كنت سجينا.....

تألمت كثيراً لأحداث سجن ألاگ، فقد خبَرت السجن، و خالطت السجناء، و عانيت مثلهم ظروف الاعتقال و تقييد الحريات، و ربيت الأمل كما يربّونه.

السجناء بشرٌ ألقت بهم الظروف في قعر مُظلمة، صودرت فيها حريتهم و أُهدرت كرامتهم، و عوقبوا على جرائم اقترفها بعضهم، تحت سطوة الظروف و قهرها، غير أن علاقة الجاني و الضحية، و السجين و السجان، ظلّت دليلاً قائماً على صدق توماس هوبز في قوله إن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.

تتفاوت سجون العالم في وحشتها و أُنسها.. بؤسها و رخائها.. فمن زنازين ألاگ الصمّاء إلى سجن Ny Anstalt في الدنمارك و سجني باستوي و هالدن في النرويج، و سولينتونا في السويد، حيث لا يتوقف الرفاه الذي يتوفر للسجين عند ممارسة pronzag. غير أن القاسم المشترك في الحرمان من الحرية يضع حداً لغبطة سجناء ألاگ البائسين للسجناء الاسكندنافيين، فكما يقول العصفور المتقلب في عليائه:

و لست أرضى قفصاً و إن يكن من ذهبِ

عشت تسعة أشهر في سجن دار النعيم، شهدت فيها على تعذيب السجناء، و على اختلاط مرضاهم المصابين بالإيدز بأصحائهم، و رأيت فيها الزنازين المكتظة كعلب السردين، حيث يزجّ قسراً بثلاثين شخصاً في غرفة لا تستوعب خمسة أشخاص.. رأيت مجانين مساجين يتجولون عراةً بين العقلاء، و يتغوّطون أمامهم على بلاط السراميك..

في هذا السجن رأيت ما يرق له قلب الحجر .. فلا غذاء و لا دواء، و لا غطاء و لا وطاء.. فغاية الرفاه أن يفطر المرء على حبات فستق و قطعة خبر ناسّة، و يتغدى بأرز أبيض كلون الجليد، حافٍ لا إدام عليه كأنه حمية نباتيين، أما العشاء “فمطلق ماءٍ تحته عصيد”..

فحدّث و لا حرج عن الجوع و سوء التغذية في سجون بلادي.

أتذكر أن سجينا قتل آخر، خلال مشاجرة على “انعايل الريّه”.. و أتذكر يوم نحر أحدهم العجوز المالي لأنه طلب منه أن لايطأ برجليه المتسخين البلاط أثناء تنظيفه له…

كان الملازم النحيل، كعيدان تنقية الأسنان، يتلذذ بتعذيب السجناء، و كأنه يروي في نفسه ظمأً سادياً لإذلال ذوي البنية الضخمة، الذين لولا قهر السلطة و جبروتها لطار شعاعاً من نفخة أقمإهم، كأنه ريشة في وجه إعصار..

لم يكن يغمض لنا جفنٌ بسبب حفلات التعذيب التي كان يقيمها الملازم في Champ de tir.

ملازم آخر كانت الغيرة السوداء تأكل قلبه، حين يقال إن السجناء يخافون من زميله أكثر.. فكان يعذّب السجين، و هو يقول له: أنا أشد بأساً أم فلان..

مرة جمع قائد حرس السجن “صلبان” السجناء المسيحيين و أناجيلهم و كتبهم الدينية، ناوياً حرمانهم من ممارسة عباداتهم، و حين تحدثت إليه: قال لي: إنها دولة إسلامية، و الشريعة تمنع ديناً غير الإسلام.. و بعد نقاش طويل بيني و بينه

تراجع الداعشي المختبيء في فكره عن قراره التعسفي..

عهدي بالسجناء في دار النعيم محرومون من الرياضة، و التشمس، و من مكتبة يطالعون فيها الكتب.. أما المخدرات و حبوب الهلوسة فأكثر توفراً من الهموم على قلوبهم.

دعك من فضائح مسيري السجون فأشكال و ضروب: أكل أموال السجناء و ودائعهم، و ابتزاز أمهات السجناء و أخواتهم، و استغلالهن جنسياً، بعد وعدهن بتسهيل ظروف السجين و تخفيف عقوبته و العمل على إطلاق سراحه.

أما المستوصف الذي كان يقوم عليه، خلال تلك الفترة، طبيب يدعى “فيصلاً”، يزوره غِباً، و لا يمكث فيه إلا حسوَ الطيرِ الثمادَ، فكان يتولى التمريض فيه كونغولي سجن لخطأ طبي أودى بحياة مريض.

إنها شذرة من قلادة السجون الأسطورية، لا تخطر فظاعتها على قلب.. فقد رأيت ما تنفطر له الأكباد من معاناة السجناء، و الدوس على كرامتهم، و هو ما ينبغي للدولة الموريتانية أن تعمل على تغييره، فتتقي في هؤلاء يوماً تقتصّ فيه الجماء من القرناء .