قمامة نواكشوط: جدال وجبال!

 

أخاف أن يكون عزيز ترك لنا فيما ترك من مشاكل ومعضلات روح "التشنج" التي سادت في عشريته؛ فسهولة المراء والجدال والمناوشات وتنمية دواعي الخلاف على هذا الفضاء الافتراضي المعد أصلا للحوار والتفاهم أمر مقلق جدا، والحقيقة أن "التشنج المجتمعي" في المجال العام وفي الطرقات يكاد يكون هو الميزة الأبرز التي ميزت المجتمع النواكشوطي في سنواته الأخيرة، فذات مرة سأل أحد الشباب الحريصين على سمعة البلد في الخارج أحد المالزيين الهادئين جدا بطبعهم، من الذين أقاموا في نواكشوط مدة من الزمن عن انطباعه العام عن الشعب الموريتاني، فقال: أنتم شعب طيب ولكنكم متشنجون، وسائقو سياراتكم في عراك دائم مع بعضهما البعض.

لم يكن ذلك الماليزي الذي لا يسمع رنين السيارات في بلده إلا في الحالات الاستثنائية أو في سيارات الإسعاف متحاملا علينا، فهذا الأمر يلحظه كل زائر لانواكشوط، وتلك المظاهر الفوضوية الوسخة المؤسفة في عاصمتنا هي التي جعلت الصحفية المصرية هويدا طه تسمي نواكشوط بـ"عاصمة الذهول"، وقد زارتها أيام الفترة الانتقالية وفي ذهنها صور مشرقة عن البلدان التي تحبو نحو الديمقراطية فكان ما كان... فلا تظن خيرا ولا تسل عن التعصب المقيت الذي قوبلت به ملاحظتها الواردة.

لا ينبغي للعقلاء إخراج الأمور والنقاشات عن المسارات الطبيعية، فمما يضر أي نقاش أو عمل أو تقويم أن نحاول ترتيب أو استنتاج أمور عادية من حالات استثنائية، كما أن جعل الأحوال الاستثنائية هي الأصول، ويصير الخروج عنها استثناء أمر مضر بالمصداقية بل وفاتك بالأمم والشعوب، فانواكشوط وعلاقتها بالقمامة حالة استثنائية بكل المعايير ويكفي من استثنائيتها أنها عاصمة دولة بعد حوالي ستين عاما من الاستقلال ما تزال عاجزة عن "مواراة سوآتها"، فمن نظر من هذا الجانب بغض النظر عن الأسباب المعروفة لإهمال النظافة اعتبر تدخل الجيش للنظافة أمر إيجابي وهو استثناء لعلاج استثناء، وتجاوز هذين الاستثناءين من الضروري الملح.

والذين يستنكرون إقحام الجيش في أمور التنظيف متمسكون بأصلين؛ الأول: أن تنظيف المدن كالسياسة في قتل روح الجيوش والانحراف بها عن مهماتها الأصلية، والثاني: أن تنظيف المدن من صلاحيات البلديات، لكنهم أغفلوا أحكام الضرورات وإكراه الاستثناءات، والعقل والمصلحة هنا يقولان إنه يجب أن يصل الطرفان في هذه النقطة الحساسة جدا والمخجلة جدا إلى كلمة سواء، وهي أن يكون تدخل الجيش في هذا الوقت بالذات للنظافة استثناء يعقبه عودة للأصل في تفعيل صلاحيات البلديات ومحاسبة العمد والأحزاب والمجتمع على نظافة المدن.

وعموما الجدل الافتراضي الدائر حول هذه المسألة وغيرها أمر عادي لو عقلن وسلم من المواقف الحدية المسبقة الروتينية أي نقد المعارضة لكل ما يقوم به النظام، ودفاع الموالين عن كل شيء يقوم به النظام؛ فالأنظمة الحاكمة ومن يدور في فلكها تعالج واقعا مشاهدا بالآليات المتاحة حسب ادعاءاتها، والمعارضات الديمقراطية تناضل لتحقيق ما ينبغي أن يكون بغض النظر عن الظروف المحيطة بذلك الواقع، وهذان أمران سيبقيان ما بقيت موالاة ومعارضة، فالتحدي هنا ليس في وجود اختلاف الآراء وتنوعها، بل في إدارة تعدد وجهات النظر وإثبات كل طرف أنه جدير بالمسؤولية التي يتصدى لها قوة وأمانة وأخلاقا وبعدا عن الهوى.

نرجع لجبال القمامة فالجميع متضرر منهما ومتأذ ومتقزز، والنظافة في كل مدن العالم مسؤولية الدولة والمجتمع، وفي حالتنا هذه بعد أن تقوم الدولة بدورها في هذا المجال ويرجع الجيش لثكناته يجب أن يسن قانون رادع للمتساهلين في رمي القمامة أمام بيوتهم أو في الشوارع، وذلك بالتغريم المالي الباهظ حتى نرتدع ونرتقي قليلا لمنزلة الغربان "فنواري سوآت" عاصمتنا القبيحة، فالشعوب الهازئة بالقوانين والمفرطة في الأمور المشتركة لا تردعها إلا القوانين الصارمة والغرامات غير القابلة للإسقاط، وقد رأيت كثيرين وأنا منهم من المتمردين على القوانين أدبتهم الغرامات في مخالفة مواقف السيارات.

ذات مرة زار أحد أصدقائنا العقلاء سنغافورة فسألناه عن أهم ما لفت انتباهه فيها فقال النظافة، وحين زيارته كانت غرامة رمي القمامة حوالي 500 دولار سنغافوري، وقد ضاعف سنغافورة سنة 2014 الغرامة المفروضة على مخالقة قانون النظافة؛ "ففي المرة الأولى، يلزم المخالف بدفع 2000 دولار سنغافوري (1500 دولار امريكي)، وفي المرة الثانية 4000 دولار سنغافوري، ثم 10.000 دولار في المرات اللاحقة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يُجبر الشخص الذي يلقي بالنفايات في غير مكانها المناسب على قضاء 12 ساعة في تنظيف الشوارع كخدمة مجانية لصالح المجتمع".

ولا ينبغي أن يتسرب لنا اليأس من حال عاصمتنا؛ فالتجربة الرواندية مع نظافة المدن والتنمية تنادي كل مهموم بأوساخ مدينته أن أعمل بإصرار وسترى النتيجة، فقد قطعت العاصمة الرواندية كيغالي "أشواطا طويلة في كفاحها ضد النفايات البلاستيكية. فبعد أن كانت أكياس البلاستيك ملقاة في كل مكان بالمدينة، حيث أدت إلى توسيخ الشوارع وانسداد بالوعات الصرف الصحي، أضحت اليوم من أنظف المدن في إفريقيا"، ولذلك كرمتها الأمم المتحدة قبل عشر سنوات تقريبا من خلال إدراجها على قائمة شرف المستوطنات البشرية لاتباعها سياسة صارمة مع النفايات البلاستيكية ورميها في الشوارع.

قال العقلاء: ثمة أمور لا تحتاج إلى النهوض بها أكثر من القناعة بحاجة الجميع إليها، ومنها لا شك النظافة والصحة والتعليم فمتى تكون عندنا مشتركات محسومة بلا جدال وعاصمة بلا جبال من القمامة .

ابراهيم الدويرى / كاتب صحفى