هل كان المختار ناصرياً؟

هل كان المختار ناصرياً؟

----------------------------------

في قمة إنشاء منظمة الوحدة الإفريقة بأديس أبابا، في 25 مايو 1963، تعرفتُ على الرئيس عبد الناصر وكانت مقابلتي الأولى معه لا تنسى بكل معاني الكلمة.

وأود أن أذكر أنه ومنذ وصول عبد الناصر إلى سدة الحكم، وكنت يومها طالباً في فرنسا، وأنا معجب به إعجاباً لا حدود له.. كنت ناصريا تماماً، ومع ذلك لم أتمكن من الاستماع إلى إذاعة صوت العرب التي كانت تثير الحماس في نفوس الجماهير العربية، ولم أكن حتى الساعة أقرأ جريدة «الأهرام» لأنها لم تكن تصلني، أما «البكباشي»، كما كانوا يدعونه، وهي عبارة تطفح بالاحتقار والكراهية وكثيراً ما ترد على ألسنة مقدمي النشرات وتجري بها أقلام الكتاب في الصحافة الغربية، فكل ما أعرفه عنه مستمد من مصدر واحد هو وسائل الإعلام الفرنسية.

وكانت لي نقاشات حول هذا البكباشي كثيراً ما تكون ساخنة، أخوضها مع فرنسيين أصدقاء في الدراسة، أو في كلية الحقوق أو في مدرسة اللغات الشرقية أو في الحي اللاتيني أو في الحي الجامعي بباريس ومع من من ألتقي بهم عرضاً في أماكن أخرى يرتادها الطلبة. ومَن أناقشهم كثيراً ما يكونون من أنصار الصهاينة المتعصبين، أو من ممن يحملون نظرةً استعمارية يقتنعون بها ولها يتعصبون أو من الفئات البورجوازية ذات النظرة القاصرة، بل إن بعض الطلبة اليساريين كان معادياً له في تلك الأجواء المتأثرة بما قام به خلال سنوات 1954ـ 1956. وكنت كلما شعرت بمزيد من السخط عليه لدى من أتحدث إليهم زادني ذلك إعجاباً به ووقوفاً إلى جانبه.

ولم يصل بي الأمر حد الاشتباك، لكن وصل في مرات كثيرة إلى المشادة العنيفة، نعم حصل مني ذلك وأنا المسالم المقتنع بالمسالمة!

كان عبد الناصر بالنسبة لي نموذجاً للإنسان المعادي للاستعمار وللامبريالية، والبطل القومي الذي يعمل من أجل أن يعيد للعرب والأفارقة كرامتهم وشرفهم بعدما أهانهم الأوروبيون زمناً طويلا.

وكانت مقابلته وجهاً لوجه والحديث معه على قدم المساواة يثيران لدي مشاعر تستعصي على الوصف. وكان لقاؤنا الأول في ردهة كبيرة من ردهات «أفريكا هول»، حيث أقام الوفد المصري شبه صالون وكان ينتظرني هناك، وعندما رآني قادماً تقدم نحوي وعانقني بحراراة، وأجلسني ثم جلس قبالتي. كان بسيطاً وهادئاً وبشوشاً، وكنت وحدي بينما كان محاطاً بثلاثة من معاونيه منهم محمد فائق، مستشاره للشؤون الأفريقية، وكانت هناك مجموعة من الحراس تطوف حولنا ...

وبعد انتهاء عبارات التحية الاعتيادية طلب مني أن أحدثه عن الخلاف المغربي الموريتاني، وقال لي: سوف أقول لك وجهة نظري عندما أسمع وجهة النظر الموريتانية، مبيناً أنه يعرف الرواية المغربية.. وتحدثت إليه خلال ساعة تقريباً، وكان في كل مرة يشير إلي بأن ما أقوله يهمه. وعندما انتهيت طرح علي أسئلة حول بعض النقاط التي وردت في عرضي، ثم أخذ الحديث بادئاً ببعض عبارات المجاملة واللباقة التي وجهها إلي .., وهنأني على رفض الجمهورية الإسلامية الموريتانية إقامة أية علاقة مع إسرائيل، مع أن كل دول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء تقيم علاقات وطيدة ومتنوعة معها.

وبعد ذلك انتقد نفسه وانتقد دول الجامعة العربية على اتخاذها قرار شتوره في وقت كانت الجامعة العربية فيه تجهل تماماً حقيقة الخلاف المغربي الموريتاني، واستثنى تونس التي فضلت الغياب عن ذلك المؤتمر.

وفيما يخصه هو شخصياً، فقد اعترف صراحة بأن الملك محمد الخامس حمله على الاقتناع بأن موريتانيا كانت إحدى محافظات المغرب وقد اقتطعها الاستعمار الفرنسي من وطنها الأم المغرب غداة استقلال هذا الأخير. وأضاف كما لو كان يريد تبريراً لتصديقه ما قد سمع، أن وجود مجموعة من الموريتانيين بينها أمير وجمع من الوجهاء أكد له ما قاله ملك المغرب. وأردف قائلا: «الآن علي أن أعود إلى الصواب بعد أن عرفت أنني كنت على خطأ وأعترف باستقلال بلدكم..».

وبعد ستة أشهر من ذلك التاريخ، وتحديداً في 16 يوليو 1964، قمت بسفر مليء بالانفعالات القوية استقبلني على إثره الرئيس عبد الناصر في القاهرة الاستقبالَ نفسَه الذي خصص لكافة الرؤساء الضيوف المشاركين في المؤتمر..

ها أنا ذا إذن في قاهرة جمال عبد الناصر لأول مرة، والقلب مفعم نضالا ووطنيةً، مليء بمعاداة الاستعمار والإمبريالية التي تحاول طحن العرب والأفارقة.

ها أنا في القاهرة ضيفاً عليه في نفس الظروف وبنفس الرتبة مع باقي رؤساء الدول الأفارقة، إنها لحظات لا تنسى أبداً، تطفح بالمشاعر الجياشة والأحاسيس الغريبة!

وبعد ذلك استمرت لقاءاتي مع الرئيس جمال عبد الناصر مرة في السنة على الأقل..

وفي هذا المضمار أشير إلى أن عدم زيارته لموريتانيا التي تقررت منذ 1964 يعود حسب ما أعلن لي، إلى توتر الأوضاع في المنطقة التي كان فيها قطب الرحى، وكانت التهديدات الإسرائيلية بالاعتداء تمنعه من الابتعاد عن بلده، فقد أوضح لي سنة 1967 أنه لم يتمكن من الابتعاد عن مصر منذ ذلك الوقت إلا للتفاوض مع الاتحاد السوفييتي في مجال التعاون العسكري أو لدواع صحية.

وكنا نتفق في رؤانا بالنسبة لكثير من القضايا المطروحة حينها، وكان الاختلاف الوحيد بين رؤانا يتعلق بالسياسة الفرنسية في أفريقيا والمشرق. لقد كنا متفقين حول الأسس التي يتبناها في نقده للاستعمار الجديد الذي تمارسه فرنسا، وحول ما هو واقع من أن جل الطبقة السياسية في فرنسا تساند الصهيونية، ولم يكن الجنرال ديغول الذي كان عبد الناصر يكن له التقدير رغم كل شيء قد أعلن قولته الشهيرة «شعب واثق من نفسه ومسيطر» لأن حرب الأيام الستة لم تكن قد حدثت.

وفي 18 أكتوبر 1967 توقفت في مطار القاهرة وأنا في طريقي إلى الصين وكوريا الشمالية وكمبوديا، وكان الرئيس عبد الناصر في انتظاري وتحدّثنا ساعة كاملة كانت أشبه بعملية بوح أو بحديث النفس بالنسبة لمضيفي الكبير، حيث أكد بطريقة أخوية وصريحة ما كان قد نمى إلي من الأخبار. فقال لي إنه تأثر كثيراً بالهزيمة التي لحقته لكن موقف الشعب المصري الشجاع قوّى من عزيمته في ظروف مأساوية مؤلمة. وحدثني عن إحباطه الذي لا حد له أمام عجز قادة جيشهم وضعفهم وعدم وعيهم، وعن خيانة المارشال عبد الحكيم عامر الذي كان أقرب رفاقه ومعاونيه إليه، كما كان صديقه الحميم .

ولخص لي نقده الذاتي بعبارة قالها بصوت متهدج: «كانت تنقصني اليقظة».

وتابع البوح لي بما يكنه قائلا: «أود أن أصارحك كصديق بأنني قد تأثرت كثيراً بالموقف التضامني والأخوي الذي وقفه مني الملك فيصل وبدعمه السخي لنا، وهو الذي كنت أحاربه منذ زمن طويل في اليمن وفي كل مكان من الوطن العربي، وكنت أعدّه زعيم الإقطاعية العربية.. إن موقفه مني قد شد إزري في محنتي التي أجتازها».

وقد أثّر في هذا الحديث من طرف واحد تأثيراً لا مزيد عليه، ولم أتمكن من مقاومة الدموع إلا بصعوبة بالغة. ورغم كل ما حصل لم يصب الرئيس جمال باليأس، وقال: «لقد خسرت معركة ولكنني لم أخسر الحرب». ثم تطرق إلى أنه يعد لحرب الانتقام من إسرائيل يوماً ما. فكيف؟ سيكون ذلك بفضل التكوين المكثف وباكتساب الخبرات العالية في مجال الطيران بشكل خاص، والحصول على الأسلحة المتطورة. وقد تعهد الاتحاد السوفييتي بأن يمده بكافة الأسلحة المناسبة وبكل ما يحتاجه في مجال تكون الأطر.

ثم خاطبني قائلا: «أنتم ذاهبون إلى الصين وستقابلون صديقي شوين لاي الذي يأخذ عليّ ارتمائي في أحضان العدو اللدود للصين وهو الروس، وأطلب منك أن تشرح الأمور لهذا الصديق الذي استاء مني، وتخبره أنني لا يمكن أبداً أن أستغني عن الدعم الصيني مهما كان الدعم الذي ألقاه من خارجها، إنني أود أن يتفهم الصديق شوين لاي ظروفي وأن يساعدني عسكرياً واقتصادياً وديبلوماسياً».

وقد أبلغت هذه الرسالة وبكل ما هي أهل له من عناية، لرئيس وزراء الصين شوين لاي، ورحب بها، وأكد لي عبد الناصر ذلك أثناء توقف في القاهرة لمدة 24 ساعة يوم 7 نوفمبر 1968، وأنا في طريقي إلى دمشق، وأخبرني بأن وساطتي نجحت فشكرني وهنأني.

وكانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها الرئيس جمال عبد الناصر في 7 سبتمبر 1970، وأنا عائد من المؤتمر الثامن لمنظمة الوحدة الأفريقية المنعقد في أديس بابا، حيث وجه إلي دعوة لزيارة مصر من 5 إلى 7 سبتمبر 1970. وكان عليه أن يحضر هذه القمة، ولكنه لم يتمكن من ذلك في آخر لحظة فكلّف رئيس وفده بالاتصال بي وإبلاغي دعوته للمرور بالقاهرة إن أمكن ذلك قبل أن أتوجه إلى لوساكا لحضور القمة الثالثة للدول غير المنحازة.

وكان عبد الناصر خلال هذه الزيارة أكثر تودداً ولطفاً وحماساً من أي وقت مضى، وهكذا استقبلني مرتين: إحداهما في دعوة لعشاء بمنزله حضره معاونون والمقربون منه، كما حضره أعضاء وفدنا. أما اللقاء الثاني فكان مقابلة معه وجهاً لوجه، ثم زارني ثانية في قصر الضيافة حيث أقيم لنجري مقابلة خاصة أيضاً، وتحدثنا طويلا عن الموضوعات الاعتيادية التي كثيراً ما تحدثنا عنها؛ مثل منظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية والتعاون الأفريقي العربي وعدم الانحياز. وزيادة على هذا أسهب في الحديث إليّ عن المشاكل المصرية الداخلية والرد على إسرائيل.

وفيما يخص الموضوع الأخير بدا لي متفائلا، وقد منحه السوفييت كل الوسائل الضرورية لإعداد هذا الرد، وكان الأمر الذي يشغل باله أكثر هو الوقت الضروري للطيارين الذين سيكيلون لإسرائيل الصاع صاعين، وقد يتطلب ذلك فترة طويلة شيئاً ما. وكان هذه المرة مقتنعاً بأهمية الطيران وحسمه المعركة القادمة.

وسألته عما إذا كان لديه موعد محدد لبدء المنازلة والأخذ بالثأر، فأجابني بأن الاستعدادات تسير على ما يرام وبمساعدة من السوفييت، لكنه لا يستطيع تحديد الوقت الذي تبدأ فيه العملية ولو بشكل تقديري، إلا أنه يسعى لأن تبدأ المعركة خلال مدة قصيرة ليتمكن من مفاجأة العدو الإسرائيلي بالهجوم وإسرائيل ما تزال تعتقد عدم قدرته على الرد. وتأثرت كثيراً لما أعلمه من جسامة المشكلات الصعبة والخطيرة التي سيكون على صديقي الحميم أن يواجهها ويحلها ما دام اهتمامه منصباً على تحقيق النصر على العدو.

بعد هذا اللقاء بثلاثة أسابيع فاجأني نبأ تلك الفاجعة الأليمة، نبأ وفاته، ولا تسل عما أصابني من هم وغم لا يداينهما إلا ما حصل لي عند تشييع جنازته، حيث كانت مظاهر الحزن وجو الحداد بمصر تمزق الأكباد ومظاهر التأثر بالفاجعة لا تحتمل. وكان ذلك في 30 سبتمبر 1970.

لقد خسرت مصر ومعها العالم العربي وأفريقيا والعالم الثالث بأسره خسارة لا تعوض.

المختار ولد داداه/ «موريتانيا على درب التحديات»

 محمد ولد المنى