البروفيسور محمد الهادي الشريف، أستاذ الأجيال، في ذمة الله

أصبت بحزن لا يوصف هذا الصباح، 24 يناير 2021، وأنا أتلقى من أخي الفاضل وصديقي العزيز البروفيسور جمال بن طاهر نبأ نعي أستاذنا المشترك وأستاذ الأجيال البروفيسور محمد الهادي الشريف، أحد أقطاب المدرسة التاريخية التونسية.
كيف لا؟ إنه حدث جلل! يستحق الذهول والشرود وذرف الدموع وهو ما حصل بالنسبة لي وللكثيرين غيري مِمن حُظوا بالتعرف على فقيد البحث التاريخي الرصين.
كيف لا؟ ولم تُتِحْ لي ظروفُ الجائحة أن أحظى بشرف السير في موكب جنازة أستاذي وقدوتي، وكنت عقدت العزم بعد علمي بمرضه -وبُحتُ لبعض الأصدقاء بذلك- أن أكون -إن قدر لي العيش بعده- من ضمن من يحضرون موكبه الجنائزي.
كيف لا؟ وقد أثقل الراحل كاهلي -وجيلي من الباحثين- بديون لا تحصى فقد درّسني، فعرفت فيه القدرة المعرفية والتواضع الجم والكرم الأصيل، وتُوج هذا المسار بإشرافه على أطروحتي ففتح لي -كما فتح لغيري- قلبه الكبير ونورني بعقله المتبصر، فكان نعم الموجه والناصح والمصحح.
عرفت المرحوم محمد الهادي الشريف في ثمانينيات القرن الماضي بنواكشوط، وأنا أخطو خطواتي الأولى في التعليم العالي، وكنت وقتها طالبا بالمدرسة العليا للأساتذة والمفتشين، حينما كان يتردد، بصفته أستاذا زائرا، على هذه المؤسسة مدرسا ومشرفا ومناقشا.
وتعمقت معرفتنا عندما حصلت سنة 1985 على منحة لمواصلة دراساتي العليا بتونس، وكان المرحوم يومها رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية/جامعة تونس الأولى.
وما زلت أتذكر أول لقاء جمعنا بمكتبه بداية شهر أكتوبر 1985 حيث سلمته ملفي والتمست منه المساعدة في تسريع عملية التسجيل لارتباطها بجملة من القضايا الإدارية التي يصطدم بها عادة الطلبة الوافدون الجدد من الخارج، فرد عليّ بأسلوبه اللبق الذي لا يخلو من دعابة تستهدف إزالة الحرج: "أهلا وسهلا بالشناقطة في بلدهم الثاني تونس، لا تقلق يا محمدو [ومدّ الدال طويلا]. فأنت في بيتك، ربّنا إِسَهّلْ". وأضاف مسترسلا: "لقد عرفت الطلبة الموريتانيين من خلال جمال ولد الحسن وولد السعد، فالموريتانيون يذكرونني بالطلبة أيام زمان!".
وحينما أكمل تصفح الملف -ومن ضمنه مذكرة تخرج أعددتها للحصول على شهادة الأستاذية (المتريز) من المدرسة العليا للأساتذة والمفتشين وعنوانها "أزمة إمارة الترارزَة خلال القرن التاسع عشر"- أضاف قائلا بتواضع غريب: "آهْـ ! أنت أيضا تشتغل على ظاهرة التأزم في القرن التاسع عشر. إذن نحن زملاء". فأجبته: "أستاذي الفاضل، أنا مجرد طالب مبتدئ لديكم ". فرد عليّ بتواضع أيضا: "بل أنت زميل باحث وأخ شقيق. وبودي أن تواصل البحث حول هذه الفترة المهمة التي نشترك في الاهتمام بها والتي يطبعها تأزم واضح في بلداننا ناجم، من بين أمور أخرى، عن انعكاسات التوسع الاستعماري". وسأدرك لاحقا أنه ربما كان يشير إلى بحثه الشهير الموسوم: "التوسع الأوروبي ومصاعب تونس من 1815 إلى 1830" المنشور سنة 1970 في مجلة العالم الإسلامي والأبيض المتوسط.
وتواصلت علاقاتنا وتوطدت عبر البحث والتدريس، وخاصة منذ أن شرّفني بالإشراف على أطروحتي للدكتوراه حول: "المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر (قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية)" التي جمع خلال تأطيرها بين. صرامة الأستاذ وتواضع العالم وحنان الأب وسمو الإنسان.
وكان اعتزازي كبيرا بالسرور الذي عبر لي عنه البروفيسور محمد الهادي الشريف وهو يناقشني في "أول أطروحة دكتوراه يعدها باحث موريتاني" تحت إشرافه.
وظل الراحل يغمرني برعايته حتى بعد مناقشة ذلك العمل سنة 1997، فعندما أبلغته أن معهد الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس قرّر نشر الأطروحة، اقترح عليّ أن يتولى شخصيا كتابة تقديم طبعتها الأولى. وبالفعل ما لبث أن أبرق لي بالتقديم وأنا يومها في مهمة بحث بأرشيف ما وراء البحار بمدينة أكس-آن- بروفانص الفرنسية.
يتحلى الأستاذ الدكتور محمد الهادي الشريف بخصال يصعب حصرها، فقد كان مناضلا وطنيا وباحثا متبصرا وأستاذا متميزا ومؤرخا متمرسا وعالما متواضعا ومثقفا متساميا وإنسانا خلوقا.
وبرحيل المرحوم محمد الهادي الشريف تكون المدرسة التاريخية العربية قد فقدت أحد أبرز مؤسسيها وأركانها، فتعزية خالصة لأسرة الفقيد الصغيرة.. للجامعة التونسية.. للمؤرخين عربا وأجانبَ.. للبحث العلمي الرصين.. ولأخلاقيات الأستاذ الجامعي الكفء والباحث الأكاديمي الفذ.
وعزاؤنا في فقد أستاذنا أنه خلال مساره العلمي والتربوي لم يألُ جهدا في تكوين أجيال من الباحثين لا شك أنهم سيأخذون المشعل ويواصلون الدرب رغم التحديات المستجدة والمصاعب الجمة.
وختاما نتضرع إلى المولى عزّ وجلّ أن يسكن الفقيد فسيح جناته وأن يبوئه مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن يبارك في خلفه ويلهم أسرته وزملاءه وأصدقاءه وطلبته الصبر والسلوان، راجين أن نكون جميعا من "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" (صدق الله العظيم