ذكرى انتفاضة 84 المجيدة الناصرية

مساء اليوم سيكون الناصريون فى وقفة وفاء لشهداء انتفاضتهم المجيدة 1984 والتى كانت نقطة تحول فى المشهد السياسي المحلي ونقلة نوعية فى تاريخ الكفاح القومي الناصري محليا فى سبيل هوية البلاد ولغتها والدفاع عن المصالح العليا لشعبها
وهذا مقال كتبته بنفس المناسبة قبل سنوات
///////////////

( الذكرى ال31 لأحداث 84 / عندما انتفض الناصريون ..!!
حبيب الله ولد أحمد
( 14 أبريل، 2015 )

ثلاثة أشهر كانت خاصة واستثنائية في التاريخ الموريتاني كله، ويتعلق الأمر بمارس، وابريل، ومايو، من العام 1984 يوم اهتزت الأرض الموريتانية تحت أقدام الرئيس السابق محمد خونه ولد هيداله، ونظامه القمعي، الذي أدخل البلاد مرحلة ضغط سياسي واقتصادي واجتماعي، كانت لابد أن تولد انفجارا

من أي نوع، وكذلك كان .

بالغ ولد هيداله في القمع والديكتاتورية والفساد ، فطحنت الظروف المعيشية السيئة عامة الناس، وتدنت خدمات التعليم والصحة، وانهار قطاع الزراعة، وتهاوت مرافق الدولة وخدماتها، وعمت البطالة، وتحولت البلاد إلى ثكنة عسكرية، وكلفت “الهياكل” الأمنية بالتجسس على الناس، ورفع تقارير عن أعناقهم وأرزاقهم، ودخل البلد عنق زجاجة ضيق حرج، وساءت الأمور على مختلف الأصعدة.

وكان واضحا أن البلاد بحاجة لثورة شعبية حقيقية لإزاحة النظام الهيدالي، أو على اقل تقدير لثنيه عن المضي قدما في دربه الموحش سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.

قال الناصريون “نحن لها”، مستعينين بجملة معطيات على الأرض، من أهمها ارتماء النخب السياسية ( الإسلاميون ، الشيوعيون) في أحضان النظام ومظاهرتها له، درجة استخدامها من طرفه لصب زيت الأوضاع المحلية على نارها، وانتشار الوعي القومي الناصري في صفوف الطلاب والمعلمين والأساتذة والعسكريين، وغيرهم ما جعل شوكة “التنظيم الوحدوي الموريتاني الناصري ( تومن ) ” تقوى بسرعة مع تمدده وانتشاره عبر العاصمة و مدن داخلية عديدة.
تفاقمت الأوضاع، وبلغ الاحتقان ذروته، وكان عود الثقاب أكثر قربا من الفتيل يوما بعد آخر.

امتلك الناصريون ـ ومن نهاية العام 82 ـ قيادات سرية تنظيمية، وواجهات قيادية علنية، مكنتهم من ترتيب أوراقهم وحساب كل المعطيات بدقة متناهية، بحثا عن لحظة الانطلاق في انتفاضة شعبية عارمة، كانت آخر حل لمواجهة نظام هيداله وما كرسه من أوضاع متردية في البلاد.

مطلع العام 84 كان الناصريون في أوج قوتهم و حركيتهم وميدانيتهم، ودخلواـ بقوة ـ معتركات العمل النقابي والتطوعي، عبر اتحاد الطلاب، واتحاد العمال، وعبر صرحهم الخالد “مدرسة الشهيد دندو” التي خرجت ـ رغم شح الموارد وقلة ذات اليد ومن أكواخ بدائية في الأحياء الفقيرة الطرفية بالعاصمة ـ عشرات المعلمين والأطباء والضباط والمهندسين، الذين فتحت لهم أبواب تعليم أغلقتها أمامهم السياسات الحكومية الظالمة.

كان الصدام مع نظام ولد هيداله مسألة وقت بالنسبة للناصريين، الذين سرعان ما جمعوا صفوفهم، وأرسلوا إشارات للنظام بأنهم قادمون، عبر شعارات جدرانية شهيرة تطالب بإنصاف الفقراء، وإنهاء الإقطاع، ودعم المزارعين، والالتفات للطبقات المسحوقة، وتعريب التعليم والإدارة، وإصلاح الاقتصاد والعدالة، وإعطاء الحرية للناس، كل الناس في التعبير عن آرائهم.

مارس 84 لبست العاصمة حلة حمراء من الشعارات الناصرية ( يختار الناصريون اللون الأحمر عادة لإعطاء شعاراتهم رمزية نضالية خاصة نظرا لما يميز هذا اللون الذي هو أولا وقبل كل شيء لون دم الشهداء الذين سقطوا عبر التاريخ دفاعا عن مبادئهم) فاحمرت جدران المدارس والمعاهد والمؤسسات والبنايات الحكومية في أبرز معاقل الناصريين يومها ” نواكشوط ” و” أطار” و” لعيون” و” مكطع لحجار”.

أثارت تلك الشعارات حفيظة النظام، فتحركت أجهزته الأمنية بسرعة لاعتقال ومطاردة نشطاء الحركة الناصرية، خاصة وأن نظام “الهياكل” أتاح لولد هيداله “بنك معلومات” استخباراتية حول كل ما يجرى في البلاد، فلم يكن من الصعب عليه التعرف ـ وبسرعة ـ على مصدر تلك الشعارات، بل حتى على بعض النشطاء الذين قاموا بكتابتها.
حملة الاعتقالات تلك لم تكن إلا مقدمة لانتفاضة شعبية عارمة، بلغت ذروتها مطلع ابريل 84 بخروج طلاب وتلاميذ المؤسسات التعليمية إلى الشوارع، رفضا لسياسات ولد هيداله، وتضامنا مع المعتقلين، وتناغما مع شعارات الانتفاضة، التي نظقت بها الجدران في كل المدن الموريتانية.

حدث الاحتكاك الذي كان منتظرا بين الناصريين ونظام ولد هيداله، وتشكلت قيادة سرية للانتفاضة، حركت الشارع بسرعة لافتة، ونجحت في استقطابه وتجميعه حول شعارات تلك المرحلة.

جن جنون النظام، فحرك ـ مع مخابراته وجواسيسه ـ كل مؤسسته العسكرية والأمنية، ليحاصر المدارس، ويغلق الشوارع، ويزج بالآلاف في سجون سرية وعلنية، ودخلت البلاد منعطفا حاسما على وقع غليان شعبي غير مسبوق، كان أول تعبير للناصريين الموريتانيين عن أنفسهم وجودا وقوة وتنظيما وقدرة على تحريك الشارع، ولا أدل على ذلك من بياناتهم اليومية طيلة فترة الانتفاضة، والتي كانت بمثابة “إيجازات” صحفية تواكب مسار الانتفاضة، وتصدر للعلن رغم المطاردة والسجن والتضييق، ويتولى شباب متمرس مهمة توزيعها، حتى في أماكن ملأها هيداله حرسا شديدا وشهبا.

لم تكن الانتفاضة لتسير إلا على درب معمد بالدم مضمخ بالدموع، موشى بالعرق، ومسجى بالمعاناة، وهو أمر كان الناصريون يعرفونه جيدا، بل كانوا مستعدين له وبقوة تحمل لا نظير لها.

أظهرت الانتفاضة الناصرية هشاشة نظام ولد هيداله وارتباكه، وأسقطت القناع عن وجهه القمعي الدموي البغيض، فضاقت معتقلات البلاد بزهرة شباب الناصريين من تلاميذ وأساتذة، وطلاب ومهندسين، وعاطلين عن العمل وغيرهم من الفئات المهنية والاجتماعية في البلاد.

كان التعذيب وسيلة قمعية اعتمدها ولد هيداله باحترافية، وحسب آخر صيحاتها في العالم، فأطفأ أعقاب السجائر وأعواد الثقاب في أجساد المعتقلين، واقتلع أظافر وعيون البعض منهم، أما الصعق و”الجغورة” والغمر بالمياه، والدفن في الحفر القذرة الواطئة، وانتزاع الاعترافات بالإكراه البدني، فكانت أكثر ممارسات هيداله “إنسانية” في حق الناصريين الذين اختفى منهم العشرات مفقودين مطاردين منبوذين، وأصيب الكثيرون منهم إصابات بدنية ونفسية بالغة، قبل وأثناء وبعد التعذيب الهمجي لتبلغ التضحية ذروتها بسقوط المهندس سيدي محمد لبات، والتلميذ أحمد محمد محمود شهيدين تحت أقدام وسياط جلادي هيداله، وفى زنزاناته الضيقة المظلمة السيئة الصيت في نواكشوط وأطار.

نجح هيداله ـ ولأسباب وجيهة ـ في فرملة الانتفاضة الناصرية، وهو الذي حرك كل مؤسساته العسكرية والأمنية والمدنية، لقمع الانتفاضة التي ضربت نظامه في الصميم، ودقت المسمار الأبرز في نعشه، ما جعله يلجأ لمسرحيات سخيفة، استخدم فيها وسائل إعلامه ومخابراته للظهور لرأي عام وطني لفظه واكتشف دمويته، بمظهر ضحية لمؤامرة خارجية، تستهدف البلاد كلها، وليس نظامه فقط ( الجميع يعرف أن كل شعارات وأهداف الانتفاضة كانت وطنية صرفة).

والواقع أن نتائج الانتفاضة أظهرت أن الناصريين ـ وإن تلقوا ضربة لم يجتمعوا بعدها أبدا من طرف هيداله وعساكره ـ نجحوا في التعجيل برحيل نظام هيداله الذي لم يعمر بعد الانتفاضة ـ التي خرج منها عاريا مهزوزا مرتبكا ـ أكثر من 7 أشهر حيث أطيح به في انقلاب 12/12/84 من طرف رفيقه في السلاح معاوية ولد الطايع الذي بادر بإفراغ السجون غداة تسلمه للحكم، فخرج الناصريون من السجون، مثخنين بالجراح، و بصفوف مهزوزة، وخطط مرتبكة، وقيادة جريحة، وقد ودعوا رفاقا وإخوة، بعضهم سقط شهيدا في زنزانات القمع، وآخرون تفرقو ا أيدي سبأ، ضاربين في الأرض، مطاردين ومشردين، وآخرون خرجوا بإعاقات بدنية ونفسية، وضعت حدا لقدرتهم على مواصلة العمل السياسي، والكثيرون دفعهم الإحباط وكثرة الجراح إلى الذوبان في “أغلبية الصمت” العريضة .
اليوم وبعد 31 عاما على تلك الانتفاضة المباركة سيجد الكثيرون متسعا من الوقت للإجابة على أسئلة ظلت معلقة عقودا من الزمن:

هل كان سقوط نظام هيداله أكبر وأبرز وأهم أهداف انتفاضة الناصريين .. ؟!!

لماذا تقاعست النخب السياسية يومها عن دعم الانتفاضة وتوسيعها لتشمل رفض كل الأنظمة العسكرية المتعاقبة ..؟!!
هل انتهت الانتفاضة بضربتين قاضيتين متزامنتين إحداهما تلقاها نظام هيداله والأخرى تلقاها التيار الوحدوي الناصري في موريتانيا وكان للضربتين ما بعدهما بالنسبة لولد هيداله والتيار الناصري ..؟!!
أين الناصريون اليوم ..؟!!

وهل أصبحوا ـ بعد كل ذلك التاريخ الجميل و بأعدادهم الضاربة الموزعة على كل الأحزاب الوطنية ـ مجرد “غثاء”، ولماذا عجزوا عن تجميع صفوفهم وتوحيد كلمتهم ؟!!

وهل مازالت “الكلاب البوليسية” باسطة أذرعها بوصيد “كهفهم” الذي استمرأوا النوم فيه إلى أجل غير مسمى ومنذ مؤتمر “بوحديده” الشهير وما نجم عنه من “تشرذم ” غيب الناصريين عن المشهد السياسي الوطني و منذ 20 عاما خلت .. ؟!! )

حبيب الله ولد أحمد
( 14 أبريل، 2015 )