظاظ الأقسام وتهميش المدرس وتفقيره...؛هذا الطرح غير الموضوعي في الكثير من مقارباته. يذهب أبعد من ذلك في محاولة لإقناع الرأي العام بأن التعليم ينبغي أن يُسند للرئيس والوزير وضباط الجيش والشرطة والأمناء العامين وكل أصحاب المناصب السامية؛ فهؤلاء في نظر البعض هم من يجب أن يتولوا مهمة التدريس عن أصحابها...وهذا يطرح السؤال الجوهري الذي يدخل ضمن "التابوهات" في les tabous أدبيات نقابات التعليم الموقرة.

وهو . ما موقع المدرس في هذه الخريطة التي هو جزء من تضاريسها..؟ هل عليه أن يتفرغ للاضرابات والعزف المزمن على سفونية الزيادات ومقاطعة كل محاولة لإعادة قطار التعليم لمساره الصحيح من أجل تحقيق أجندات سياسية لأحزاب بعينها؟؛ وبالتالي إهمال مهنته الأصلية التي أخذ على نفسه تعهدا مكتوبا بالقيام بها على الوجه الأكمل لمدة أقلها عشر سنوات ؟ .

لن أخوض هنا في تفاصيل إشكال كهذا سبق وأن تطرقت له في مقالات سابقة؛ فالأمر في نظري ينبغي أن يخرج من دائرتين أساسيتين : أولهما تسييس العمل النقابي وتسخيره لخدمة جهات بعينها؛ بدل اهتمامه بمصالح المدرسين التي هي في النهاية امتدادات لمصالح المجتمع ؛ وثانيهما الخروج من بوتقة التخدق المؤدي بطبعه لتكرار أدبيات التخوين والعنف والتحريض الأعمى بهدف خلق عداوة للمجهول؛ الأمر الذي سيزيد عمق جرح نازف منذ عقدين من الزمن.

إن استخدام طلاب كلية الطب للعنف ضد أستاذ زائر لإخراجه بالقوة من القاعة؛ معتبرين الأمر جزءا من النضال المشروع؛ هو خير مثال على هذه الثقافة؛ التي تعكس خللا عميقا في الجهاز المفاهيمي الذي هو في الحقيقة نتاج عملية تختلط فيها السياسة بالتحريض ويغيب فيها دور المعلم بالمعنى العلمي والتربوي للكلمة..

جانب آخر من هذا الخلل نلمسه يوميا في شوارعنا في مدارسنا وداخل بيوتنا ؛ إنه اعتداء القصر على بعضهم بعضا بالسلاح الأبيض؛ والذي انتشر بصورة تعجز عن ضبطها أقوى أجهزة الشرطة في العالم.

فالمدرس إذن ؛في نظري؛ محتاج للتوعية بهذه المخاطر الناتجة عن اختلالات في دوره الوظيغي؛ وفي هذا الصدد ينبغي أن يتجاوز عقد العداء الموروث لكل ماله علاقة بالدولة؛ فهو في النهاية يتقاضى راتبا شهريا من خزينتها مقابل خدمات بعينها؛ وليست مقاطعة أومحاولة التأثير على التقويم التربوي جزءا منها.

ربما يتفق معظم المهتمين على ضرورة تحسين ظروف المدرس؛ لكن عليه هو أولا أن يقنع نفسه بذلك عبر انفتاح يعتمد الصراحة والتشخيص الدقيق للاكراهات التي تشكل عائقا حقيقيا أمام تطوير التعليم ؛ بدل اعتماده أسلوب الضحية ومهاجمة كل من لايتفق معه في الطرح والتوجه ذاته.

يجب أن أوضح في هذا الإطار أنني أكتب دفاعا عن مصالح مجتمع ينهار في ظل تسييس الزملاء لمهنة كان ينبغي أن تظل نبيلة لأن توازن المجتمع واستمرارية الدولة مرتبطان بجودتها.

ولكي لاتضل الحقائق طريقها في أزقة التشويه والتشهير؛ أقول لكل من يملك أرصدة من التهم الجاهزة من دون أدلة؛ إنني لم تعد تغريني الرواتب الفلكية بحكم عملي لسنوات في واحدة من أشهر المؤسسات في العالم وأكثرها تأثيرا على صناع القرار.

لكل هذه الأسباب أكتب عن قناعة ترى بأن المدرسة الجمهورية هي أفضل حل للخروج من مآزق ذات طابع تراكمي تشكلت عبر صيرورة زمنية لايجدي الحديث هنا عن تاريخها نفعا؛ لكونه ليس جزءا من الهدف المنشود ..ومن باب الإنصاف فإن الخطة الشاملة لتحيين الموارد بنوعيها البشري والمادي التي يعمل عليها وزير التهذيب الوطني الحالي يمكن أن تشكل مخرجاً للتعليم من مزادات السياسة؛ حينها سيدرك المدرس ؛قبل غيره؛ أن أولويات المجتمع ؛التي من أهمها تعليم نموذجي؛ هي جزء لايتجزأ من مصالحه الحوية وأن التسييس ليس جزءاً من الحل!..

متى يخرج التعليم من مزادات السياسة؟ / د.أمم ولد عبد الله