في الأيديولوجيا ومآلاتها/د.يوسف مكي

الأيديولوجيا، في أصلها الفرنسي، تعني علم الأفكار، لكنها ربطت لاحقا، باليوتوبيا. وحسب بول ريكور، ظلت المزاوجة قائمة بين المفهومين، على الرغم من انتماء الآيديولوجيا، إلى علم الاجتماع والسياسة، بينما تنتمي اليوتوبيا إلى التاريخ والأدب. لكن ريكور وضع مقاربة أخرى للمفهومين، ربط بها الآيديولوجيا مع الواقع والعلم، بينما نظر إلى اليوتوبيا باعتبارها حلما أو خيالا دالا على رغبة.
في التراث السياسي العربي، ارتبطت الأيديولوجيا بنشوء الحركات السياسية وبمبادئها. وهي في هذا السياق، تشير إلى منظومة فكرية أو عقيدة، أو ذهنية. وقد استخدمت بالسنوات الأخيرة، بعد سقوط الحرب الباردة باعتبارها دوغما. بمعنى آخر، باتت الأيديولوجيا في الأدب السياسي العربي، لما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تعني التعصب لفكرة ما، ورفض ما سواها من الأفكار. وأحيان تحيل إلى التعصب العقائدي، وهي بهذا المعنى رديفة  للتحيز. فيقال على سبيل المثال، أن فلانا من الناس، ينظر إلى الأمور نظرة آيديولوجية، بمعنى أنه يؤول الوقائع، بكيفية تظهرها مطابقة لما يعتقد أنه الحق.
لكن الأمر كما أشرنا، لم يكن كذلك، أثناء حقبة انتعاش الحركات القومية واليسارية، حيث كان مريدو تلك الحركات، يفاخرون بانتماءاتهم، ويدافعون عنها، ويرون أنها وسيلة تحقيق التطور والتقدم في مجتمعاتهم. إلا أن ذلك لم يكن دائما موضع إجماع، فقد كان هناك أناس مناصرون للآيديولوجيا، باعتبارها نظرة شاملة للكون و موقف من الأشياء، وبين معارضين، يرونها معوقا للانطلاق نحو عالم وفكر أرحب.
وفي هذا الاتجاه، يرى نديم البيطار، أن هناك بنية أساسية واحدة، تعيد ذاتها في جميع الآيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب، سواء كانت دينية أو علمانية، تعيد ذاتها في فكرة المجتمع الجديد التي قالت بها المذاهب السياسية والآيديولوجيات الجديدة. عربيا أعادت إنتاج ذاتها فيما يعرف بالإسلام السياسي.
وحسب البيطار، فإن الآيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب يمكن اختزالها في نمطين. نمط ميتافيزيقي، يجد الحقيقة النهائية خارج التاريخ، وأخر يجد الحقيقة في التاريخ. ورغم الاختلاف بين النمطين، فإنهما يعودان إلى بنية أساسية واحدة، تعيد ذاتها، في وضع تاريخي متشابه.
ومن وجهة نظرنا، فإن توصيف الأيديولوجيا بالإنغلاق، هو قول غير تاريخي، ذلك لأن الصراع بين الأفكار، هو حالة تاريخية. هناك صراع فكري مستمر، بين رؤيتين: رؤية منفتحة وأخرى منغلقة. وقد كان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية، كما هو أيضا مع العقائد والمذاهب الدينية. والأفكار هي في النهاية استجابة وتعبير عن واقع موضوعي، ترتقي في لحظات النهوض، وتتراجع في لحظات الضعف.
كهذا كان التاريخ دائما، منذ القدم. فالإبداع والمبادرة رديفان للتقدم والنهوض، والجهل والتعصب رديفان للجهل والتخلف. وقد شهد سقوط الحضارة اليونانية، بروز الفلسفة الإبيقورية واللا أدرية، التي ارتبطت بسقوط أثينا، وبروز فلسفات مهزومة تدعو إلى التعويض باللذة بدلا عن العمل. كان ذلك نقيض فلسفة سقراط وأرسطو وأفلاطون، الفلسفات التي برزت وانتعشت أثناء توهج حضارة الإغريق.
ولم يكن الأمر بعيدا عن ذلك في الأفكار التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية، بعد الفتنة الكبرى، وخلال العهدين الأموي والعباسي. وليس كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي، وتهافت التهافت، لابن رشد سوى تعبير عن صراع الأفكار، في اتجاه نظرية الدورة التاريخية، وانسحابها على الفكر أيضا.
في التاريخ العربي المعاصر، نشأت الآيديولوجيات السياسية، كانعكاس لأفكار تلاقحت مع الفكر الإنساني العالمي، وتماهت مع شعاراته. وكانت حركة اليقظة العربية، قد تأثرت بشعارات الحرية والاستقلال، وطمحت في الخلاص من السيطرة العثمانية، مؤسسة لهوية عربية معاصرة، تتسق مع الأفكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى، في القارة الأوروبية. وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية عصرية، بدت الأبواب مفتوحة لحركات الإسلام السياسي.
على المستوى الدولي، ورغم الضجيج العالي، حول نهاية الأيديولوجيا، لكن ذلك زيف كشف عنه الترويج للثقافة الواحدة، والفكرة الواحدة وللنظام الواحد، والشعارات المتلفعة بالحرية والديمقراطية، بأنماطها الرأسمالية المختلفة، ولن يطول مهرجانه.
في الصين درس المؤتمر الشيوعي الأخير، أهمية حضور العقيدة الشيوعية، العالمي، ونشر الفكر الأشتراكي، بنسخته الصينية، على مستوى العالم لأن ذلك سيسهم في تعضيد قوة الصين الاقتصادية. ولن يكون بعيدا اليوم، الذي تكون فيه العقيدة الصينية قادرة على التنافس مجددا مع العقيدة الرأسمالية، يعاد فيه للأيديولوجيا، حضورها بالوطن العربي. فقد كنا باستمرار، مستهلكين لكل شيء، وسنظل كذلك، ما بقينا صدى واهنا، وغير فاعل في  للتحولات الفكرية التي تجري في هذا العالم.