الزلازل.. جيولوجيا الأرض حين تتكلّم د. أحمد شعلان*

 

 

كوكب الأرض كوكبٌ متموضعٌ في المنظومة الشمسيّة بمدارٍ شبه دائريّ مستقرٍّ حول الشمس، بمعدّل مسافة 150 مليون كلم أو وحدة فلكيّة أو 8.2 درجة ضوئيّة. وهو يقترب من الشمس إلى 147.5 مليون كلم في 2 كانون الثاني/ يناير من كلّ عام، ويبتعد عنها إلى 152.5 مليون كلم في 2 تمّوز/ يوليو. والصورة التي التقطها المسبار الفضائي "كاسيني" من مداره حول كوكب زحل، يُظهر الأرض حبّةً صغيرة زرقاء تسبح بهدوء في الفضاء الوسيع.

لكنّنا كأرضيّين نعرف أنّنا على كوكبٍ حيّ، ناشط جيولوجيّاً ويتمتّع بِبنىً جوفيّة متحرّكة يُنتج تحرّكها البراكين والزلازل المدمّرة، وينتج أيضاً الحقل المغناطيسي الذي يحمينا من عنف الريح الشمسيّة. والأرض كوكب ناشط جيولوجيّاً بشكلٍ معتدل، فهو ليس خامداً مثل عطارد أو القمر أو المرّيخ... ولا ناريّاً شديد الاضطراب مثل كوكب الزهرة الذي تغمر سطحَه الحممُ البركانيّة السائلة مُشكّلةً أنهاراً وبحيرات من "اللافا" (تدفّقات الكتل الصخريّة المصهورة والسائلة) على سطحه.

وإن كانت الزلازل والبراكين مدمّرة وقاتلة أحياناً، لكّنها هي المهندس الحقيقي لتضاريس الأرض وجغرافيّتها؛ فالزلازل ترفع الجبال وتُشكّل الوديان، والبراكين تجدّد خصوبة التربة وتثري الغلاف الجويّ بالغازات والهواء الضروري لاستدامة الحياة وحماية بيئة الأرض الحيويّة.

قشرة الأرض ملعبنا غير الآمن

قشرة الأرض التي نعيش فوقها قليلة السماكة، تتراوح بين 10 كلم في قاع المحيطات، وأقلّ من 100 كلم تحت الجبال، ويمكن تشبيهها بقشرة التفّاحة نسبةً إلى حجمها. وهي مؤلّفة من لوائح منفصلة (تسمّى ألواح تكتونيّة) لا تتطابق تماماً مع الجغرافيا السطحيّة المعروفة. فالقارّات السبع (آسيا، إفريقيا، أميركا الشماليّة، أميركا الجنوبيّة، القارّة القطبيّة الجنوبيّة، أوروبا، أستراليا) تتوزّع على 9 صفائح رئيسة و12 صغيرة ثانويّة (وفقاً لأطلس العالم World Atlas). والصفائح الرئيسة هي: صفيحة أميركا الشماليّة، صفيحة المحيط الهاديء، الصفيحة الأوراسيّة، الصفيحة الإفريقيّة، صفيحة أميركا الجنوبيّة، الصفيحة الأستراليّة، الصفيحة الهنديّة وصفيحة أنتاركتيكا القطبيّة الجنوبيّة. أمّا الصفيحة العربيّة، فهي ثانويّة صغيرة لا تزيد مساحتها عن خمسة ملايين كيلومتر مربّع.

هذه الصفائح الصلبة التي تحمل في طيّاتها البحارَ والمحيطاتِ ليست ساكنة، بل تتحرّك فوق طبقة الوشاح الساخنة اللزجة في اتّجاهاتٍ مختلفة وسرعاتٍ متباينة تتراوح بين ميلّليمترات عدّة وسنتيمترات عدّة في العام.

وتَحدث الزلازل غالباً نتيجة اصطدام هذه الصفائح التكتونيّة. فعندما تصطدم صفيحتان وجهاً لوجه، تنضغطان نحو الأعلى لتشكّلا الجبال. وقد تغوص إحدى الصفائح وتندسّ تحت الصفيحة المقابلة فتنسحق وتذوب بحرارة الوشاح المرتفعة لتنتج ما يُسمّى بالصهّارة (أي الصخور المنصهرة) التي تراكم "الماغما" (التمازج) الجوفيّة وتؤسّس للبراكين. كما قد تنزلق صفيحةٌ تكتونيّة على صفيحةٍ أخرى فتشكّلان فالقاً يفصل بينهما. ويمكن أن تحدث الزلازل أيضاً داخل الصفائح، على الرّغم من أنّ الزلازل الحدوديّة للصفائح أكثر شيوعاً. أقلّ من 10 في المائة من جميع الزلازل تحدث داخل اللوحات الداخليّة. وتشهد الأرض ملايين الهزّات تحت الـ 3 درجات كلّ سنة، وآلاف الهزّات بين 3 و5 درجات، وعشرات الهزّات سنويّاً أكثر من 5 درجات. فما دامت الصفائح تتحرّك، لا بدّ للبشر الساكنين فوقها أن يشهدوا آثار تلك التحرّكات.

دليلنا إلى باطن الأرض

تترافق الهزّات الأرضيّة مع تموّجاتٍ في بِنى الأرض الجوفيّة والسطحيّة تُعرف بالموجات الزلزاليّة. وهناك ثلاثة أنواع رئيسة من هذه الموجات، ولكلّ نوع خاصيّة في السرعة وشكل التماوج وأفضليّة الانتشار.

النوع الأسرع يسمّى "الموجات الأوليّة" Primary waves أو موجات P، وهي موجات انضغاط على مسارها شبيهة بالموجات الصوتيّة، وقابلة للانتشار عبر كلّ الوسائط الصلبة والسائلة والغازيّة.

النوع الثاني يسمّى "الموجات الثانويّة" Secondary waves أو موجات S، وهي تصل بعد موجات P وتتماوج عموديّاً على اتّجاه مسارها، وهي ليست قادرة على عبور السوائل والغازات.

النوع الثالث يسمّى "الموجات السطحيّة Surface waves أو موجات L. وهي تنتقل أفقيّاً في كلّ اتجاه على سطح الأرض، انطلاقاً من المركز فوق بؤرة الزلزال. وعلى الرّغم من أنّها الأبطأ من باقي الموجات الزلزاليّة، إلّا أنها تتسبّب بالضرر الأكبر على البنى السطحيّة.

ولتحديد الفوالق الزلزاليّة بين الصفائح التكتونيّة، يلجأ الجيولوجيّون إلى دراسة سرعة انتقال الهزّات الأرضيّة وتشوّه موجاتها وتناقص قوّتها، بحسب الوسط الذي تعبره. وبات هناك في مناطق الأرض المختلفة، أجهزة استشعار للهزّات («سيسموغراف» Seismograph) تعمل على رصدها أينما ضربت، وبالتالي تتيح دراسة انعكاس الموجات الزلزاليّة على الحدود التي تفصل بين الصفائح التكتونيّة، مثلما تنعكس موجات الضوء على سطح المياه. وتحليل تلك الإشارات التي تسجّلها الأجهزة يتيح التكهّن بالتركيب الداخلي للكوكب، والتوصّل لبعض الاستنتاجات حول طبقات الأرض ومواصفاتها المختلفة، إضافةً الى رسم الفوالق التي تشكّل حدود الصفائح المختلفة.

هل للفلك تأثير على جيولوجيا الأرض؟

بعد الزلزال المدمّر الذي شهدته تركيا وسوريا مؤخّراً والذي أدّى إلى عشرات الآلاف من الضحايا وملايين المهجّرين المنكوبين، كثرت أحاديث القائلين باحتمال تأثير المذنّب الذي يصادف أن مرّ في سماء الأرض في أثناء هذا الحدث الجلل، وآخرين أرجعوا الحدث لاصطفاف بعض الكواكب مع الأرض.

بالنسبة إلى موضوع المذنّبات، فالمذنّب أو النجم المذنّب، هو أبعد ما يكون عن فئة النجوم. النجم كتلة هائلة من المادّة مشتعلة نوويّاً في مركزها، بينما المذنّب ما هو سوى كتلة صغيرة باردة من بضعة كيلومترات من ثلج وغازات متجلّدة، يدور حول الشمس مثل كلّ أجسام المجموعة الشمسيّة.

وهناك مليارات المذنّبات في حزام كويبر (بعد مدار نبتون) وغيمة أورت (الذي يغلّف المجموعة الشمسيّة أبعد من 20 ألف وحدة فلكيّة)، وبشكل يومي لدينا مذنّبات في سماء الأرض غير مرئيّة، إلّا حين تقترب جدّاً من الشمس ويتبخّر قسم من غلافها.

لكن نظراً لصغر كتلة المذنّبات، فإنّ جاذبيّتها بالكاد تكون قادرة على تجميع موادّها التي تلتقطها في أثناء سفرها في الفضاء، وهي تترك قسماً من ذيلها كلّما اقتربت من الشمس. والقسم المتروك من ذيلها على مدار الأرض، يهطل علينا كزخّاتٍ من الشهب كلّما مرّت الأرض فيه أثناء دورانها حول الشمس. لذلك، فإنّ اتهام المذنّبات بالتسبّب بالزلازل، هو أمر بعيد عن العلم والحقيقة.

أمّا في موضوع اصطفاف الأرض والكواكب، فما يؤثّر فعلاً على الأرض، هو اصطفاف القمر والشمس معها، في مرحلة المحاق (غياب ضوء القمر) أو في مرحلة البدر. وهذا ما يُنتج ظاهرة المدّ العالي بسبب قوّة المدّ/ جزر المشتركة للقمر والشمس معاً على الأرض.

وما يجدر بنا معرفته أنّ قوّة المدّ/ جزر ليست الجاذبيّة، بل هي ناتج فرق الجاذبيّة بين طَرَفَي الكوكب المجذوب. فقوّة جاذبيّة الشمس على الأرض هي أقوى بأكثر من 150 مرّة من قوّة جاذبيّة القمر على الأرض، بينما قوّة مدّ/ جزر القمر على الأرض، هي أقوى بمرّتين ونصف المرّة من قوّة مدّ/ جزر الشمس على الأرض.

وظاهرة المدّ/ جزر لا تعني فقط تقدّم الماء على الشاطىء في اتّجاه القمر، ثمّ تراجعها، فالمدّ/ جزر، هو قوّة تخفق قلب الأرض وتمطّط جسمها بحوالي 30 سنتم، وفقاً لخطّ القوّة في اتّجاه القمر، عاملةً على استدامة الديناميكيّة الجيولوجيّة للأرض ومراكمة الطاقة الجوفيّة في قلبها.. هذا التمطّط والتقلّص المتكرّران مرتين يوميّاً، يعني أنّ قوّة المدّ/ جزر تزوّد قلب الأرض بطاقة جوفيّة تراكميّة تضاف إلى الطاقات الجوفيّة الجيولوجيّة التي تحفظ حرارة قلب الأرض.

أمّا قوّة مدّ/ جزر الكواكب الأخرى في المنظومة الشمسيّة على الأرض فهي، حتّى حين اصطفافها، لا تزيد نسبتها مجتمعةً عن 30 جزء من مليون من قوّة مدّ/ جزر القمر علينا، وبالتالي فإنّ هذا الاصطفاف يبقى من دون أثر يذكر على تراكم الطاقة في جوف الأرض.

وماذا عن مفاعيل الأنشطة البشريّة؟

هناك عوامل من صنع البشر تزيد من احتمال حصول الهزّات وقوّتها. فإنشاء السدود الثقيلة في مناطق قريبة من خطوط الفوالق التكتونيّة تشوّه التوازنات القائمة على جانبي هذه الفوالق، وقد تُبطىء من سرعة الصفيحة أو تضغطها فتشوّه خطّ التماس مع الصفيحة المقابلة وصولاً إلى الاحتكاك أو الاصطدام أو التباعد، وهي الأسباب المعروفة لحصول الهزّات والزلازل. وفي زلزال تركيا الأخير تنبّهت الحكومة التركيّة إلى ما كانت تفعله خلال العقود الماضية من حبس مياه الفرات في سدود عملاقة، وأعلنت، إثر الزلزال الكارثيّ الذي ضربها مؤخّراً، عن نيّتها تفريغ عدد من هذه السدود.

وكذلك يمكن للإفراط في شفط المياه الجوفيّة عبر الآبار الإرتوازيّة، أن يؤدّي إلى ضعف في بنية الصخور الجوفيّة، ما يؤدّي إلى انهيارات جوفيّة تكون سبباً في الزلازل. كما أنّ استخراج النفط بكثرة، وتفريغ آبار النفط، من دون ملئها بالمياه لإعادة الضغط والتوازن لها، يؤدّي إلى مفعول مماثل لعمليّة شفط المياه. والخطر الجيولوجي الرئيس في المنطقة العربيّة الناجم عن نشاطات الإنسان، هو ضخّ النفط من الآبار.

كما أنّ للتفجيرات النوويَة خطراً حقيقيّاً في موضوع التسبّب بالهزّات الأرضيّة. وبصورة خاصّة، فإنّ التفجير النووي تحت الأرض أو تحت قاع البحر في منطقة ليست بعيدة عن الفوالق الزلزاليّة، يُحفّز بلا أدنى شكّ حركة الصفائح التكتونيّة، ويُراكم المزيد من الطاقة الجوفيّة قرب تلك الفوالق. ومنذ التجارب النوويّة الأولى في صحراء نيفادا الأميركيّة في خمسينيّات القرن الماضي، تبيّن أنّ الأمر يؤدّي إلى هزّات أرضيّة، بل إنه يخلق فوالق إضافيّة في باطن الأرض.

*ممثّل لبنان في الاتّحاد الفلكي الدولي