الانتخابات اللّيبيّة في ضوء التجارب السياسيّة الدوليّة

تسعى بعثة الأُمم المُتّحدة للدعم في ليبيا لإجراء انتخاباتٍ عامّة في البلاد، وهو إصرارٌ يُمكن أن يُفهم في ضوء ما شهدته حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهَيْمَنة اللّيبراليّة وتنامي الدعوات لإجراء الانتخابات كشرطٍ للانتقال من التسلّطيّة إلى الديمقراطيّة ومؤشّراً على نجاح بعثات الدَّعم الأُمميّة في أداء مهمّاتها لبناء السلام. ومع ذلك، فإنّ الانتخابات تظلّ أملاً مُعلَّقاً في الحالة اللّيبيّة وتداعياتها.

نُحاول في هذه المقالة تحليل التجربة اللّيبيّة في الانتخابات منذ إسقاط نظام معمّر القذّافي مُستعينين بالأدبيّات المختصّة والتجارب العالَميّة.

بقدر ما تتّفق الأدبيّات على محوريّة الانتخابات، فإنّها تختلف حول ما إذا كانت مُلائِمة لتأدية الغَرض في بلدان الصراع. هناك نوعان من الانتخابات المرتبطة بالصراع: انتخابات تجري في أثناء الصراع، وانتخابات تتمّ في فترة ما بعد طَيْ صفحة الحرب. تَجِد البلدانُ المَعنيّة نفسَها أمام خيارَيْن: إمّا إجراء انتخاباتٍ تنافسيّة، وما يترتّب عنها من تنافُسٍ وصراعٍ أملاً في أن تقوم الانتخابات بإجراء النقلة السحريّة إلى السلام والديمقراطيّة، أو اللّجوء بدل الانتخابات إلى إقرار جملةٍ من التنازلات اللّازمة لتحقيق السلام مثل تقاسُم السلطة والديمقراطيّة التوافقيّة والعفو الشامل والمُصالَحة. قد تكون الانتخابات فعلاً نقطةَ تحوّل بعيداً عن لغة البنادق، وتُسهِم في دعْم الانتقال الديمقراطي، لكنّها أيضاً يُمكن أن تكون، هي ونتائجها، ذات أثرٍ سلبي بحيث تُصبح أداةً لتوليد العنف والمزيد من انعدام الأمن وعدم الاستقرار.

دروس التجربة العالميّة

لم تكُن عمليّة إجراء الانتخابات دوماً الدواءَ الشافي لتقلّبات الصراع في العديد من الأماكن. وتوضح هذه التعقيداتِ أمثلةٌ عديدة مثل هايتي، حيث قوَّضت العيوبُ الإداريّة الانتخابات، وكمبوديا، حيث طَغت سياساتُ القوّة على العمليّات الانتخابيّة. كما لم تُسهِم المرحلةُ الانتقاليّة في البوسنة والهرسك وطاجيكستان في تجريد السياسة من السلاح؛ وفشلتِ النُّظم المؤقّتة الضعيفة في إضفاء الطابع المؤسّسي على صنْع القرار المُشترَك. ويُمكن التعرُّف إلى واقع ما جَلبه إجراء الانتخابات في بلدانٍ مثل سيراليون وأنغولا وهايتي والعراق وأفغانستان من انقساماتٍ وصراعٍ وضحايا وفساد.

تقدِّم لنا التجارب السياسيّة العالَميّة أيضاً نماذج لجهة أنّ الانتخابات أَسهمت في تحقيق الاستقرار، لكن ما يُمكن اعتباره نجاحاً، توقَّف في واقع الأمر على عوامل أخرى، كانت الانتخابات فيها إحدى النتائج الرئيسة للحوار الوطني وبناء السلام، كما حصلَ في ناميبيا 1989 والموزمبيق 1994 وكمبوديا وليبيريا. لكن ينبغي ألّا يغيب عن بالنا أنّ كثيراً من تلك النجاحات تعرَّضت لفشلٍ لاحق. كما أنّ الانتخابات كانت جزءاً من استراتيجيّة أو خطّة شاملة تُعالِج جذور الصراع، وليس مجرّد اتّفاقات تقاسُم سلطة تقوم على الاستبعاد والاقصاء. ولعلّ المثال الأبرز في الدلالة على أهميّة هذه الاستراتيجيّة هي تجربة جنوب إفريقيا، حيث كانت الانتخابات جزءاً من اتّفاقِ سلامٍ شامل استند إلى مبدأ المُصالَحة والعفو.

التجربة الانتخابيّة اللّيبيّة

بعد سقوط نظام معمّر القذّافي، تمَّ في العام 2012 إجراءُ انتخابات المؤتمر الوطني العامّ، وأخرى في العام 2014 لانتخاب مجلسٍ للنوّاب. البرلمان المُنتخَب تعرَّض للرفض من قِبَل القوى المُسيطِرة على سلفه، فاضطرَّ للعمل من شرق البلاد، بينما أعاد المؤتمر المُنتهي الولاية نفسه للمشهد، وشكَّل حكومةً خاصّة به لتنقسم البلاد على كلّ الصعد السياسيّة والأمنيّة. فشلت جهود الأُمم المتّحدة وبعثتها للدعم في ليبيا في نقْلِ البلاد من الصراع إلى السلام والمُصالَحة. أمّا اليوم، فإنّ حكومة الوحدة الوطنيّة التي نجمت عن مَسار الأُمم المتّحدة، باشرتِ العمل منذ آذار/ مارس 2021 لتنحصر دائرة نفوذها عبر الميليشيات في العاصمة، بخاصّة بعدما قامَ البرلمان الذي مَنحها الثقة بسَحْبِها منها في أيلول/ سبتمبر من العام ذاته، وكلَّف حكومةً بديلة رفضتِ الحكومةُ القائمة الاعتراف بها، وتسليم مقاليد البلاد لها، ليشكّل البرلمان حكومةً ثانية أيضاً، وليستمرّ الانقسام السياسي والمؤسّساتي في البلاد.

فجرٌ هشّ للديمقراطيّة

تمّ الاحتفاء بانتخابات العام 2012 باعتبارها علامةً فارقة تجاه الانتقال الديمقراطي في البلاد. لكن، وعلى الرّغم من أنّ حزب تحالُف القوى الوطنيّة حَصَلَ على غالبيّة الأصوات في مُواجَهة حزب العدالة والبناء، الذراع السياسيّة لجماعة الإخوان المُسلمين، فقد كان "العزْل السياسي" الذي اعتمده المؤتمر في أيّار/ مايو 2013 أخطر عمليّة إقصائيّة للفائزين، وفَتَحَ أبواباً جديدة للصراع والحرب الأهليّة عندما أَصبح المؤتمر الوطني مُعبِّراً عن مصالح ورؤى أطراف سياسيّة معيّنة بدلَ أن يكون صوتَ الأمّة والمُعبِّر عنها. هكذا ارتفعت الأصواتُ مُطالِبةً بانتخاباتٍ جديدة، لكنّ المؤتمر الوطني أراد التمديد لنفسه ليولد حراك: "لا للتمديد"، ما أدّى إلى قبول المؤتمر الوطني مضطرّاً إجراء انتخابات جديدة. هكذا، حتّى عندما يبدو أنّ أطراف الصراع تشترك في عمليّة سياسيّة، فإنّه لا ضمان للقبول بنتائج الانتخابات ذاتها، فتُصبح سبباً جديداً يُعمِّق الانقسامات والعنف. هكذا كان تنظيم هذه الانتخابات بعد سقوط النظام مباشرة، وقَبل أن يهدأ صوتُ البنادق سبباً لمزيدٍ من الانقسام وإرجاء الحوار الوطني الشامل، وبناء إطارٍ مقبول للمُصالَحة الوطنيّة.

انتخابات مجلس النوّاب 2014

جَرت انتخاباتُ مجلس النوّاب اللّيبي في 25 حزيران/ يونيو 2014 بينما كانت التحرّكات على الأرض تُنبئ بمعركةٍ مُقبلة لا محالة. لذلك لم تتعدّ نسبةُ المشاركة فيها الـ 18 في المئة. ومع اضْطرار البرلمان لعقْد الجلسة الأولى في طبرق، بلغَ الصراع ذروته، في حين أَعلنت الدائرةُ الدستوريّة في المحكمة العليا في طرابلس في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، أنّ الانتخابات غير دستوريّة ونتائجها بالتالي باطلة، فعزَّز ذلك من آثارِ العوائق التي حالت دون إقامة نظامٍ قانوني دستوري في البلاد، ومهَّد هذا الأمر إلى قيامِ صراعٍ شامل. لذلك جُمِّدت نتائج الانتخابات في العام 2014 وعُرقِلت عمليّة الحوار الوطني وقيام المُصالَحة الوطنيّة استطراداً، وفُتح الباب واسعاً أمام التدخُّل الخارجي.

هل الانتخابات مُمكنة؟

إنّ الانتخابات في زمن الصراعات الحادّة لا يُمكن أن تقود إلى حلولٍ لمُشكلاتِ التّنازُع على الشرعيّة وانقسام السلطتَيْن التنفيذيّة والتشريعيّة، كما هو الحال في ليبيا راهناً. لقد قادت الانتخاباتُ التي أُجريت بعد سقوط النظام السابق إلى مزيدٍ من الصراعات والفوضى والعنف والفساد. ولعلّه ممّا أثار السخرية والأسى أنّ ليبيا اليوم هي البلد الوحيد في العالَم الذي يُمكنكَ أن تخسر فيه الانتخابات البرلمانيّة ليتمّ استدعاؤك بعد اثنَيْ عشر عاماً لتكون عضواً في مؤسّسة البرلمان!!

على الرّغم من جهود الأُمم المتّحدة، تَرفض الأطرافُ المُتصارِعة الانتخاباتِ وتُعَرْقلها كلّما كان ذلك مُمكناً. هذا ما حصلَ في نهاية العام الماضي كما يوضحه ما يجري حاليّاً من خلافٍ بشأن القوانين الانتخابيّة التي أَنتجتها اللّجنةُ المُشترَكة بين مجلس النوّاب ومجلس الدولة الاستشاري (لجنة 6+6). في غياب الدولة ومؤسّساتها المَعنيّة والقويّة الموحّدة، يُصبح واقع الانتخابات أمراً أكثر تعقيداً ومثاراً للشكّ والرفض، حتّى قَبل إجرائها والتسليم بنتائجها، وربّما التزوير في ما يتعلّق بتسجيل النّاخبين وإجراء الانتخابات الحرّة المطلوبة.

نعم، تُبيِّن التجربة اللّيبيّة الحاليّة، أنّه كلّما بَدا الاتّفاقُ على الانتخابات وشيكاً، تتراجع الأطراف المَعنيّة عنه، وتبدأ في فعْل كلّ ما يُمكن لإعاقة الانتخابات، تماماً كما فعلَ مجلس الدولة بالنكوص عن موافقته على القوانين الانتخابيّة، أو كما عمل مجلس النوّاب بالتفرُّد بالقرارات خلافاً للاتّفاق السياسي.

اليوم، وبصرف النَّظر عن الاختلافات التي لا تنتهي بشأن القوانين الانتخابيّة والقاعدة الدستوريّة، فإنّ افتراض إجراء انتخابات يُواجَه بالعديد من الصعوبات أو التحدّيات التي لا تتركّز على المسائل السياسيّة فقط. وكما تُبيِّن لنا الأحداث والتصريحات المُتتالية، فإنّ حكومة الوحدة الوطنيّة مثلاً، والتي يترأّسها عبد الحميد الدبيبة (هو مرشَّح رئاسي مُحتمَل) صارت طَرفاً في الصراع، ولا يُمكنها ضمان الأمن ونزاهة الانتخابات. كما أنّه لا يُمكن، وعلى الرّغم من السيطرة الأمنيّة الظاهرة للقوّات المسلّحة العربيّة اللّيبيّة بقيادة خليفة حفتر في الشرق والجنوب، ضمان انتخابات حرّة ونزيهة، فهو أيضاً مرشّح رئاسي مُحتمَل. مع عدم إغفالنا ما يُمكن أن يقوم به المرشّح سيف الإسلام معمّر القذّافي ومُناصروه، فقد وصفه البعض بالقوّة القاهرة التي عرقلت عمليّة الانتخابات في العام الماضي. كما يجدر بنا ألّا نتغافل أيضاً عن أنّ تاريخ الانتخابات في ليبيا يحفل بشواهد تزوير متكرّرة.

إنّ إرساء الديمقراطيّة عمليّة محليّة طويلة تعتمد الجهات والظروف المحليّة، وليست حَدثاً قصير الأجل يديره المُجتمع الدولي. لذا، فإنّ من الحِكمة عدم التسرُّع في إجراء انتخابات تقود لوضعٍ كارثي، مثلما حدثَ منذ العام 2014، فقد أدّت الانتخابات إلى المُواجَهة، ثمَّ عمّقت من الإحساس بالإحباط والفشل، لدرجة باتت معها قطاعاتٌ عريضة من المواطنين، إمّا تتحسّر على زمنٍ ولّى أو صارت تُفضِّل أن يَحكم البلاد رجلٌ قويّ ينتشلها من الفوضى السائدة.

على الأُمم المتّحدة التخلّي عن فَرْضِ مُقارَبة السلام اللّيبرالي، وأن تَدعم حواراً وطنيّاً شاملاً للتوافُق على عقْدٍ اجتماعي أو ميثاقٍ للثوابت الوطنيّة الجامعة، بدلاً من إجراء الانتخابات وإملاء شروط العمليّة السياسيّة بشكلٍ مباشر.

أخيراً.. إنّ التسوية تَعتمد على وعي الأطراف اللّيبيّة بضرورة المُصالَحة وإرساء السلام، وقدرتها على حشْد المكوّنات الاجتماعيّة والسياسيّة وإطلاق عمليّة شاملة لاستعادة الدولة ومركزيّتها الفاعلة والمُتفاعلة.

*أستاذ السياسة والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللّيبيّة – طرابلس