لومومبا: بعد 61 عامًا على اغتياله يعود مُنتصرا..

تحية عسكرية عند الإقلاع في بروكسل وأخرى عند الهبوط في كينشاسا. هكذا كانت مراسم توديع واستقبال "رفات" الزعيم الإفريقي الخالد باتريس لومومبا الذي اغتاله الغرب في 17 يناير 1961 في إقليم كاتانغا بالكونغو.
كان ذلك في الصباح الباكر، وقد أشرقت الشمس للتو فوق العاصمة كينشاسا، عندما هبطت هذه الطائرة المُعلَّمة بصورة "باتريس لومومبا" كأول رئيس وزير للكونغو وشعار يمجده باعتباره بطلا قوميا.. كانت لحظة تدفق للمشاعر والتأثر الشديد بالنسبة لأعضاء الوفد المرافق لتابوت الزعيم الأفريقي على متن الرحلة..
صرح قبطان الطائرة بأنه في غاية الإعتزاز بتوليه مسؤوليته إعادة "رفات" بطل النضال الوطني من أجل الإستقلال، إلى أرض الوطن بعد أكثر من ستين عاما. أما نجل الزعيم "رولان لومومبا" فقد قال: "أنا متأثر جدا.. وكنت أتوقع أن أرى حشدا أكبر من الناس، لكنني في غاية الـتأثر والحماس لهذه اللحظة.." وكان "رولان" قبل ذلك، قد وقع على سجل التعازي في سفارة جمهورية الكونغو الديمقراطية في بروكسل، واستقل هذه الطائرة إلى جانب تابوت والده باتريس لومومبا العائد إلى أرض الوطن.
كانت على متن هذه الرحلة- التي غادرت مساء الثلاثاء 22 يونيو 2022 ، من مطار ميلسبروك العسكري في بلجيكا- عائلة لومومبا وبعض أعضاء الحكومة الكونغولية بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي جان ميشيل سما لوكوندي، وبعض قدماء المناضلين الأوائل من أجل الإستقلال بالإضافة إلى فريق صحفي للتغطية الإخبارية..
مراسم جنائزية وطنية
في الكونغو الديمقراطية، رحبت سلطات سانكورو، وهي مسقط رأس باتريس لومومبا بمقدم الزعيم التاريخي، وفي مطار تشومبي، انتظر آلاف من الأشخاص في مقدمتهم رئيس البرلمان الكونغولي والعديد من أفراد أسرة لومومبا وأقاربه، تحت شمس حارقة من أجل أن يعيشوا هذه اللحظات الخالدة في التاريخ .
وهكذا بدأت في الكونغو رحلة الوداع الشعبي الأخير للزعيم لومومبا من خلال نقل جثمانه والتجوال به داخل البلاد لمدة أسبوع. كانت البداية نحو "أونالوا"، البلدة الأصلية للزعيم الكونغولي الراحل، الذي تمت تصفته جسديا في 17 يناير 1961 بإقاليم كاتانغا مع اثنين من رفاقه المعتقلين هما موريس مبولو، وجوزيف أوكيتو.
لقد كان ذلك القرار الذي أدى إلى هذه النتيجة المأساوية مُعبرا عن مدى اقتناع المعسكر الغربي آنذاك متمثلا في بلجيكا باعتبارها القوة الإستعمارية للكونغو والولايات المتحدة التي سيطرت على أصحاب القرار فيها، مقولة كانت تروجها الإستخبارات الأمريكية بأن لومومبا إنما يريد استقلال الكونغو ليسلمها بكل بخيراتها الهائلة للإتحاد السوفياتي.
في تلك الفترة و خلال سنة 1960، كان الغرب الإستعماري والإمبريالية قد اقتنع بأن لومومبا كان رجلاً خطيرًا، وأتخذ قرارا بأنه من الضروري تحييده سياسيًا أو حتى اغتياله جسديا.. وهو ما حدث بالفعل بعد اعتقاله وتعذيبه وإذابة جسده في حامض الكبريت، بحيث لم يبق منه سوى سن واحدة ظل أحد جلاديه يحتفظ بها لنفسه تذكارا طيلة أكثر من ستين سنة بعد اغتيال الزعيم لومومبا.
بعد هذه المرحلة، سيتجه الموكب الجنائزي شمالًا نحو إقليم كيسانغاني، حيث وُلد الإلتزام السياسي لباتريس لومومبا، قبل أن يتجه إلى إقليم لوبومباشي في كاتانغا. ثم يُنقل بعد ذلك نعش أول رئيس وزراء كونغولي إلى بلدة شيلاتيمبو، حيث أُعدم في عام 1961 مع اثنين من رفاقه في النضال.
أخيرًا ، ستكون عودة الموكب الجنائزي إلى كينشاسا يوم الاثنين 30 يونيو، حيث ستنظم لمدة ثلاثة أيام مراسم التشييع والدفن في ذكرى يوم عيد الاستقلال، بحضور المسؤولين الوطنيين والدوليين.
لومومبا.. والعرب
بعد أن تأكد الزعيم الإفريقي التقدمي الخالد باتريس لومومبا (1925– 1961)، وهو أول رئيس وزاء لجمهورية الكونغو الديمقراطية، أن المخابرات الأمريكية والبلجيكية تخططان جديا لاغتياله، قرر أن يُهربَّ عائلته وهم أربعة أطفال وأمهم إلى مصر الزعيم العربي-الإفريقي الخالد جمال عبد الناصر رحمه الله..
كانت عملية مخابراتية معقدة، نفذها عبد العزيز إسحاق، رجل المخابرات المصري الفذ في إفريقيا، ولعب الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية دوراً بارزاً في نجاحها، وكان وقتها برتبة «عقيد» وقائد للقوات المصرية المشاركة ضمن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الكونغو.
نجحت العملية ووصلت العائلة إلى مصر، حيث عاش أبناء «لومومبا» في بيت عبد الناصر وتحت رعايته الشخصية.. وكان ابنه الأكبر «فرانسو» يلعب كرة القدم ضمن فريق الزمالك مع بدايات جيل فاروق جعفر، مطلع سبعينيات القرن الـ20، وقد ظلوا يعيشون في مصر حتى نهايات السبعينيات، ثم عادوا إلى بلادهم مرة ثانية.
يروي نجل لومومبا «رولان» في منزل خالد جمال عبد الناصر، حيث كان ضيفاً عليه، قائلا: ««كنا أطفالاً لا نعرف ماذا يحدث، احتضننا والدي في البيت المحاصر قبل خروجنا خلسة قائلاً لنا: «خلُّوا بالكم من بعضكم وانتم رايْحين لأبوكم جمال عبد الناصر، وهو حيشوف مصلحتكم كويس». ويضيف «رولان»: «كان هناك اقتراح بأن يتم توزيعنا إلى كوامي نكروما في غانا، وأحمد سيكوتوري في غينيا، لكن والدي رفض وقرر أن نذهب جميعاً إلى بلدنا مصر ووالدنا جمال عبد الناصر».
يقول «رولان» في تفاصيل العملية المخابراتية المعقدة بأن عبد العزيز إسحاق كان يحمل جواز سفر دبلوماسي عليه زوجة له إفريقية، وقد وضعنا عليه بوصفنا أولاده، وأطلق علينا أسماء عربية، وفي المطار قاد سعد الدين الشاذلي، فرقتي صاعقة في مهمة تابعة للأمم المتحدة لتأمين المطار، لكن السر كان حماية عملية التهريب التي كادت أن تنكشف في المطار لشك أحد الموظفين في صور الأطفال الذي طلب رؤيتهم، لكن إسحاق رد بثقة: «الأطفال نائمون»، وكانت التنبيهات لهم بأن يناموا حتى لو كان تمثيلاً.
تكلم «إسحاق» بحزم قائلا للموظف: «كيف تتصرف هذا النحو مع شخصية دبلوماسية؟»، وكان هناك ضباط مصريون سريون حوله أسهموا في إرباك الموظف الذي خاف من وقوع أزمة.
أخيرا.. أقلعت الطائرة، وهبطت في الجزائر للترانزيت، ثم في برشلونة، وفي سويسرا يومين.. ومنها إلى مصر، وطوال تلك الفترة ظلت العملية سرية.. أما في مصر فقد تم الإعلان عن ملحمة وصول أسرة «لومومبا» بسلام إلى القاهرة..
أما اليوم، فيعود الزعيم لومومبا إلى بلاده مُنتصرا بعد 61 عامًا على اغتياله، وإلى جانب تابوته نجله «رولان » الذي عاش طفولته في مصر..

من صفحة محمد السالك ولد براهيم