تعليم عملي.. يصالح بين الأصالة والانفتاح

نشأت اللجنة الوطنية للشؤون الثقافية بقرار من «مؤتمر العيون» في يونيو 1966، وافتتحت أعمالها في 18 يوليو التالي. وفي خطاب الافتتاح الذي أعلنتُ فيه عن ضرورة إعادة بناء الشخصية الموريتانية بصورة خالية من التعصب ومن كراهية الغير، قمت بتبيان مواضيع كان قد تم تفصيلها في العجالة التي تتعلق بالمسألة الثقافية المشار إليها آنفاً.

وقد عينت هذه اللجنة في جلستها الأولى لجنة فرعية مكلفة بالتوثيق تتكون

من: سك مام انجاك ومحمذن ولد باباه وبارو عالي ومحمد المختار ولد اباه وأحمد

بن أعمر وبارو عبد الله وعبد الله ولد مولود ولد داداه. وكلفت هذه اللجنة الفرعية

بدراسة الوضعية القائمة آنذاك واستخلاص التصورات المستقبلية، وبجمع الوثائق عن

الأنظمة المعمول بها في الدول التى تشبه أوضاعها أوضعنا.. إلخ.

وفي 15 سبتمبر1966 قدمت اللجنة الفرعية تقريرها إلى اللجنة الوطنية للشؤون الثقافية، وقررت هذه الأخيرة إسناد مهمة القيام بدراسة معمقة لهذا التقرير إلى لجنة فرعية فنية جديدة مكونة من: بوبكر فال ومحمذن ولد باباه واليمان كان وبا الحسن ومحمد المختار ولد اباه وسيدي محمد الملقب الديين وعبد الله بارو وسالم فال.

وفي 18 فبراير 1967 قدّم إليّ وزير التهذيب الوطني اعلي ولد علاف ا‏لتقرير النهائي للجنة الوطنية للشؤون الثقافية التي كان رئيسَها. وأهم المقترحات التى ركز عليها هذا التفريرهي البحث الدائب عن الفاعلية والعدالة في التعليم، وعن بناء الشخصية بصورة خالية من التعصب وكل أنواع كراهية الغير، وأخيراً البحث الذي لا ينقطع عن دعم الوحدة الوطنية وتقويتها. ونصح التقرير بألا ينقطع الطفل عن وسطه. واقترح في النهاية اعتماد الازدواجية الفرنسية العربية.

وقد صادق المكتب السياسي الوطني في اجتماعه أيام 18-16 مايو على ذلك التقرير مع بعض التعديل، وقرر أن الإصلاح المقترح ينبغي أن يبدأ العمل به عند الافتتاح الدراسي التالي في أكتوبر 1967، وعيّن لجنة للبرامج والكتب المدرسية، ووافق على إنشاء قطاع للثقافة لنشر كل النصوص الرسمية باللغتين العربية والفرنسية. وأوصى المكتب السياسي الوطني الحكومة بمتابعة مسألة ترسيم اللغة العربية بعناية وتطبيقها تطبيقاً عملياً ينطلق من الحقائق الموضوعية.

تلكم هى مقترحات ذلك التقزير التى استوحينا منها سياستنا التربوية والثقافية حتى يوليو 1978. وقد كانت هذه المقترحات بشكل خاص أساس الإصلاحين الجوهريين اللذين تما سنة 1967 وسنة 1973 واللذين كانت غايتهما النهائية بناء الشخصية الثقافية الموريتائية.

وكان على نظامنا التربوي هذا أن يمكننا من «وضع أسس جديدة لقيم وطنية مستوحاة من تراثنا التاريخي والديني والثقافي، تمكننا مستقبلا من خلق انسجام بين مثل شعبنا الإسلامية والتقنيات المعاصرة المتطورة التي لا مجال للبقاء بدونها..»، وباختصار المصالحة بين الأصالة والانفتاح.

وقد أوصى ذلك الإصلاح في خطوطه العريضة بما يلى:

أولا: فيما يتعلق بالتعليم الأساسي:

- إضافة سنة تمهيدية أولى باللغة العربية، مما رفع مدة التعليم فى هذه المرحلة من ست سنوات إلى سبع. ويراد من هذه السنة التمهيدية تقديم أسس النطق السليم باللغة العربية للطفل في سن مبكرة من ناحية، ومن ناحية أخرى تقديم تربية دينية (إضافة إلى مبادئ القراءة والكتابة) ضرورية لمواجهة اجتثاث الجذور الثقافية الذي كنا نخشاه دوماً.

- إنشاء مراكز تُعنى بالدراسات الريفية يوجَّه إليها كافة التلاميذ الذين لم يوفَّقوا فى مسابقة الالتحاق بالتعليم الثانوي النظامي، ويخشى عليهم أن يصبحوا فى عداد العاطلين الفعليين. وينبغى أن يتلقى التلاميذ فى هذه المراكز تعليماً يستند في الأساس على الأنشطة الاقتصادية فى ولاياتهم وأن يتعودوا على العمل اليدوي والأشطة التعاونية.

وسيجد خيار الازدواجية تجسيده العملي فى المستقبل المنظور عبر تقنين وتوحيد الشهادات العربية والفرنسية.

ثانياً: في ما يتعلق بالتعليم الثانوي الذي لا يعدو كونه نتيجة منطقية لإصلاح التعليم الأساسي، فإن إصلاحه الشامل لا يمكن أن يتم فوراً. إلا أنه فى انتظار ذلك أدخلت بعض التعديلات على بدرامج المرحلة الإعدادية حيث زاد التوقيت المخصص للغة العربية، وتم تغيير برامج التاريخ والجغرافيا.

وتجدر الإشارة إلى أن جزء الإصلاح المتعلق بمراكز الدراسة الريفية، رغم أصالته وأهميته البالغة، لم نتمكن مع الأسف من تطبيقه لعدم توفر الوسائل البشرية والمادية والفنية.

أما الإصلاح الثاني المعروف بإصلاح 1973 والمستوحى من التجربة التونسية، فقد تضمن في خطوطه العريضة فيما يتعلق بالتعليم الأساسي الذى قُلصت مدته من سبع سنوات إلى ست، تعريبَ السنتين الأوليين تماماً، بينما كانت مقررات السنتين المواليتين باللغة الفرنسية أساساً واقتصر تعليم اللغة العربية فيهما على الحفاظ على المعارف المكتسبة فى السنتين الأوليين. أما السنتان الأخيرتان من التعليم الأساسي فهما مزدوجتان تماماً. وبذلك يفترض أن يكون التلاميذ مزدوجين عند دخول المرحلة الثانوية، وأن يدخِلوا إليها الازدواجية الحقيقية ابتداءً من السنة الأولى إعدادية.

وعلى الرغم مما اعترى هذه السياسة التعليمية والثقافية الجديدة من ضعف ونواقص لا محيد عنها، بسبب نقص الكادر البشري المؤهل والوسائل المالية والفنية، فقد كانت تسير على النهج الصحيح.

أما بالنسبة للتعليم العالي فقد عدلنا عن نظام الجامعات الفرنسي القديم ذي الكلفة الباهظة وغير الملائم لحاجات بلدنا من الإطارات العليا، وتبنَّينا بدلا منه نظام معاهد الدراسات العليا التي تقدم تكويناً تطبيقياً يركز على النواحي العملية أكثر مما يركز على الجوانب النظرية، ويكون خريجوه قادرين على ممارسة العمل بشكل مباشر وفي مختلف مجالات الحياة الوطنية.

وهكذا كان على المعهد العالي للعلوم التربوية أن يكون امتداداً للمدرسة العليا لتكوين الأساتذة التي تم إنشاؤها في سبتمبر 1970، وظلت حتى عام 1975 خاصة يتكون أساتذة المرحلة الأولى من التعليم الثانوي ومدتها سنتان. وفي سنة 1976 بدأت نظامها في تكوين أساتذة المرحلة الثانية من التعليم الثانوي على أربع سنوات.

أما المعهد الجامعي للاقتصاد والتسيير فسيحل محل المدرسة الوطنية للإدارة التي أُعدت لتكوين إداريين وقضاة ودبلوماسيين واقتصاديين. وكان من المفروض أن تكتمل دراسة وإنشاء المعهد الجامعي للهندسة ما بين 1977 و1978، وهي دراسة معقدة بسبب ما عنّ من صعوبة لتحديد التجهيزات الضرورية لإنشائه. وكانت دراسة إنشاء المعهد الجامعي للزراعة مسجلة ضمن الخطة الثالثة (1976 -1980)

أما المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الممول من لدن المملكة العربية السعودية، فقد كان من المتوقع أن ينتهي بناؤه عام 1978.

وبذلك فإن بوادر الجامعة الموريتانية الحديثة كانت في وضع متقدم. وكان من المقرر أن تبدأ هذه المعاهد افتتاح السنة الدراسية في اكتوبر 1978.

وموازاة مع إصلاح التعليم العام، كان الحزب والحكومة يدركان أهمية تعليمنا التقليدي الذي تشكل بفضله موروثنا الثقافي العربي الإسلامي وتم الحفاظ عليه. ولذلك قررنا السعي إلى تحديث هذا التعليم ليستمر ويبقى مشعلا ثقافياً ينير منطقة غرب أفريقيا كلها. وهكذا طُلب من العلماء المشرفين على هذه الجامعات البدوية (المحاضر) إدخال بعض المواد مثل الرياضيات والتاريخ والجغرافيا في برامج هذا التعليم. ومن هذا المنطلق مُنحت إعانات سنوية لأهم محاضر البلد، وكذلك لبعض المدارس القرآنية مثل مدرسة ابن عامر. ونظراً للأهمية التي نوليها لتعليمنا التقليدي، واعتباراً لشح الموارد التي يمكن لميزانية الدولة أن تضعها تحت خدمته، فقد اقترحت الحكومة على البنك الدولي برنامجاً تجريبياً لتحديث هذا القطاع، فوافق على تمويله. وفي يوليو 1978 كانت هذه التجربة بدأت وشملت نحو 20 محضرة في الولايات الرابعة والسادسة والثانة عشرة ومنطقة نواكشوط.

المختار ولد داداه/ «موريتانيا على درب التحديات»

٣