تفاصيل عملية احتراق أسرة موريتانية بكاملها ووفاة جميع أفرادها

هذه قصة من القصص المأساوية التي كنت شاهدا عليها , يقول راويها "أحمد" وما زال لغزها المحيّر الذي عجزت الاجهزة الامنية عن حله يؤرقني , وما زالت تنتابني  موجات من الرعب حين أتذكر تلك الفاجعة الغريبة.

"أسرة أهل اباه" تتألف من الزوج محمد والزوجة السالمه والابناء : سيدي في الثامنة , وأمنة في الرابعة , والداه لم يكمل بعد سنته الثانية.

هاجرت الاسرة الى إحدى دول الخليج الغنية بعد أن وجد محمد فرصة عمل هناك في نفس البلد الذي كنت أعمل فيه...كانت تربطني علاقة قديمة وقوية بالاسرة...فرحت كثيرا عندما علمتُ بمقدمها لتعيش معنا في بلاد الغربة , ولو أن القرية التي يعمل بها صديقي محمد تبعد عني بأكثر من 200 كيلو مترا , لكن مجرد وجودهم في تلك البلاد كان مصدر سعادة بالنسبة لي...كنت أزورهم باستمرار كلما وجدت فرصة لذلك..

استقرت اسرة أهل اباه في بيت جميل لكن غُرفه ـ رغم عصريتها وتجهيزاتها الحديثة ـ كانت من الخشب "كونتر ابلاك" بقرية زراعية وادعة بعيدة عن صخب المدن وضوضائها , تحيط بها المزارع والبساتين والرياض الجميلة من الجهات الاربع إحاطة السوار بمعصم الحسناء ..

كانت الاسرة في غاية السعادة..فلأول مرة يلتئم شملها منذ زواج محمد والسالمة , نظرا لظروف العمل التي لم تكن تسمح له برؤية أسرته الا مرة كل سنتين ولمدة لا تزيد على الشهر الواحد.

اعتاد محمد أن يأخذ أطفاله وزوجته كل مساء عندما يعود من عمله إلى إحدى الحدائق الجميلة بالقرية , يحملون معهم طعامهم , يفرشون حصيرا على العشب  الاخضر...يتراكض الاطفال من حولهم يفرحون ويمرحون...تُقرِّب السالمة منها"لماعين"...تدير كؤوس الشاي التي كان محمد يعشقه...ينهمك هو تارة في شواء اللحم على الفحم كما هي عادته...أو يكتفي بتجاذب أطراف حديث "متبيظن" موغل في الحسانية "الكحلة" مع رفيقة عمره حتى لا يفهمه مَن حولهم من الاعراب تارة أخرى...ثم لا يلبث أن يلتحق بالاطفال ويلعب معهم دقائق ...يركبون على ظهره...يشاركهم ألعابهم وفرحهم ثم يعود للسالمة وهو في غاية السرور والبهجة.

وفجأة يقول راوي القصة أحمد يأتيني اتصال أثناء عملي من صديق يخبرني أن بيت "أهل اباه" قد احترق بالكامل ولا يعرف ماذا جرى..

يسقط الهاتف من يدي...يغمى عليّ من هول الخبر...أحاول الاتصال بمحمد أو السالمة..الهواتف مغلقة...أقرر الذهاب بنفسي فورا حتى أعرف ماذا حدث...بعد أن قطعت حوالي 20 كيلو مترا أوقفت سيارتي...لم أعد باستطاعتي أن أسوق بفعل الاضطراب والحالة النفسية التي أعيش فيها...استقليتُ سيارة أجرة...طوال الطريق أحاول عبثا الاتصال...لكن لا خبر عن الواقعة حتى وصلت...

يا لَلكارثة....يا لَلفاجعة!!

احترق البيت كله...لم يبقَ منه شيء على الاطلاق يدل عليه..تسمرتُ في مكاني....سَرَتْ قشعريرة في جسدي...تقطّعت أوصالي...ما عدتُ قادرا على الحركة...الناس يتجمهرون في المكان...سيارات الشرطة..الاطفاء...الاسعاف..

بعد أن أفقتُ قليلا من الصدمة سألت : أين أفراد الاسرة؟

جاء الجواب صادما مزلزلا..صاعقا..

كلهم ماتوا الا الطفل سيدي ذي الثماني سنوات لأنه كان وقت الحريق في المدرسة...جاءني الرد هذه المرة من جارة الاسرة المنكوبة...

سيدة مصرية هي أقرب الجيران اليهم قالت :

في حدود السابعة والنصف صباحا ـ وكما هي عادتي ـ كنت أقف مع أطفالي على ناصية الشارع حتى يصل "باص" المدرسة...جاء محمد وهو آخذ بيد ولده سيدي وألقى عليّ التحية ووقفنا معا في نفس المكان حتى قدِمَ باص المدرسة وصعد الاطفال ومعهم سيدي , ثم عدتُ انا الى بيتي وعاد محمد الى بيته...بعدها بقليل سمعتُ صوت قراءة القرآن يخرج من جهتهم فقلتُ لزوجي لما سألني : هذا جارنا الموريتاني دائما ما أسمعه يقرأ القرآن..

أضافت السيدة المصرية : كانت الرياح في صباح هذا اليوم عنيفة وشديدة البرودة...والمكان كما تعلم عبارة عن مزارع متناثرة ..فيها بيوت قليلة..والحركة تكاد تكون معدومة....لم أنتبه الا وأحد عمال المزارع يصيح : حريق ...حريق... حريق..!!

خرجت فرأيت بيت محمد قد أصبح كتلة من اللهب...لا أحد يستطيع الاقتراب منها بفعل الرياح والسنة اللهب المتطايرة...

حاولت مع بعض المزارعين ان نقوم بفعل أي شيء لكن قوة النيران منعتنا من الاقتراب...

لم تأت الشرطة والاطفاء الا بعد أن خمدت النار وفات الاوان....

لا أحد يعرف ماذا جرى...سألتُ ضابط الشرطة وطلبت منه القاء نظرة على الجثث المتفحمة....كان منظرا تقشعر له الابدان..منظر ما زال ماثلا أمام ناظري...لم أستطع التخلص منه الى الآن...

بعد فترة أخبرنا أن التحقيق لم يتوصل الى أية نتيجة تتعلق بسبب الحريق ..وهل كان عن طريق تماس كهربائي...او انفجار أنبوبة غاز...او بقعل فاعل...طُويّ الملف وقُيدت القضية ضد مجهول...

أما الطفل سيدي الناجي الوحيد من المحرقة فقد أخذته إحدى الاسر التي كانت تعرفه وعلى علاقة بوالديه ولم تتركه يعود للمنزل حتى لا يرى منظره ويعلم بما حلّ بأبويه وإخوته...

شكرتهم وصحبته معي بحجة أن الاسرة سافرت سفرا مفاجئا وطلبت مني أخذه معي حتى يعودوا من السفر...سيدي كان يعرفني وكان يعتبرني عمه..لذلك لم أجد صعوبة في إقناعه....

بعدها بأيام طلبت الاذن وعدت به الى موريتانيا...استلمته جدته لأمه وخالاته...

وأملي الوحيد الآن هو أن أرى المرحوم محمد في المنام فيخبرني عن القصة كاملة حتى يطمئن قلبي...والغريب انني من الذين يحلمون غالبا بأي عزيز عليّ يتوفاه الله الا هذه الاسرة بالذات فلم أرَ منها احدا في المنام رغم ان الكارثة مضى على حدوثها سنوات..

محمد محمود محمد الامين