(اليوم العالمي للصداقة 30 يوليو).

قبل نحو عامين استمعت لبرنامج في إذاعة "البي بي سي" يتحدث عن تجربة أطلقها شباب مصريون توفر "صديقا مؤجَّراََ"؛ إذْ يقولون إن الناس يحتاجون في بعض الأوقات صديقا ينجز لهم بعض أعمالهم؛ كأن يتولى عنهم توفير خدمات يحتاجونها، أو يرافقهم في سفر، أو إلى السوق، وقد يفتقدون الصديق الذي يقوم بتلك "الواجبات" فتتيح لهم خدمة "صديق أجير" أشخاصا(عملاء) يحملون الصفات اللازمة لقضاء ما يحتاجه "الزبون".
تذكرتُ - حينها - أهمية الأصدقاء في حياة الإنسان، وكيف كان دورُهم بارزا في حياة نبينا(عليه أفضل الصلاة والسلام، ورضي الله عن الصِّدِّيق)، ثم ذكرتُ جعْلَهم في القائمة مع الأقربين في النسب، بأكثر من آية قرآنية…
ذلك أن الصديق سند قوي مقدس، والصداقة من أقدس العلاقات بين البشر، فهي ميثاق عظيم، ولها فوائد كثيرة على الأفراد، بل قالوا إن الأشخاص الذين لايتمتعون بصداقات "وَفية" لاينجحون في المجتمعات، ويظلون في عزلة(سواء شعروا بذلك أو لم يشعروا به).
وقد تحطم "الصداقة" حياة إنسان فتكون علاقته بقرين سيئ - لايقدر ميثاق الصداقة - سببا في فشلِه أحيانا، وإلحاقِ الضرر به؛ لأنَّه أسند ظهره غير منتبه إلى أنه يتكئ على بيت عنكبوت!.
وهذا مبحث وموضوع نحتاج طرقه جميعا، لنستفيد من التجارب في مجاله، ونلزم حفظ العهد للأصدقاء، ونحذر من قرين السوء الذي يضعف قرينه، وربما طعنه من الخلف!.
وقد كتب العلماء والأدباء آلاف الصفحات في هذه العلاقة الكريمة وآثارها النفسية والاجتماعية، فوصفوا الصديق الصادق وضده، وبينوا قواعدَ وسُبلا تحفظ تلك العلاقة وتصونها من الضياع والذبول.
يقول أبو حيان التوحيدي، وهو الذي عرف الناس وغدرهم، وجرب الزهد في أمثاله من العباقرة:
لا ينبغي أن تغضب على صديقك إذا نصح لك في جليلك ودقيقك، بل الأقمن بك، والأخلق لك أن تتقبل ما يقوله، وتبدي البشاشة في وجهه، وتشكره عليه حتى يزيدك في كل حال ما يجملك، ويكبت عدوك. والصديق اليوم قليل، والنصح أقل، ولن يرتبط الصديق إذا وجد بمثل الثقة به، والأخذ بهديه، والمصير إلى رأيه، والكون معه في سرائه وضرائه، فمتى ظفرت بهذا الموصوف فاعلم بأن جَدك قد سعد، ونجمك قد صعد، وعدوك قد بعد، والسلام".
وكتب "ابن المقفع" عن الصداقة والتعامل مع الأصدقاء كلاما ثمينا في كتابه "الأدب الكبير" حيث يقول:
اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعُدّة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد، فلا تفرّطن في اكتسابهم، وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم".
والحق أنْ ليس هناك نصف صديق، ولا ربع صديق، ولا ثلثه… بل الصديق صديق كامل، أو لايكون!.
إلا الصداقة المبنية على "الأنانية" و"لبراگماتية" المطلقة، فهذه تدوم وتتشكل بوجود "الدوافع والأسباب" التي بنيت عليها أولاََ، وتزول بزاولها مباشرة، وقد تزول، ثم تعود، ثم تزول… ولاتتأثر بالصدمات السابقة، لأنها "سطحية" تتغذى على القشور، ولاتبحث عن درر الأعماق!.
ولعلها هي التي عانى منها شاعرنا العربي المتقدم "امرؤ القيس" حتى قال:
إِذا قُلتُ هَذا صاحِبٌ قَد رَضيتُهُ :: وَقَرَّت بِهِ العَينانِ بُدِّلتُ آخَرا
كَذَلِكَ جَدّي ما أُصاحِبُ صاحِبا :: مِنَ الناسِ إِلّا خانَني وَتَغَيَّرا.

محمد فال سيدنا الناء (افال)

وهو الذي يعول كثيرا على صحابه فلا تخلو قصائده من مخاطبتهم ووصف حالهم معه، كدأب الشعراء من بعده، فإن للشاعر صورة وظلا لايراه إلا في الصاحب والخليل، إليه يشكو ويبث أحزانه وعقابيلَ صباباته...
ومعاملة الأصدقاء خليقة بالاهتمام، فلذلك يسترسل الشيخ سيديَّ - رحمه الله - في وصيته ونصحه قائلا:
وَمَن كَانَ مِنكُمْ ذَا وِدَادٍ وَخُلَّةٍ == لِمُرْتَفِعِ الْأخْلَاقِ جَمِّ الْمَنَاقِبِ
لِيَسْحَبْ عَلَى عَيْبِ الْخَلِيلِ ذُيُولَهُ == وَيَسْتُرْ فَشَأْنُ الْخِلِّ سَتْرُ الْمَعَايِبِ
وَلَا يُنسِهِ قُبْحُ الطَّوَارِي إذَا أسَا == مُعَاشِرُهُ حُسْنَ الْخِصَالِ الذَّوَاهِبِ
خَلِيلِيَ لَا أُبْدِي إلَى مَن يَذُمُّهُ == طَلَاقَةَ وَجْهِي بَلْ عُبُوسَةَ حَاجِبِي
أُحِبُّ الذِي يَهْوَى وَأُبْغِضُ مَا قَلَى == وَلَسْتُ عَلَيْهِ إِنْ يَزِلَّ بِعَاتِبِ
إذَا مَا دَعَا يَوْمًا لِصَدْمَةِ حَادِثٍ == أَلَمَّ عَلَيْهِ كُنتُ أوَّلَ وَاثِبِ
وَلَيْسَ بِعَادٍ عَنْهُ تَهْوِيلُ خَطْبِهِ == وُثوبِي فَإِنَّ الْخِلَّ خِلُّ النَّوَائِبِ
وَمَنزِلَةُ الْإِخْوَانِ فِيهَا تفَاضُلٌ == فَمِنْهُمْ لَذِيذُ الطَّعْمِ عِندَ الْمُصَاحِبِ
وَمِنْهُمْ زُعَاقٌ لَا تُطاقُ طِبَاعُهُ == مُعَاشِرُهُ يَرْتَاحُ إذْ لَمْ يُقَارِبِ
وَمِنْهُمْ فَجُورٌ يُظْهِرُ الْوِدَّ كَاذِبًا == مَذَاهِبُهُ فِي الْكِذْب فَوْقَ الْمَذَاهِبِ!..
#تحية_وفاء_إليكم_أصدقائي