سبل تجاوز أثر كورونا النفسي

بعدما تحوّل العالم من "قرية صغيرة إلى سجن كوني" بفعل فيروس "كورونا"، يرى الغالي أحرشاو، أستاذ متخصّص في علم النفس، أنّ تجاوز تداعيات الجائحة يمكن بـ"العمل بالاحتياط والنظافة والعزل الصحي"، واتباع تعليمات وتوجيهات مختلف الأخصائيين في علوم وطب النّفس، التي هي تعليمات وتوجيهات توصي في مجملها بالتّركيز أولا على الحاضر وكلّ ما هو إيجابي، عوض التفكير في المستقبل وكل ما هو سلبي.

ويضيف أحرشاو، في افتتاحية العدد التاسع والعشرين من مجلة "بصائر نفسية"، أنّ من نصائح أخصائيي الطب النفسي "العناية بالصحة العقلية والبدنية بتفادي الضغط والخوف، عبر ممارسة الأنشطة والهوايات المفضلة، وتفادي كثرة الأخبار والشائعات، مع التسلح بالقيم الإنسانية الإيجابية، من قبيل التعاطف والتكافل والتضامن، مع السؤال عن الأقارب والأصدقاء".

ويذكر الكاتب في هذا السياق أن العالَم سيخضع، بعد تلاشي جائحة "كورونا" وهدوء العاصفة، لـ"تحوّلات تمسّ مختلف جوانب حياة البشر، صحة وتغذية وبيئة وتعليما وعلما وتقنية، واقتصادا وعملا وسياسة، بل وفي الثقافة والرياضة والتّرفيه أيضا"، ويزيد: "الكلّ سيعيش مراسيم ولادة جديدة لعالَم جديد، قوامه عودة الإنسان في تدبير الحياة ومستلزماتها إلى الضروريات"، و"ليس من المبالغة القول، إذن، إنّ الجائحة الحالية تشكّل أشدّ صدمات عصر العولمَة الحديث"، وفضلا عن تداعياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية، تولّد لدى الإنسان شحنات انفعالية قوية يصعب التحكّم فيها، تنجم عنها في الغالب تداعيات نفسية كثيرة من قبيل الخوف الزّائد والقلق الحادّ واضطراب المزاج والتغذية والنوم.

ويقترح أحرشاو، لتجاوز "مشاكل توطين ومأسسة العلوم النفسية تكوينا وبحثا وممارسة"، توسيعَ قاعدتها لتشمل كل الجامعات والكليات والمعاهد كتخصّصات قائمة الذّات، وتعزيز وتمتين هويّتها العلمية عبر تقوية تشبُّعِها بالتخصّصات البيولوجية الطبية والعصبية المعرفية والمرضية الإكلينيكية، والخروج بمنظومتها البحثية من داخل أسوار الجامعات لمقاربة مشاكل الناس الحقيقية في مختلف مستوياتها وتجلّياتها.

كما ينبّه الباحث المغربي على أهمية اعتبار العلوم النفسية مثل علوم الطب: "تستوجب ممارسَتها أينما وُجِدَ الإنسان، في البيوت والمدارس، والمستشفيات، والشركات، والمقاولات، ومؤسسات الأمن والعدل، وغيرها، ببروتوكولات للتشخيص والعلاج والتكفّل، وخطط للانتقاء والتوجيه والإرشاد، ومكاتب للخبرة والاستشارة والتدخّل في مختلف قضايا تنمية الإنسان والرقيّ بصحّته النفسية والعقلية نحو الأجود والأفضل".

وبعدما كانت علوم وطب النفس تقبع في برجها العاجي داخل أسوار الجامعات مكتفية بالتدريس والبحث الأكاديمي، بعيدا عن مشاكل الساكنة العربية وصحتها النفسية والعقلية، إلا فيما نَذُر، يرى الكاتب أنّها قد صارت اليوم، في مدة زمنية قياسية، تُجاري من حيث وظائفها ومكانتها العديد من العلوم الأخرى، وأظهرت أنّ ممارستها التطبيقية تتجاوز بعض الخدمات المحدودة في بعض المؤسسات الجامعية والاستشفائية والأمنية والعدلية، بفعل تهميشها على صعيد التثمين المؤسساتي والاستشارة النفسية.

ويرى أحرشاو انطلاقا من هذا أنّ زمن "كوفيد-19" يصدق عليه القول المأثور "رُبَّ ضارّة نافعة"؛ لأنّه مكّن هذه العلوم من القيام بدور نشيط ووازن في حماية صحة المواطنين من تداعيات "كورونا"، على الرغم من استمرار سيادة الأنماط الثقافية والتمثلات الاجتماعية المقاوِمَة لخدماتها، وعلى الرغم من استمرار فتح الأبواب للشّطط والتّطاول، و"سيل لعاب كثير من الطفيليّين والدجّالين الذين يستغلّون هذه التمثلات، لينخرطوا في ممارسات شعبوية وخرافية يعبثون فيها بالصحة النفسية والعقلية للساكنة".

من جهته، يقول وليد خالد عبد الحميد، طبيب نفسي عراقي، إنّ الأزمة الراهنة قد أثبتت "الأهمية الملحة للصّحّة النّفسيّة، ليس فقط من خلال التّأثيرات النفسية للتّباعد الاجتماعي والإغلاق، ولكن ما سبّبَته إصابات ووفيات الجائحة من صدمات نفسية أدّت إلى انتشار حالات الاكتئاب والقلق والهلع في المجتمع، وأدّت في المجتمعَات الأوروبية إلى زيادة حالات العنف الأسري وحالات الانتحار"، وأدّت إلى "حالات من الاحتراق المهني في صفوف مقدّمي الرعاية الصحية في الخطّ الأوّل لمجابهة هذه الجائحة".

ويذكر الطبيب النفسي، في افتتاحية العدد الثامن والعشرين من مجلة "بصائر نفسانية"، أنّ هذا "يقتضي وضع الصحة النفسية في أولويات الحاجات الأساسية للمواطنين، في العقد الاجتماعي الجديد الذي يحتاجه العالَم بعد الأزمة"، كما يقتضي "أن يكون علم الصّدمة النفسية الذي يقوم على علاج الأسباب بدل الأعراض، في خدمة الصحة النفسية الجديدة لما بعد الجائحة"...

تجدر الإشارة إلى أنّ "شبكة العلوم النفسية العربية بتونس" قد خصّصت ثلاثة أعداد للتطرّق لجائحة "كورونا"، تضمّنت أبحاثا متخصّصة في علوم النّفس وطبّه من مختلف دول العالم العربي، ويمثّل العديد منها الجامعة المغربية.