التعليم و قيم المواطنة بين زمنين

إن التعليم هو قاطرة التنمية الحقيقية في العالم وهو المقياس الحقيقي لنهضة الأمم و الشعوب ،كلام لم يعد من قبيل الشعارات التي يرددها البعض في إطار الإستهلاك السياسي او الإعلامي.
حيث أن عمليات إعادة تطوير وبناء منظومة تعليمية في ظل إكراهات عولمة عارمة غزت البيوت و استباحت الأعراض و أختزلت المسافات بين العالم ضمن تحول إقتصادي رقمي مهيمن يتطلب أكثر من أي وقت مضي الوقوف علي الإخفاقات و مكمن الإختلالات البنيوية علي مستوي الإستراتجيات و السياسات و التجارب الماضية بغية تجاوزها و صياغة تصورات و مقاربات أكثر ملاءمة و واقعية.
إنطلاقا من أن التعليم في أي مكان من العالم يقوم علي اربعة عناصر أساسية : -
‐ المعلم .
‐ الطالب .
‐ المدرسة.
- المنهج الدراسي .
يشكل الإهتمام بها مجتمعة نواة إصلاح التعليم .
ففي الماضي كان التعليم يخضع لنظام و قوانين صارمة .
و كانت القيم السائدة حينها متأسسة علي ثقافة طورها الوعي الفطري للموريتانيين
فكان المعلم يستشعر القيمة الكبيرة لمهنته بصفته صاحب رسالة و ليس موظفا بدوام جزئي مما أكسبه تقديرا و احتراما كبيرين داخل الوسط المدرسي و المجتمعي .
كما كان يوجد بالمقابل تركيز علي صدق النوايا و حب الدراسة و الرغبة في التعلم و اكتساب المعرفة رغم ضعف الموارد و قلة الإمكانيات و صعوبة و سائل الإتصال و التواصل .
فكانت فترة الدوام تنقسم إلي فترتين صباحية و مسائية مما أسهم في تعزيز الجد و النشاط العملي و الإكتساب العلمي و المعرفي .
حيث تنشط فيها حركة الجميع معلمين و طلابا مشيا علي الأقدام لمسافات طويلة بغية الوصول إلي المدرسة دون ملل أو كلل ذهابا و إيابا .
إضافة إلي ما تمليه ظروف الإقامة أنذاك داخل العاصمة انواكشوط و غيرها من مدن الداخل وفي أحياء الصفيح و علي مستوي المناطق و الأوساط السكنية الشعبية من قبيل إنعدام الكهرباء و قلة الماء الشروب و بالتالي إجبارية المطالعة تحت ضوء الشموع أو مصابيح الزيوت ( اللمبة ) .
مرحلة أسست للتعاطي الجاد مع المنظومة التعليمية القائمة انذاك و التقيد بمجموعة من القيم و الضوابط و الثوابت الوطنية و الإنفتاح و الإندماج داخل الوطن الواحد كان لها الأثر الكبير في خلق جيل متعلم و متخصص له القدرة و القابلية علي خدمة الوطن و المواطن من مواقع مختلفة.
إذ تشير المعطيات التاريخية لمراحل نشأة الدولة الموريتانية و ما تلاها أن المدرسة العمومية كانت واحدة من الأجهزة الإيديولوجية و السياسية المتاحة أمام النخب التي مسكت الحكم و الدولة في فترة ما بعد الإستعمار فقد تم تسخيرها لخدمة هدف عملي تمثل في الأساس في تزويد الدولة الناشئة بالعنصر والكادر البشري المتعلم و المؤهل للإنخراط في النسيج الإداري و السياسي للدولة عززته وقوته عوامل و شعارات كشعار الوحدة الوطنية الذي عمل علي تجذير حالة من التجانس الثقافي والسياسي و ايجاد وضع شعبي إجماعي حول مشروع دولة الإستقلال حينها.
ساهمت التكوينات و التدريبات الخارجية لطلائع بعثات الطلبة الموريتانيين قبل و بعد الإستقلال في إتاحة الفرصة أمام الدولة الفتية للحصول علي أفواج من النخب مكنت من مرتنة الإدارة و تعويض إطارات الفرنسيين و الأجانب المغادرين و نجحت في ذلك عن جدارة.
من خلال بناء منظومة تعليمية قوية أسست لإصلاحات واسعة حققت إرساء الهوية الوطنية و أرست لمبادئ و قيم الجمهورية و مقومات دولة الإستقلال .
و غرس قيم المواطنة و الإبتعاد عن الفساد و الترفع عن أكل المال العام.
كما أسهمت في تكوين أجيال وطنية ساهمت لاحقا في بناء الدولة الحديثة و تعصير المجتمع.
لكن في بداية ثمانينات القرن العشرين شهدت الدولة الموريتانية منعطفا و توجها ليبيراليا علي غرار الدول النامية بضغوط فرضتها سياسات النظام الدولي حينها كانت لها التأثيرات و التداعيات المباشرة علي التغييرات الحاصلة في مختلف مناحي الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
حيث ترك خيار التخلي التدريجي عن الدور الإجتماعي للدولة ضمن رؤية ليبيرالية آثارا سلبية علي التعليم العمومي مسببا لمآزق متباينة ظهرت في الأساس في تآكل بناه التحتية و انعدام مقومات الجودة المعرفية البيداغوجية في ظل غياب سياسات إصلاح ناجعة من داخل قطاع التعليم. عززتها و دعمتها عوامل و تحولات إجتماعية كبري : -
‐ تغيير العقلية .
‐ طغيان المادة والجشع المالي..
‐ التخلي عن مبادى و قيم الجمهورية .
-تزايد الإقبال علي التعليم بحكم التوسع الحضري والإنفتاح في ظل تدني مستوي التعليم العمومي.
‐ تراجع الوسائل و البني المؤسساتي التحتية للتعليم.
‐ ضعف أجور و علاوات المعلمين والأساتذة.
- عدم ملاءمة و مسايرة المناهج التربوية المتاحة.
‐ إخفاق و فشل الإستراتيجيات و سياسات إصلاح التعليم القائمة انذاك.
‐ تصاعد استخدام و سائل التواصل الإجتماعي بشكل دائم و مفرط بين الأطفال و الشباب مما يؤثر سلبا علي أخلاقهم و اسلوب تفاعلهم .
‐ تراجع و تلاشي منظومة القيم الوطنية و الدينية و الثقافية و الأخلاقية ...،
بالمقابل وعلي شاكلة هذا التراجع الملحوظ للدور الريادي للمدرسة العمومية شهد قطاع التعليم الخاص الحر إزدهارا كبيرا بدأ ينمو ببطء في أواخر الثمانينات و بداية التسعينات ليشهد حالة توسع و هيمنة مستمرة خلال السنوات الأخيرة .
حيث أصبح هذا القطاع حاضنة لإستقطاب نزعة إجتماعية متطورة ضد واقع المدرسة العمومية للبحث عن مستقبل مدرسي ومهني أفضل للأبناء.
إذ أن جيلا واسعا من الآباء المصنفين ضمن الشرائح المتوسطة لم يعد ينظر الي التعليم العمومي بوصفه أداة للصعود الإجتماعي و الإندماج ضمن الهياكل الإجتماعية و الإقتصادية القائمة و إنما أصبح علامة للفشل و التخلف المعرفي.
لكن بعض المراقبين والمهتمين بشأن التعليم يرون أن القطاع الخاص لم يحقق هو الآخر المقاصد و الأهداف المرجوة من عملية التعليم و لا النهوض بالمستوى المعرفي .
و انه لم يعد بالأفضل و الأحسن من العمومي .
حيث تحول التعليم الخصوصي إلي بديل فرضته و ضعية التعليم العمومي و أملته ظروف مرحلة جديدة من الممارسات و التعاطي المادي
ساهمت في تكريس الطبقية و إبراز ملامح الفوارق داخل المجتمع الواحد و امتصاص جيوب المواطنين من خلال الدفع المستمر لرسوم و تكاليف الدراسة و مصروفات الدروس الخصوصية داخل البيت إضافة إلي أعباء المواصلات و ما تتطلبه المرحلة من ضرورة استخدام وسائل نقل خاصة أو غيرها من و إلي مؤسسات التعليم مهما قصرت أو بعدت المسافة .
دون ان ينعكس ذلك علي المستوي العلمي و المعرفي للتلاميذ و الطلاب او يحدث إضافة نوعية في ظل أزمات صحية و إقتصادية حادة دولية متكررة و مستمرة.
مما خلق ثقافة استهلاكية غير محدودة و كرس لمفاهيم و ممارسات أصبحت تميز المجتمع و تثير الإلتباس بين مفهومي الكماليات و الضروريات لدرجة يصعب التخلص من تبعاتها.
بالإضافة الي ما سبق شكلت الإرادة الصادقة و الجادة لدي رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ،توجها حقيقيا نحو إعادة بناء و إصلاح نظام تعليمي شامل قاعدي جسدته اللحظات الأولي من فعاليات يوم التعليم تحت شعار المدرسة الجمهورية مشروع إصلاح تربوي
للجميع وبالجميع برعاية من رئيس الجمهورية وبحضور واسع للأسرة التربوية ومنظمات آباء التلاميذ و هيئات التأطير و شركاء التنمية.
حيث أكد رئيس الجمهورية في خضم حديثه بالمناسبة و بالحرف الواحد : - ( أن بناء نظام تعليمي شامل ذي جودة عالية يفتح الآفاق أمام عبقرية شعبنا التي هي مورده الذي لا ينضب ،شرط ضروري في نجاح ما نعمل عليه جادين من مكافحة الفقر والبطالة و النهوض بالقطاعات الإنتاجية و محاربة الهشاشة و الغبن و العقليات الإجتماعية السلبية وغير ذلك.
إن الغاية من إصلاح مدرستنا العمومية يضيف رئيس الجمهورية حينها هي جعلها أكثر قدرة علي أن ترسخ لدي أبنائنا تعاليم ديننا الحنيف و قيم ثقافتنا العربية والإفريقية و قيم المواطنة و المساواة و التلاحم الإجتماعي وكذلك أن يتيح لهم جميعا خدمة تعليمية ذات جودة عالية منسجمة المخرجات مع متطلبات النهوض الشامل الذي تتوفر بلادنا اليوم علي مؤهلات معتبرة لتحقيقه ..) ...الخ .
حديث حمل رؤية واسعة مستنيرة و متبصرة نحو إصلاح تعليمي جاد علي أرض الواقع.
جسدته الخطوات والإجراءات المتخذة من بين أمور أخري أسست لإنطلاق فعلي نحو إرساء نظام تعليمي جمهوري و تعزيز الوحدة الوطنية : -
‐ كحصر السنة أولي أساسية علي التعليم العمومي خطوة هامة في الإتجاه الصحيح بدأت تأتي أكلها.
‐ تعميم الزي المدرسي الموحد داخل المدارس العمومية لإذابة الفوارق الإجتماعية و غرس قيم المواطنة.
بالتزامن مع ما شهدته البلاد مؤخرا من ورشات بناء و تشييد و اسعة لمدراس و جامعات و منشآت تعليم بمستويات متباينة لتعزيز البني التحتية .
و كذلك إطلاق مشاريع جديدة.
بالإضافة الي ما شهده قطاع التعليم الفني من تطوير و دعم مستمرين عبر إنشاء مدارس ومعاهد عليا ومتوسطة ستلبي متطلبات المرحلة والسوق في ظل إستثمارات هائلة و واعدة في مجال الطاقة و الغاز.
حيث أن التعليم الفني يعتبر من الأدوات الرئيسية لتحقيق برامج التنمية الشاملة للنهوض بالإقتصاد الوطني و توفير العمالة الفنية المؤهلة للقيام بكل المهام في مختلف التخصصات بدلا من الإستعانة بأخري فنية من خارج الوطن.
بتضافر جهود الجميع يبقي الأمل قائما بغية الوصول الي تعليم منشود من خلال الإرادة الجادة للتطلع الي خطط وبرامج تناسب البيئة والمرحلة.

وفق الله الجميع لما يخدم مصلحة البلاد والعباد.
اباي ولد اداعة.

-