مستقبل الروبوتات في حياتنا

قلم: ديفيد بيربي

ذا كنت كمعظم الناس، فالأ جح أنك لم تلتق قَطّ روبوتًا من قَبل. لكنك ستفعل. أما أنا فقد التقيتُ روبوتًا ذات يوم عاصف ومشرق من أيام يناير 2020، في البراري ذات العشب القصير على مقربة من حدود ولايتَي كولورادو وكانساس. رافقني يومَها رجلٌ رشيق من سان فرنسيسكو، اسمه "نواه ريدي- كامبل" وعمْره 31 عامًا. صوب الجنوب، امتدت توربينات الرياح لتعانق الأفق في صفوف غير متراصة، كجيش صامت من عماليق ذوي أذرع ثلاث لامعة. وكانت أمامي حفرةٌ ستُشكل فيما بعد الأساس لإنشاء توربين آخر. هنالك كانت آلة حفر من طراز "كاتربيلر 336" تحفر تلك الحفرة، بقُطر 19 مترًا، وجدران تنحدر بزاوية 34 درجة، وأرضية تكاد تكون مستوية على عمق ثلاثة أمتار. وكلما أزاحت الآلة ترابًا، راكمته بعيدا عن الطريق ثم ما تلبث أن تنشئ ركامًا جديدا كلما اقتضى الأمر ذلك. تطلبت كل عملية رفع ومراكمة تحكمًا صارمًا في آلة الحفر -البالغ وزنها 37 طنا- وقرارتٍ رصينة. ويكسب مُشغِّلو هذه الآلات المَهرَة في أميركا الشمالية راتبًا سنويا قد يبلغ 100 ألف دولار.
لكنّ مَقعد المُشغِّل البشري كان شاغرًا في هذه الآلة. إذ كان مُشغّلها في أعلى سطح الكبينة، بلا يَدَين، وبثلاثة كابلات سوداء ملتوية تصله مباشرة بنظام التحكم بالآلة. لم يكن ذا عيون ولا آذان، بل كان يستخدم الليزر ونظام "جي. بي. إس." وكاميرات فيديو ومِجسَّات تُقَدِّرُ اتجاه جسمٍ ما في المكان لإنجاز العمل. سار "ريدي- كامبل"، المؤسس المشارك لشركة (Built Robotics) في مدينة سان فرنسيسكو، بخطوات متثاقلة وسط الأتربة الخشنة، واعتلى آلة الحفر ثم فتح حاملة الأمتعة الأنيقة المثبَّتَة على السطح. هناك، كان منتَجُ شركته: جهاز وزنه 90 كيلوجراما يُنجز عملًا كان فيما مضى يتطلب يَدَ الإنسان. أشار الرجل إلى مكوّنات الجهاز -لوحات دارات وأسلاك وصناديق معدنية- ثم قال: "ههنا يشتغل الذكاء الصناعي"؛ إذ تقوم المجسات بالرصد، وتتكفل الكاميرات بالرؤية، وترسل وحدات التحكم أوامرها إلى آلة الحفر، فيما تتيح أجهزة التواصل للبشر مراقبة العملية. أما المعالِج فيتخذ -بفضل الذكاء الصناعي- القرار الذي قد يتخذه السائق الإنسان. يقول: "يتم تمرير إشارات التحكم إلى حواسيب عادةً ما تستجيب لمقابض التحكم والدواسات في الكبينة". حَلمتُ وأنا طفل في القرن العشرين أن أكبر وألتقي روبوتًا، توقعته على هيأة إنسان ويتصرف على شاكلته، مثل (C-3PO) في فيلم "حرب النجوم". لكـن الروبوتـات الحقيـقية الـتي كـانت تُنـتَـج في المصانع كانت مختلفة تمامًا عن تصوراتي تلكَ. واليوم، تُركِّب ملايين من هذه الآلات الصناعية البراغيَ وتُنجز أشغال التلحيم والطلاء وغيرها من المهام المتكررة في خطوط التجميع. وعادة ما تُسَيَّج حفاظًا على سلامة البشر المجاورين لها؛ لا غرو أن "أندريا توماس"، عالمة الروبوتات في "جامعة تكساس"، تسمي تلك الآلات بالعمالقة "البُكم المتوحشين".

لم يكن جهاز ريدي-كامبل من ذلك النوع (رغم انطباع عبارة على جانب آلة الحفر تقول: التزم الحذر! مُعدّات روبوتية تتحرك من دون سابق إنذار)، وبديهي أنه لم يكن على شاكلة (C-3PO). بل كان ضربًا جديدا من الروبوتات، أقل ما يكون شبهًا بالبشر، رغم ذكائه ومهارته وقدرته على التنقل. لقد باتت هذه الأجهزة، النادرة فيما مضى والمصمَّمة "للعيش" والعمل مع أشخاص لم يلتقوا قَط روبوتًا، تقتحم بثبات مضامير الحياة اليومية. إذ صارت الروبوتات -ونحن في عام -2020 تقوم بجرد السلع وتنظيف الأرضيات في أسواق "وول مارت"، وترتب السلع على الرفوف وتجلبها من أجل الإرسال في المستودعات. وأضحت تقطع الخس وتقطف التفاح، بل والتوت أيضا، وتسهل للأطفال المتوحدين مخالطة المجتمع، وتساعد مرضى السكتات الدماغية على استعادة وظائف أطرافهم، وتقوم بدوريات لمراقبة الحدود، وتهاجم أهدافا تراها معادية كما هو حال الدرون "هاروب" الإسرائيلية. كما باتت تصفف الأزهار، وتؤدي المراسيم الدينية والعروض الكوميدية.. وغير ذلك. كان ذلك قبل جائحة "كورونا". وفجأة، صار استبدال الروبوتات بالبشر -الفكرة التي لطالما كرهها جل الناس عبر العالم، وفقًا لاستطلاعات الرأي- أمرًا حكيما، بل لازمًا، من الناحية الطبية. إذ باتت الروبوتات اليوم تُسلّم الطعام في مدينة "ميلتون كينز" بإنجلترا، وتنقل الإمدادات في أحد مستشفيات مدينة دالاس، وتُطهّر غرف المرضى في الصين وأوروبا، وتَذرع منتزهات سنغافورة لتنصح الناس بالحفاظ على التباعد الاجتماعي.
وفي خضم انهيار الاقتصاد العالمي في ربيع عام 2020، قال لي صُنّاع الروبوتات الذين كنت قد اتصلت بهم عام 2019 حين شرعت في إنجاز هذا التحقيق، إنهم باتوا يتلقون مزيدًا من الطلبات من عملاء محتمَلين. وأخبرني ريدي-كامبل في شهر مايو أن الجائحة جعلت مزيدًا من الناس يدركون حقيقة مفادها أن "الأتمتة ستكون جزءا من العمل. ودافعُ ذلك النجاعة والإنتاجية، ثم انضاف الآن دافع جديد يتعلق بكل من الصحة والسلامة". وحتى قبل أن تضفي أزمة "كورونا" زخمها، كانت التوجهات التقنية تسرِّع إنتاج روبوتات قابلة لاقتحام مناحي حياتنا؛ إذ أصبحت القطع الميكانيكية أخف وأرخص وأقوى، وتمكن علم الإلكترونيات من تجميع مزيد من قوة الحوسبة في حزم صغيرة. ومكنت الابتكاراتُ المهندسينَ من إدماج بيانات قوية في أجسام الروبوتات، وأتاح تحسن التواصل الرقمي حِفظ "أدمغة" بعض الروبوتات في حاسوب بمكان آخر؛ أو توصيل روبوت بسيط بمئات الروبوتات الأخرى، ما يسمح بخلق ذكاء جماعي، على شاكلة خلية نحل. يقول "آتي هينلا" إن مقر العمل في المستقبل القريب "سيكون بيئة يُجاور فيها البشرُ الروبوتاتَ لزيادة النجاعة". وكان هينلا قد شارك في تأسيس منصة "سكايب" للاتصال عبر الإنترنت، وهو اليوم المؤسس المشارك ورئيس القسم التقني لدى شركة (Starship Technologies) التي تذرع روبوتاتها ذات العجلات الست والحركة الذاتية، مدينةَ ميلتون كينز ومدنًا أخرى في أوروبا والولايات المتحدة، حيث تسلّم الطلبات. تقول "مانويلا فيلوسو"، عالمة الروبوتات العاملة بالذكاء الصناعي، لدى "جامعة كارنيجي ميلون" في بيتسبرغ: "لقد اعتدنا امتلاك آلات ذكية نحملها معنا حيثما ذهبنا". رفعت هاتفها الذكي ثم استطردت قائلةً: "والآن سيكون علينا أن نعتاد ذكاءً له جسم ويتحرك من دوننا". خارج مكتب فيلوسو، تذرع روبوتات فريقها المتعاونة ردهةً تلو ردهة، وترشد الزوار، وتنجز الأعمال الإدارية. تبدو كأجهزة "آيباد" على حواملِ عرضٍ ذات عجلات، لكنها تتحرك من تلقاء نفسها، بل تستقل المصاعد إن دعت الضرورة (إذ تُصدر صفيرًا ووميضًا لتستأذن أي شخص اقترب منها ليضغط على الزر). تقول فيلوسو: "لا مناص أننا سنتملك آلات ومخلوقات صناعية ستشكل جزءا من حياتنا اليومية. وحين يبدأ المرء بتقبل الروبوتات من حوله، كنوع ثالث إلى جانب الناس والحيوانات الأليفة، فإنه يُعرب بذلك عن رغبته الارتباط بها". سينبغي لنا جميعًا معرفة طرائق ذلك. تقول فيلوسو: "على الناس أن يفهموا أن هذا ليس خيالا علميا؛ وليس شيئا سيحدث بعد عشرين عامًا من الآن. لقد بدأ بالفعل".

يُحب "فيدال بيريز" زميلَه الجديد في العمل.
يبلغ بيريز من العمر 34 عامًا، ويعمل منذ سبعة أعوام في "مزارع تايلور" في كاليفورنيا، ودأب على استعمال سكين طولها 18 سنيتمترًا لتقطيع الخس. كان ينحني مرارًا وتكرارا على مستوى الخصر في الحقل ليقطع رؤوس أنواع الخس ويزيل الأوراق التالفة ويلقي بها في سلة. لكن منذ عام 2016 عُهِد بعملية التقطيع إلى روبوت: حصَّاد يشبه الجرّار، طوله 8.5 متر، يتحرك بثبات بين صفوف الحقل وسط سحابة من ضباب ناجم عن نفاثة مياه ذات ضغط عالٍ، يستعملها لقطع رؤوس الخس كلما استشعرتها مجساتُه. يقع الخس المقطوع على حزام مائل يحمله إلى منصة الحصاد، حيث يتولى فريق من نحو 20 عاملا فرزه في صناديق. قابلتُ بيريز في وقت مبكر من صباح أحد أيام يونيو 2019، حين كان يأخذ قسطا من الراحة بعد العمل في حقل خس مساحته تسعة هكتارات يخصص إنتاجه لزبائن "مزارع تايلور"، من مطاعم وجبات سريعة ومحلات بقالة. على بعد بضع مئات من الأمتار، انحنى طاقم آخر من قُطاع الخس على النباتات، ولمعت سكاكينهم وهم يعملون وفق الأسلوب السابق لعهد الروبوتات. يقول بيريز: "الآلة أفضل، لأن المرء يتعب أكثر من جراء قطع الخس بسكين". يَركب على الروبوت، ويُدير الصناديق على الحزام الناقل. لكنه يقول إن النظام الجديد لا يلقى رضى جميع العمال؛ "فبعضهم يحبذ الإبقاء على عمله التقليدي؛ وبعضهم يمل من الوقوف على الآلة، إذ اعتاد الحركة خلال الحقل طوال الوقت".
تُعد "مزارع تايلور" إحدى أولى كبريات شركات كاليفورنيا التي تستثمر في الزراعة الآلية. حدثني "مارك بورمان"، رئيس فرع المَزارع في كاليفورنيا، ونحن نستقل شاحنته خارجين من الحقل، فقال: "إننا نمر بتغير أجيال .. في الزراعة". فمع مغادرة العمال المُسنّين، يعزف الشبان عن شَغل الوظائف الشاغرة. ويزيد من سوء الوضعِ القيودُ المفروضة على الهجرة عبر الحدود، التي تشددت أكثر بسبب ما صاحب الجائحة من مخاوف. ويقول بورمان إن الزراعة عبر أرجاء العالم تشهد دخول الأتمتة. "نحن ننمو، فيما قوتنا العاملة آخذة في التقلص؛ لذلك فإن الروبوتات تقدم فرصة لكلينا". وفي عام 2019، ظللتُ أسمع من أصحاب المشروعات في مجالات الزراعة والبناء والصناعة والرعاية الصحية، لازمةً مفادها أنهم يسندون المهام إلى الروبوتات لأنهم لا يعثرون على أشخاص للقيام بها. في موقع مزرعة الرياح في كولورادو، أخبرني مسؤولو شركة الإنشاءات (Mortenson)، التي تُشغّل ربوتات البناء منذ 2018، عن نقص حاد في عدد العمال المهرة بهذا القطاع. فلا عجب إذن أن الروبوتات قامت بحفر 21 أساسا في تلك المزرعة. قال "ديريك سميث"، الرجل النحيف الذي يشغل منصب مدير قسم الابتكارات لدى الشركة: "سيقول العمال أشياء من قبيل: 'مهلًا، ها قد أقبل قتَلَة الوظائف'. لكن بعدما يرون أن الروبوت يتولى كثيرا من الأعمال المتكررة ويظل لديهم عمل كثير ليقوموا به، فإن الأمر يتغير بسرعة كبيرة". ما إن انتهى الروبوت من أعمال الحفر التي شاهدنا، حتى أقبل أحد العمّال بجرافة ليُنهي العمل ويهيء المنحدرات. هنالك قال سميث: "في هذا العمل، لدينا 229 أساسا، وكل واحد منها بالمواصفات نفسها تقريبا. نريد التخلص من المهام المتكررة، ليركز عمالنا فيما بعد على المهام التي تنطوي على إبداع أكبر".
أَخبرني صُناع الروبوتات ومُستخدِموها أن سيل فقدان الوظائف الذي تلا الجائحة لم يغير هذه النظرة. يقول "بين وولف"، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لدى شركة (Sarcos Robotics): "لا يمكن للمرء، وإن ارتفع معدل البطالة، أن يَشغل ببساطة الوظائف التي تتطلب مهارات فائقة للغاية، لأننا نفتقد إلى الأشخاص ذوي التدريب". ويوجد مقر هذه الشركة في ولاية يوتاه وتصنع روبوتات يمكن ارتداؤها، تسمى الهياكل الخارجية، تضفي قوةَ الآلة ودقتها على حركات العامل. وكانت شركة "دلتا للطيران" قد شرعت في اختبار جهاز من صنع (Sarcos Robotics) متخصص في ميكانيكا الطائرات، حتى عصفت الجائحة بقطاع السفر جوا. لمّا تواصلتُ مع وولف في الربيع الماضي، كان متفائلا؛ إذ قال: "ثمة بطء قصير الأمد، لكننا نتوقع مزيدا من العمل على المدى البعيد". يتطلع جل أرباب العمل اليوم إلى تقليل الاتصال بين الموظفين، وقد يساعد في ذلك جهازٌ يتيح إنجاز عمل شخصين. وأخبرني وولف أن (Sarcos Robotics) تلقَّت، منذ بدء الجائحة، مزيدا من الطلبات والاستفسارات بشأن منتجاتها، بعضها من شركات لم يكن يتوقعها؛ منها، مثلا، شركة كبرى متخصصة في الإلكترونيات، وشركة أدوية، وشركة تغليف لحوم. أرادت شركتا الإلكترونيات والأدوية نقل إمدادات ثقيلة بعدد أقل من الناس، فيما اهتمت شركة تغليف اللحوم بالتخفيف من اكتظاظ العمال.

ولن يكون من السهل شَغل وظائف رعاية الأطفال أو كبار السن، في عالم بات يخشى الاتصال البشري. لذا تعكف "مايا ماتاريتش"، عالمة الحاسوب والروبوتات لدى "جامعة جنوب كاليفورنيا"، على تطوير "روبوتات مساعدة اجتماعيا"؛ أي آلات تقدم الدعم الاجتماعي بدلًا من العمل البدني. ومن المشروعات التي يعكف عليها مختبرها: روبوت مدرِّبٌ يواكب مستخدِمَه المسنّ في تمارينه المعتادة، ثم يشجعه على الخروج والمشي. أخبرتني ماتاريتش أن الروبوتَ "يقول 'لا أستطيع الخروج، فلِمَ لا تخرج للمشي وتخبرني عن ذلك؟'". يتألف هذا الروبوت من رأس وجذع وأذرع من البلاستيك على حامل معدني دوار، لكن مجساته وبرامجه تمكنه من فعل ما قد يفعله مدرب بشري؛ من قبيل قوله "اثن ساعدك الأيسر نحو الداخل قليلا" أثناء التمرين، أو "عمل رائع" بعده.
جُبنا أرجاء مختبرها المتألف من جيش من الشباب في حُجرات صغيرة يشتغلون على التقنيات التي قد تتيح لروبوت المساهمة في إطالة محادثة في مجموعة دعم، مثلا، أو التجاوب بطريقة تجعل الإنسان يشعر كأن الآلة تبدي تعاطفها. سألت ماتاريتش هل الناس يتوجسون من فكرة إسناد رعاية الجَدّ إلى آلة. أجابت: "إننا لا نستعيض عن مقدمي الرعاية، بل نملأ فجوة؛ فالأطفال البالغون لا يستطيعون البقاء إلى جوار آبائهم المسنين في ظل الجائحة، ومقدمو الرعاية لأشخاص آخرين في الولايات المتحدة يتقاضون أجورا هزيلة ولا يلقون التقدير اللازم. إلى أن يتغير ذلك، سيتعين علينا استخدام الروبوتات".

أيامًا بعد زيارتي مختبر ماتاريتش، في عالم مختلف على بعد 30 كيلومترا جنوب الجامعة، خرج مئات الملّاحين في مسيرة مناهضة للروبوتات. كان ذلك في "سان بيدرو" بلوس أنجلوس، حيث تطل رافعات الحاويات على المستودعات والأرصفة وأزقة سكنية متواضعة. عمَلت أجيال من هذا المجتمع المحكَم الترابط ملّاحينَ على الأرصفة، ولم ترُق للجيل الحالي خطة تقضي باستقدام روبوتات لحمل البضائع في أكبر محطات الميناء، وإن كانت هذه الآلات شائعة الاستعمال بالفعل في موانئ أخرى عبر العالم، بعضها في منطقة لوس أنجلوس نفسها. يقول "جو بوسكاينو"، ممثل سان بيدرو في مجلس مدينة لوس أنجلوس، إن عمال الأرصفة لا يتوقعون توقف العالم عن التغير، فقد مرّت سان بيدرو من قبل باضطرابات اقتصادية صاحبت ازدهار وانهيار صيد الأسماك وتعليبها وبناء السفن. ولكن المشكلة -كما أخبرني بوسكاينو- تكمن في السرعة التي يدمج بها أرباب العمل الروبوتات في حياة العمال. يقول: "منذ أعوام، لاحظ والدي أن الصيد اقترب من نهايته فحصل على عمل في مخبز. لقد تمكن من تغيير نشاطه. لكن الآلات لديها القدرة على الاستئثار بالوظائف بين عشية وضحاها".
يختلف علماء الاقتصاد بشأن مقدار وسرعة تأثير الروبوتات على الوظائف المستقبلية، لكن كثيرا من الخبراء يُجمع على أمر واحد: بعض العمال سيواجه صعوبة في التأقلم مع الروبوتات. إذ يقول عالم الاقتصاد في "معهد ماساتشوسيتس للتقنية"، "دارون أسيموغلو"، الذي درَس آثار الروبوتات ومظاهرَ أتمتة أخرى: "إن الدليل على ذلك واضح من خلال عدد وظائف الياقات الزرقاء الذي انخفض كثيرا، وكذلك وظائف التجميع في الصناعات التي تعتمد الروبوتات. هذا لا يعني أن مجال التقنية في المستقبل لن يخلق وظائف، لكن الفكرة القائلة إننا سنعتمد تقنيات الأتمتة في كل مكان ونخلق وظائف كثيرة، فكرة غير صحيحة تُحرّكها رغبة متعمَّدة في التضليل". ورغم تفاؤل المستثمرين والباحثين والمقاولين في الشركات الناشئة، يظل كثير من الناس، مثل بوسكاينو، قلقًا إزاء مستقبل حافــل بالروبـوتـات. إذ يخـشى هؤلاء ألا تستأثـر الـروبـوتات بالأعمال المتواضعة فحسب، بل تتعداها إلى الأعمال كلها، أو على الأقل إلى الأجزاء التي تُعد مصدرَ تَحَدّ وشرف وأَجر مُجز. (وقد أصبحت هذه العملية الأخيرة شائعةً إلى درجة جعلت علماء الاقتصاد يستحدثون لها هذه العبارة: "التخلص من المهارات"). وفضلا عن ذلك، يخشى الناس أيضا أن يصبح العمل بسبب الروبوتات أخطر وأشد إرهاقا. وتعليقًا على ذلك، حدثتني "بيث غوتيليوس"، المخططة الحضرية وعالمة الاقتصاد لدى "جامعة إيلينوي" في شيكاغو، عن مستودع كانت قد زارته بعد إدخال الروبوتات إليه. كانت الروبوتات تسلّم للبشر البضائع بسرعة من أجل تعبئتها، فوفَّر ذلك على العمال كثيرا من التنقل؛ لكن الأمر أشعرهم أيضا بالاستعجال وقضى على فرصهم في الحديث إلى بعضهم بعضا.
ينبغي أن ينظر أرباب العمل بعين الاعتبار إلى كون هذا الضرب من الضغط على العمال "واقع ملموس، غير صحي، وله آثار على رفاهية العمال"، على حد تعبير "دون كاستيو"، عالمة الأوبئة المشرفة على بحوث الروبوتات المهنية في "المعهد الوطني للصحة والسلامة المهنيتين" التابع لـ "مركز مكافحة الأمراض واتّقائها" بالولايات المتحدة. والحَقُّ أن مركز أبحاث الروبوتات المهنية يتوقع، وفقًا لما نُشر في موقعه على الإنترنت، "احتمال زيادة" عدد الوفيات المتعلقة بالروبوتات. ومَرَدُّ ذلك إلى ارتفاع عدد الروبوتات كل عام في كثير من الأماكن، فضلا عن عملها في بيئات جديدة حيث تلتقي بشرًا لا يعرفون ما يتوقعون، ووضعيات لم تخطر بالضرورة على بال مصمميها. في سان بيدرو، عقب فوز بوسكاينو بتصويت في مجلس المدينة لوقف خطة الأتمتة، فاوض "الاتحاد الدولي للأرصفة والمستودعــات" بشـأن ما سمــاه رئيس فــرعه المحلي، صفقة "حلوة مرة" مع شركة "مايرسك" الدنماركية التي تدير محطة الحاويات.

وافق عمال الأرصفة على إنهاء المعركة ضد الروبوتات شريطة "شحذ مهارة" 450 ميكانيكيا: أي تدريبهم للاشتغال على الروبوتات؛ فيما سيُعاد تأهيل 450 آخرين: أي تكوينهم للعمل في وظائف جديدة صديقة للتقنية. وفي ذلك، يقول بوسكاينو إن مدى فعالية إعادة التدريب ما زال غير معروف، لا سيما بالنسبة إلى العمال الذين هم في منتصف العمر. أحدُ أصدقائه ميكانيكي، تُبوؤه معرفتُه بالسيارات والشاحنات مكانةً أثيرة إن أضاف صيانة الروبوتات إليها. ومن ناحية أخرى، فإن "صهري 'دومينيك'، وهو اليوم عامل أرصفة، ليست لديه فكرة عن كيفية الاشتغال على هذه الروبوتات. وهو في الـ 56 من عمره".

أَتَمَّت لفظةُ "روبوت" هذا العام عامَها المئة، وكان قد استحدثها الكاتبُ التشيكي "كارل شابيك" في مسرحية حددت قوالب أحلام وكوابيس آلة قرن من الزمن. كان الروبوت في تلك المسرحية يدعى ".R.U.R" ويبدو كإنسان ويتصرف على شاكلته، وينجز كافة أعمال البشر.. ويقضي على النوع البشري قبل إسدال الستارة على العرض. منذئذ، ظلت الروبوتات الخيالية، من قبيل "Terminator" و"Astro Boy" الياباني وآلات "حـرب النجــوم"، تؤثر في مخططات صُنّاع الروبوتات، وتشكل توقعات الجمهور بشأن ماهية الروبوتات وما يمكنها إنجازه. "تينشو غوتو" راهبٌ في مدرسة "رينزاي" التابعة لطائفة "زِن" البوذية باليابان. رجل قوي رصين ومرح، استقبلني في غرفة فارغة أنيقة في "كوداي- جي"، معبد مدينة كيوتو الذي يعود تاريخه إلى القرن الـ 17، حيث يتولى منصب كبير السدنة. بدا هذا الرجل تجسيدًا للنموذج التقليدي، ومع ذلك ساوره حلم الروبوتات على مرّ أعوام. نشأ هذا الحلم منذ عقود خلت، حين قرأ عن العقول الصناعية، وفكر في إعادة تشكيل "بوذا" نفسه بالسيليكون والبلاستيك والمعدن. يقول إن إنجاز نُسخ آلية للحكماء ستمكن البوذيين من "سماع كلامهم مباشرة".
وسرعان ما بدد واقع الروبوتات حلمه القديم لمّا بدأ التعاون مع علماء الروبوتات في "جامعة أوساكا". فقد عَلِم أن "الذكاء الصناعي بشكله الحالي عاجز عن محاكاة الذكاء البشري، فما بالك بشخصيات ارتقت درجات الاستنارة". مع ذلك لم يستسلم، شأنه كشأن كثير من علماء الروبوتات؛ فرضي بما هو ممكن اليوم. على أرضية أحد أطراف غرفة ذات جدران بيضاء في ذلك المعبد، يقف تمثال من المعدن والسيليكون لـ "كانون"، إلهة المحبة والرحمة لدى بوذيي اليابان. ظلت المعابد والمزارات طيلة قرون تستعمل تماثيل لاجتذاب الناس وحثهم على التشبع بالتعاليم البوذية؛ "والآن، بات التمثال يتحرك، لأول مرة"، كما يقول غوتو. يقدم "Mindar"، وهو اسم ذلك التمثال الروبوتي، مواعظ مسجلة سلفًا بصوت أنثوي قوي أبعد ما يكون عن صوت البشر، ويحرك ذراعيه ويدير رأسه يمنة ويسرة للاطلاع على الجمهور. يشعر المرء بشيء ما حين تقع عليه عيناه؛ لكن ذلك الشيء ليس ذكاءً. إذ إن هذا الروبوت لا يتمتع بذكاء صناعي. ويأمل غوتو أن يتغير ذلك مع مرور الوقت، وأن يصبح تمثاله المتحرك قادرا على إجراء محادثات مع الناس والرد على أسئلتهم الدينية.
نعود الآن عبر المحيط الهادي، إلى بيت عصيّ على الوصف في ضاحية هادئة في سان دييغو، حيث التقيت رجلًا يسعى إلى تقديم نوع مختلف من التجارب الحميمة مع الروبوتات. إنه الفنان "مات ماك مولن" الذي يَشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة (Abyss Creations) المتخصصة في صناعة دمى جنسية تحاكي الطبيعة شكلا وحجما. يقود ماك مولن فريقا من المبرمِجين وخبراء الروبوتات وخبراء المؤثرات الخاصة والمهندسين والفنانين الذين يبتكرون روبوتات قادرة على استمالة القلوب والعقول وإثارة الأعضاء. صنعت هذه الشركة على مرّ أزيد من عقد دمى ذات جلد من السيليكون وهيكل من الصلب، يناهز سعر الواحدة الـ 4 آلاف دولار. ويمكن للزبون هذه الأيام أن يحصل -لقاء 8 آلاف دولار- على رأس روبوت محشو بأجهزة إلكترونية تتحكم في تعابير الوجه والصوت وذكاء صناعي قابل للبرمجة عبر تطبيق هاتف ذكي. على غرار "سيري" و"أليكسا"، يتعرف الذكاء الصناعي للدمية إلى المستخدم عبر ما يُصدِر من أوامر وما يَطرح من أسئلة. ما تزال الدمى، إلى الآن، دمى من العنق فما دونه؛ إذ لا تتحرك الأذرع ولا الأرجل إلا إذا حركها المستخدم. يُقرّ ماك مولين قائلا: "لا نمتلك اليوم ذكاء صناعيا حقيقيا يحاكي العقل البشري. لكني أعتقد أن ذلك سيتحقق؛ وأراه حتميًا". لا يساوره أدنى شك أن ثمة سوقًا واعدة في هذا المجال؛ إذ يقول: "أعتقد أن هناك أشخاصا يمكنهم الانتفاع أيّما منفعة من روبوتات تبدو كالبشر".

وما فتئنا نرتبط فعلًا بروبوتات لا تشبهنا إطلاقًا. من ذلك أن وحدات عسكرية أقامت جنائز لروبوتات تفكيك قنابل تفجرت أثناء أداء الواجب؛ وأن ممرضين يداعبون زملاءهم الروبوتات في المستشفيات؛ وأن أشخاصا قيد التجربة رفضوا الوشاية بأفراد فريقهم من الروبوتات. وربما خصّ الناس الروبوتات بمزيد من المودة والثقة كلما زادت قربا من الواقع.. وربما زيادة عن اللزوم. إن تأثير الروبوتات الخيالية يُفضي بالناس إلى الاعتقاد أن الآلات اليوم أقدر بكثير مما عليه بالفعل. وقد أطلعني بعض الخبراء على أن التأقلم مع وجودها ينبغي أن يبدأ بتوقعات واقعية. بالإمكان برمجة الروبوتات أو تدريبها على إنجاز مهام محددة بدقة -كحفر الأساسات وجني الخس- على نحو أفضل أو على الأقل أكثر اتساقًا من البشر. لكن لا أحد منها يبلغ قدرة العقل البشري على أداء كثير من المهام المختلفة، لا سيما غير المتوقعة. ولم يتسن لأي منها إلى الآن امتلاك ناصية المنطق السليم.
يقول "تشيكو ماركس"، مدير قسم هندسة التصنيع لدى مصنع سيارات "سوبارو" بولاية إنديانا الأميركية، إن الروبوتات لا تستطيع اليوم مجاراة مهارة اليد البشرية. وما فتئ هذا المصنع منذ عقود يستعمل -كغيره من مصانع السيارات- روبوتات متوسطة. وأضحى يضيف بالتدريج أنواعا جديدة لأداء مهام من قبيل تحريك العربات ذاتية التوجيه المخصصة لحمل قطع في أرجاء المصنع. أراني ماركس مجموعة أسلاك ستُدْخل في جزء مقوس قرب الباب الخلفي لإحدى السيارات. يقول: "إن إدخال الأسلاك داخل سيارة ليس مهمة تقوم بها الآلة على أكمل وجه، إذ تحتاج إلى دماغ بشري وتفاعل لمسي للتأكد من كونها موصولة في المكان الصحيح". وليست سيقان الروبوتات أفضل حالا. ففي عام 1996، كانـت "فيلوسو"، عالمـة الروبوتات والذكاء الصناعي في "جامعة كارنيـجي ميلـون"، ضمن فريـق علـمي رفـع تحـدي ابتكـار روبوتات قادرة على لعب كرة القدم أفضل من البشر في أفق عام 2050. وكانت ضمن فريق من الباحثين أنشؤوا في عام 1996 بطولة كأس الروبوتات (RoboCup) من أجل تحفيز التقدم في هذا المجال. واليوم باتت البطولة تقليدا محبوبًا لدى المهندسين في عدة قارات؛ ولكن لا أحد -بمن فيهم فيلوسو- يتوقع أن تلعب الروبوتات كرة القدم أفضل من البشر في القريب العاجل. تقول فيلوسو: "عجيب مدى تعقيد أجسامنا بوصفها آلات. إننا جيدون في التعامل مع الجاذبية، والتعامل مع القوى أثناء السير، والحفاظ على التوازن رغم التعرض للدفع. سيتطلب الأمر سنوات قبل أن يتمكن روبوت من المشي على قدمين كإنسان".
لن تكون الروبوتات بشرًا صناعيين. علينا التأقلم معها بوصفها نوعًا مختلفا، على حد تعبير فيلوسو؛ ويجتهد جل صناع الروبوتات لتصميم روبوتات تستوعب مشاعرنا الإنسانية. وقد علمتُ في موقع مزرعة الرياح أن "ارتداد" الطرف المسنن من آلة حفر كبيرة على الأرض دليل على قلة خبرة المشغل البشري. (وقد تفضي الهزة الناجمة عن الارتداد إلى إصابة الشخص في الكبينة). أما بالنسبة إلى روبوت حفّار فالارتداد لا يُحدث فرقًا يُذكر. ومع ذلك، غيرت شركة (Built Robotics) خوارزميات روبوتها لتفادي الارتداد، لأن ذلك ينتقص من قَدره في أعين المحترفين من البشر؛ كما أن شركة (Mortenson) تريد أن يكون هناك تعاون بين العمال من جميع "الأنواع".

لا يقتصر التغيير على البشر مع قدوم الروبوتات؛ إذ أخبرني بورمان أن "مزارع تايلور" تعكف على إنتاج خس جديد على شاكلة حُبابة وله ساق طويلة، لن يختلف مذاقُه عن سابقه، وإنما سيُسهّل شكلُه على الروبوت قطفَه. تصنع شركة (Bossa Nova Robotics) روبوتا يجوب آلاف المتاجر في أميركا الشمالية -منها 500 تابعة لسلسلة "وول مارت"- حيث يُجري مسحًا للرفوف لتتبع مخزون السلع. وكان مهندسو الشركة قد تساءلوا عن شكل الروبوت ومدى ودِّه وإمكانية الاقتراب منه، وفي نهاية المطاف صنعوه على هيأة تشبه مكيف هواء محمول مزودًا بمنظار ارتفاعه متران، ولا وجه ولا عيون له.
أوضح "سارجون سكاف"، المؤسس المشارك ورئيس قسم التقنية في الشركة، "أنه أداة". لقد أراد هو ومهندسون آخرون أن يحب المتسوقون والعمال هذه الآلة، لكن ليس كثيرا. فلو كان الروبوت مُغرقًا في الطابع الصناعي أو الغرابة، لَأَفزعَ المتسوقين؛ ولو كان مغرقا في الود، لَحادَثَه الناس وداعبوه مبطئينَ عمله. أخبرني سكاف أن الروبوتات والبشر سيتوصلون على المدى البعيد إلى "جملة قواعد تفاعل بين البشر والروبوتات" من شأنها تمكين البشر من معرفة "تفسير ما يفعل الروبوت وكيفية التصرف من حوله". لكن في الوقت الراهن، ما زال صناع الروبوتات والناس العاديون يشقون طريقهم نحو تلك الغاية.

في ضاحية مدينة طوكيو، بمصنع (Glory) المتخصص في أجهزة الصّرف الآلي، توقفتُ لدى محطة عمل حيث كان فريق من تسعة أعضاء يُجَمِّعُ آلة تغيير قطع نقدية معدنية. عرضَت ورقةٌ مغلّفة بالبلاستيك صور وأسماء ثلاث نساء ورجلين وأربعة روبوتات. أطلِقَت أسماء عمـلات على الـروبوتات البيضاء الناصعة ذات الذراعين التي بدت كأنها من نسل ثلاجة. وبينما شاهدت الفريق يضيف بِخِفّةٍ أجزاء إلى مُغيّر قطع نقدية معدنية، احتاج روبوتٌ يدعى "Dollar" المساعدَة بضع مرات، كانت إحداها لَمّا عجز عن إزالة دعامة ملصق. هنالك ومَضَ ضوءٌ أحمر قرب محطته، فَهبَّ إنسانٌ من مكانه على وجه السرعة لحلّ المشكلة. زُوِّد "Dollar" بكاميرات على "معصميه"، وله رأس بكاميرا على شاكلة عينين؛ وقد أوضح المدير "توشيفومي كوباياشي" أنه "صُمّم -من الناحية المبدئية- ليكون مثل إنسان. لذلك لديه رأس". قال "شوتا أكاساكا"، قائد الفريق ذو الثغر الباسم والملامح الطفولية، البالغ من العمر 32 عامًا، إن ذلك الأمر لم يقنع البشر الحقيقيين من فورهم. يقول: "لم أكن متأكدا حقًّا أنه سيقدر على إنجاز عمل بشري، وأنه سيقدر على تثبيت برغي في مكانه. ولَمّا رأيتُ البرغي مثبتًا على أكمل وجه، أدركتُ أننا على مشارف عهد جديد". في قاعة مؤتمرات بشمال شرق طوكيو، عَلِمتُ كيف يبدو العمل أقرب ما يمكن من روبوت: بارتدائه. يتألف الهيكل الخارجي، الذي صنعته شركة (Cyberdyne) اليابانية، من أنبوبين أبيضين متصلين ينحنيان عبر ظهري، وحزام عند خصري، وحزامين عند فخذَيَّ. شعرتُ كأني أرتدي مظلة قفز أو عُدة مركبة في منتزه ترفيهي. حنيت خصري لأحمل حاوية ماء وزنها 18 كيلوجرامًا، يُفترض فيها إيذاء أسفل ظهري. بدلًا من ذلك، استعمل حاسوب في الأنبوبين تغير الوضع ليُقَدِّر أني كنت أرفع شيئا، فشغَّل المحركات لمساعدتي. (كان المستخدمون الأكثر تقدما يرتدون أقطابًا كهربائية تُمكّن الجهاز من قراءة الإشارة التي يرسلها الدماغ إلى عضلاتهم).
صُمم الروبوت لمساعدة عضلات ظهري فقط، ولمّا انحنيتُ وركزت الجهد على ساقيَّ، كما يفترض فعله، لم يساعد الجهاز كثيرا. مع ذلك، فحين عمل، بدا كخدعة سحرية؛ إذ شعرت بالوزن، ثم اختفى ذلك الشعور. ترى شركة (Cyberdyne) سوقًا واعدة في مجال إعادة التأهيل الطبي، وتعكف على صناعة هيكل خارجي على شاكلة أطراف سفلية يُعين الناس على استعادة وظائف أرجلهم. وفيما يتعلق بكثير من منتجاتها، يقول "يوداي كاتامي"، المتحدث باسم الشركة: "ستكون ثمة سوق أخرى بالنسبة إلى العمال، حيث سيمكنهم العمل وقتا أطول من دون خطر إصابة". وعلى الدرب نفسه، تَسير شركةُ (Sarcos Robotics)، المنتجة الأخرى للهياكل الخارجية. إذ يقول رئيسها التنفيذي، "وولف"، إن أحد أهداف أجهزته يَكمن في "تمكين البشر من زيادة الإنتاج حتى يستطيعوا مواكبة الآلات في إطار الأتمتة". هل سنتأقلم مع الآلات أكثر مما تفعل معنا؟ قد نُطالَبُ بذلك. يحلم علماء الروبوتات بآلات تجوِّد حياتنا، لكن دوافع كثير من الشركات لاستخدام الروبوتات تسير في اتجاه معاكس لتحقيق ذلك الحلم. فالروبوتات العامِلَة لا تحتاج إلى إجازات مدفوعة الأجر ولا إلى تأمين طبي. فضلا عن ذلك فإن كثيرا من الدول تُحَصِّلُ عائدات وفيرة من الضرائب على العمل، فيما تشجع على الأتمتة مع تخفيضات ضريبية وحوافز أخرى. ومن ثم فإن الشركات توفر المال عن طريق تخفيض عدد موظفيها وتشغيل الروبوتات. يقول "أسيموغلو": "يُمنَح دعمٌ كبير نظيرَ تركيب الروبوتات والمُعدّات، لا سيما الرقمية منها. وهذا ما يشجع الشركات على اختيار الآلات بدلا من البشر، وإن لم تكن الآلات أفضل". كما أن الروبوتات أكثر إثارة من البشر. ويقول إن "روحًا خاصة تسود بين كثير من رواد التقنية والمديرين مفادها أن البشر مزعجون". فثمة شعور أننا "في غير حاجة إليهم؛ إذ يخطئون، ويطالبون.. فلنتّجه صوب الأتمتة".

بعدما عزم ريدي-كامبل على خوض غمار روبوتات البناء، أمضى والده، "سكوت كامبل" أزيد من ثلاث ساعات في رحلة بالسيارة يسأله بلطف عمّا إذا كانت الفكرة سديدة حقًّا. يمثل كامبل الأب، الذي عمل في البناء، بلدة سانت جونسبوري في "الجمعية العامة" لولاية فيرمونت. سرعان ما اقتنع بعمل ابنه، لكنه أخبرني أن ناخبيه متوجسون من الروبوتات؛ والأمر غير راجع في عمومه إلى الاقتصاد. قد يصير ممكنا إسناد سائر عملنا إلى الروبوتات يومًا ما؛ حتى عمل الوعاظ الدينيين، على سبيل المثال. لكن ناخبي كامبل يريدون الاحتفاظ بشيء ما للبشرية: العمل الذي يُشعر الناس بقيمتهم. يقول كامبل: "ليس المهم في العمل المقابل الذي تُحَصّله، بل ما يؤول إليه حالك بإنجازه. إذ ينتابك شعور عميق بتحقيق ذاتك؛ وذلك أهم شيء في العمل".
بعد مُضي قرن على تصور أول روبوت في عمل مسرحي، أضحت الروبوتات الحقيقية تجعل حياة بعض الناس أيسر وأسلم، وكذلك أشبه -إلى حد ما- بحياة روبوتات؛ وهذا جزء من جاذبيتها لدى كثير من الشركات. يقول "غوراف كيكاني"، نائب رئيس شركة (Built Robotics) المكلف بالاستراتيجية والعمليات والتمويل: "إن كل موقع بناء مختلفٌ الآن، وكل عامل مبدع فنان". ويُحب العمّال تنوعَ المهام وخلوَّها من النمطية، فيما لا يروق الأمر كثيرا لأرباب العمل؛ ذلك أنهم يوفرون الوقت والمال كلما عرفوا أن مهمةً ما تُنجَز في كل مرة بالطريقة نفسها ولا تتطلب قرارات شخص بعينه. ورغم أن مواقع البناء ستحتاج دوما إلى قدرة البشر على التأقلم والإبداع في بعض المهام، فإننا "مع الروبوتات نرى فرصة لتنميط الممارسات وخلق كفاءات في بعض المهام التي تكون فيها الروبوتات مناسبة"، على حد تعبير كيكاني.
وعندما ينبغي لأحدهم الحسم بشأن أي الخيارات أفضل، لا جدوى من أن يلتمس الجواب عند التقنية نفسها. إذ ثمة مسألة يستعصي على الروبوتات مساعدتنا في حلها مَهما بلغت درجة تطورها، ألا وهي اتخاذ القرار بشأن كيفية استعمالها.. وفي أي زمان ومكان!