دُول المغرب الكبير من منظورٍ واقعيّ الحبيب استاتي زين الدّين*

 

 

باستقراء مُختلف أفكار النظريّة الواقعيّة، نَجد أنّ أنصارها ينظرون إلى دولِ المنطقة المغاربيّة الخمس (المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا) على أنّها نامية، مُنقسِمة، ومُنكشِفة بسبب ضعف الحكامة وعُمق الخلافات والصراعات التاريخيّة بينها. وبغضّ النَّظر عن إمكاناتها الماديّة واللّاماديّة، ما زالت اقتصادات الدول المغاربيّة هشّة ضعيفة، وغير قادرة على مُواجَهة اقتصاديّات الدول العظمى، في ظلّ الانفتاح التجاريّ العالَميّ، كما أنّها غير قادرة على إيجاد فُرَصِ عملٍ لفئةٍ عريضة من شباب المنطقة...

تَفتحُ هذه الوضعيّةُ البابَ على مصراعَيْه أمامَ آفاتٍ اجتماعيّة خطِرة، من قبيل ارتفاع نسبة البطالة وتهديد الاستقرار الاجتماعي، إضافةً إلى ظاهرة الهجرة، وخصوصاً غير الشرعيّة منها، نحو بلدان الشمال. ومن بين أبرز المظاهر التي تتّسم بالخطورة، والتي أصبحت تدقّ أبوابَ المنطقة برمّتها، ظاهرة الإرهاب الذي يمتدّ على طول الساحل الصحراوي، من شمال مالي إلى دولة التشاد، مُتسلِّلاً نحو جنوب الجزائر، وهو أمرٌ لا يشكِّل مصدرَ قلقٍ بالنسبة إلى الدول المَعنيّة فحسب، بل إنّه يمكن أن يتمدَّد، على نحوٍ أفقي أو عمودي. ومن ثمّ، لن تصبح القضيّةُ قضيّةً جزائريّة أو موريتانيّة أو مغربيّة، بل قضيّةَ منطقة بأكملها. النتيجة أنّ بلدان المنطقة تظلّ محكومة في كثيرٍ من مواقفها، وبنِسَبٍ متفاوتة، بالميول الفرنكوفونيّة والغربيّة بداعي حاجتها إلى الحماية والدّفاع عنها وضمان أمنها واستقرارها مقابل الاستفادة من امتيازات ومعاملة تفضيليّة وغير عادلة في ما يتعلَّق بثرواتها ومشروعاتها.

هناك ربّما مَن لا يتّفق مع هذه القراءة المُتأتّية من قوّة المَركز (الهَيْمَنة الغربيّة) التي تُظهِر دولَ الأطراف (الدول غير القويّة من الناحية الأمنيّة والاقتصاديّة) كأنّها مسلوبة الإرادة، خاضعة لمنطق القوّة الدوليّة، وعاجزة عن التصدّي لاستغلالِ خيراتها بأقلّ الأثمان. كثيرون لا يرضيهم هذا التحليل الواقعي، ويجدونه غير مُنصِف ويُقلِّل من شأن الدول المغاربيّة على المستوى الدولي، مُستنِدين في ذلك إلى ما تزخر به من ثرواتٍ ثمينة يُفترَض أن تجعلها تُمارِس تأثيراً نوعيّاً على بنية النّظام الاقتصادي العالَمي. فمنطقة المغرب، أي "الأرض التي تغرب فيها الشمس" باللّغة العربيّة، هي منطقة شاسعة في شمال غربي إفريقيا، تغطّي قرابة 6 ملايين كيلومتر مربّع (أي ما يناهز 42% من مساحة العالَم العربي)، ويناهز عدد سكّانها 100 مليون نسمة. وكلّ البلدان المغاربيّة هي ذات اقتصاداتٍ بحريّة، بشريطٍ ساحليٍّ يبلغ طوله حوالي 6505 كلم، وتحتلّ موقعاً استراتيجيّاً بين الاقتصادات المتقدّمة في أوروبا عبر البحر المتوسّط في الشمال واقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء النامية ذات الإمكانات الكبيرة في الجنوب. وبلدان المغرب العربي متقاربة من الناحية الجغرافيّة، لكنّها متنوِّعة من الناحية الاقتصاديّة. يتساءل هؤلاء، وهُم مُحقّون في تصوُّر الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه أحوال الاجتماع والسياسة، عن السبب الذي لا يجعل المردوديّة الاقتصاديّة في دولٍ مُنتِجة للنفط والغاز مثل ليبيا والجزائر لا تتناسب مع المراتب التي يحتلّانها في التصنيف العالَمي. الأمر نفسه ينطبق على المغرب أيضاً، الذي يتوفّر، على سبيل المثال، على ثُلُث الاحتياطي العالَمي للفوسفات، وماضٍ في مُضاعَفة أرباحه من تصدير هذه المادّة ومشتقّاتها (من دون احتساب ما سيجنيه من مشروع إنتاج الأمونياك الاصطناعيّة). فهو يُعَدّ ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة، ويمرّ بمرحلة من التحوُّل التدريجي الملحوظ.

يتردَّد هذا التساؤل على الألسن، وما تزال الحناجر تصدح به في الفضاء العامّ، ويُتوقَّع أن تستمرّ ديناميّاته، وأن تتجدَّد وتتصاعد وتيرتها، بسبب العوامل الموضوعيّة المسؤولة عنها، والمُسبِّبة لنشوبها. المُلاحَظ، اليوم، أنّ ثمّة تراجُعاً عن بعض الطفرات التي تحقَّقت خلال العشريّة المُنصرِمة في سياق هذا الحراك في مَوجته الأولى، كما حصل في تونس والمغرب أساساً، وبشكلٍ مُتفاوتٍ جدّاً في الجزائر وليبيا وموريتانيا. وتدلّ جلّ المؤشّرات على أنّ ما كان يُنتظر من الديناميّات التي فَتحها الحراك منذ 2011 لم يُعطِ ثماره، بل حصل نكوصٌ واضحٌ بفعْلِ المَسارات التي حَكمتِ الحراكَ نفسه، والمناخ المُستجدّ بسبب جائحة كورونا، والسياسات التي صاحبتها. وعليه، من المرجَّح أن تدوم هذه الصورة الرماديّة والمُتأرجحة بين رعاية الاستمراريّة وفتْحِ فُرص الإصلاح من أجل التغيير لسنوات، اللّهم إلّا إذا استجدَّت ظروفٌ استثنائيّة، وهو ما لا نراه متوقَّعاً في المدى القريب.

لا أقصد بهذه الإشارات، تفاعُلاً مع التساؤل المطروح أعلاه، أن لا شيء أُنجز بقدر ما ألفت إلى أنّ أموراً كثيرة لم تُنجَز بعد، وأنّ ما تمّ إنجازه يحتاج إلى استثمارٍ وتطويرٍ دائمَيْن. ومهما كان الحُكم قاسياً، علينا أن نعترف بأنّ السياسة لا تُعالَج بالأماني، وأنّ هناك واقعَ حالٍ غير سويٍّ مُخيِّباً للآمال.

سمات الوضع السياسيّ والاقتصاديّ

تواجِه المنطقةُ المغاربيّة، وإنْ بدرجاتٍ مُختلفة، نقصاً ديمقراطيّاً يسهل الإمساك بمظاهره، سواء في باب احترام الحقوق والحريّات، أم من زاوية حُكم القانون والمؤسّسات، أم على صعيد عدالة توزيع الثروات والخيرات والمَنافع العامّة. من بين بلدان المنطقة، ثمّة بَلَدان نفطيّان مُنتِجان للغاز، وهُما ليبيا والجزائر. الأوّل يعيش تمزُّقاً لا تُعرَف على وجه اليقين سُبل الخروج منه منذ سقوط نظام معمَّر القذّافي، بينما يدور الثاني في حلقة مفرغة، حيث رَسَمَ البنكُ الدولي في أحد تقاريره الأخيرة صورةً مُقلِقة عن حال الاقتصاد الجزائري وآفاق مستقبله. وإلى جانبهما، تعيش تونس تجاذُباً سياسيّاً بلباسٍ دستوري وقانوني، بين رئيسٍ يطمح للتحكُّم في كلّ مفاتيح السلطة، وتعدُّديّةٍ حزبيّة ترى مصيرها في مهبّ الريح، بل ينتظر الكثير من قياديّيها وأعضائها مصيراً لا تبدو معالِمه واضحة. كما يبدو أنّ المغرب في حاجةٍ، هو الآخر، إلى قوّةِ دفْعٍ جديدة، تحفظ له استقراره، وتُسعفه في مُراكَمةِ مُكتسباتٍ نوعيّة أخرى في مجالَيْ العدالة الاجتماعيّة، ومنظومة الحقوق والحريّات.

أثَّر هذا التسلُّط سلباً على حركيّة الاقتصاد وإنتاجيّته وتنافسيّته، إذ كان لتحالُفِ المال والاقتصاد والسلطة نتائج وخيمة على تعميق التفاوُت بين مكوّنات المُجتمع: نخبة اقتصاديّة تَستحوذ على مُعظم خيرات البلاد، وبَنَتْ ثروتها بفضل اقتصاد الريع، مقابل اتّساع، مثلاً، فجوة اللّامساواة بين الأغنياء والفقراء، مع العِلم أنّ الفقر هو حالٌ من الحاجة المُستمرّة والشقاء الحادّ الذي يكمن خزيه في قوّته التي تُجرِّد الإنسان من إنسانيّته؛ فهو مهين، بحسب تعبير حنّة أرندت، لأنّه يَضع البشر تحت الإملاءات المُطلَقة لأجسادهم أو تحت الأمر الأساسي للضرورة، كما عرفها الناس من تجربتهم الذاتيّة الحميمة وخارج نطاق التخمينات كلّها.

المغرب الكبير: هل هو "إقليم" بلا إقليميّة؟

وفقاً للتفسيرات الواقعيّة، تُعتبر السياسات المحليّة المُتَّخذة من قِبَلِ السلطات السياسيّة المغاربيّة نِتاجاً حتميّاً للتنافُس الفرنسي مع باقي القوى في المنطقة للحفاظ على مصالحها، ومن ثمّة، الحرص على إدارة القوّة على نحوٍ براغماتيّ من الناحيَتَيْن الاقتصاديّة والأمنيّة. ما هو واضح في هذا الصدد، أنّ الرغبةَ في جَعْلِ "نادي النفوذ" ضيّقاً ما أمكن، عبر تسخير الآليّات الثقافيّة والماليّة والتجاريّة والأمنيّة، تُفضي، طوعاً أو كُرهاً، إلى اتّخاذِ قراراتٍ لفائدتها. لربّما يبدو أنّ هذا التعميم يتجاهل عقليّات الفاعلين السياسيّين المغاربيّين ونفسيّاتهم، ويفترض أنّ مسألة التآثُر بين الأسباب ونتائجها (أو بين النتائج وأسبابها) في السلوك الخارجي تجعل النتائج غير قابلة للتحوُّل الفجائي في مخاض التآثر إلى "أسباب لأسبابها"، أي أنّ أسباب حفظ المركز الاستراتيجي تظلّ ثابتة غالباً، تُقاوِم أيّ ديناميّة أو حركيّة طارئة، على الرّغم من أنّ الدول المغاربيّة تطمح إلى صَوْغِ سياسةٍ خارجيّة مستقلّة، لأنّها هي التي تُعبِّر بحقّ عن استقلالها الوطني. يُعبِّر الفيلسوف والاقتصادي الإنكليزي "ديفيد هيوم" (1711 - 1776) عن هذا التأثير الوثيق بقوله: "السبب نفسه يُنتِج دائماً النتيجةَ نفسها، كما أنّ النتيجةَ نفسها لا تَنتُج إلّا عن السبب نفسه". ولعلّ قراءة عالِم العلاقات الدوليّة الألماني "هانز مورغنثاو" (1904 - 1980) تُحيلنا إلى هذه المُقارَبة "الهيوميّة" الوضعيّة لمفهوم الأسباب التي تدفع بسلوكِ الدول نحو مُمارَسة التأثير. ويتكرَّر التصوُّر نفسه إلى حدٍّ ما مع واقعيّة "كينث والتز" البنيويّة التي تعتبر البنية الفوضويّة (اللّاسلطويّة) للنظام الدولي سبباً بنيويّاً ثابتاً للصراع.

تحليليّاً، يبدو أن ليس هناك من شيء تلقائيّ على مستوى النظام الدولي. فالأوروبيّون، مثلاً، براغماتيّون ويعرفون مصالحهم، لذلك هُم المُستفيدون من الانقسامات بين البلدان المغاربيّة وتعطُّل مشروع الاتّحاد المغاربي الذي من شأنه، لو دُبِّر بحكمة وبُعد نَظَر، أن يُحقِّق ثلاثة أهداف استراتيجيّة على الأقلّ: خلْق سوق إقليميّة تشمل قرابة 100 مليون نسمة يبلغ متوسّط دخلهم حوالى 4 آلاف دولار أميركي للفرد بالقيمة الإسميّة، وحوالى 12 ألف دولار على أساس تعادُل القوى الشرائيّة؛ زيادة جاذبيّة المنطقة كوجهة للاستثمار الأجنبي المباشر، وتخفيض تكاليف حركة التجارة ورأس المال والعمالة عبر بلدانها؛ تعزيز كفاءة تخصيص الموارد؛ إكساب المنطقة المغاربيّة مزيداً من الصلابة في مُواجَهة الصدمات الخارجيّة وتقلُّب السوق. لكنْ على الرّغم من الجهد المبذول من بعض دول المنطقة والمُجتمع الدولي، على نحوٍ مُستمرّ، فإنّ الإقليمَ ظلَّ بلا إقليميّة إذا جاز لنا استعارة عبارة "بول آرتس".

مردّ هذه الاستعارة أنّ فكرة اندماج المغرب الكبير، بوصفه إقليماً موحَّدا،ً ما زالت تتردّد في مكانها على الرّغم من المساعي الحميدة من بعض دول المنطقة والمُجتمع الدولي لتفعيلها؛ وذلك عائد إلى مشكلة الصحراء بين المغرب والجزائر، وشدّة التنافُس، وتضارُب المصالح، والتشديد على السيادة الوطنيّة، والارتباطات المؤسَّسيّة بين الدول المغاربيّة والقوى الخارجيّة، ولاسيّما الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة الأميركيّة التي تسعى بتدرّج إلى إحداثِ فراغ قوّة تتقدَّم نحوه في ما بعد. ولو كانت العلاقات بينهما طبيعيّة، قائمة على العروبة والأخوّة الصادقة، ولو كان الاتّحاد المغاربي منظّمة إقليميّة مفعَّلة ومؤثِّرة، لكان المغاربيّون قد تفاوَضوا مع شركائهم الأوروبيّين وغيرهم من موقع قوّة، ولكانت القدراتُ التفاوضيّة لدول الإقليم في المجالات ذات الاهتمام المُشترَك قد تقوَّت وتدعَّمت، بدلاً من تفاوُضِها منفردة، سواء مع الشركاء الاقتصاديّين الأكبر حجماً منها، أم مع المجموعات/ التكتّلات التي تنتمي إليها، أم في إطار منظّمة التجارة العالميّة ذاتها، ولاستفادوا، تبعاً لهذا الاندماج، من مزايا التكامُل الإقليمي من جهة، ومن فوائد علاقاتٍ نديّة مع شركائهم في أوروبا وغيرها من جهة ثانية.

*أكاديمي مغربي