في ذكرى «الفاتح من سبتمبر» القذافي وأنا.. معاملة الأخ الأصغر لشقيقه الأكبر ---------------------------------------

لم تكن لنا صلات بليبيا الملكية لأنها كانت تدعم المغرب ضدنا، وإن كان دعمها له في غاية السرية، وتتصرف تجاهنا تصرفاً لائقاً عند الاقتضاء. فعندما كنت والوفد المرافق لي عائدين من القاهرة إلى تونس في أكتوبر 1964، اضطررنا للتوقف مدة 24 ساعة في طرابلس. وقد استقبلنا أحد الوزراء ومدير المراسم الملكية بالمطار وأحلُّونا أفخم الفنادق في طرابلس. ونظموا لنا زيارة للعاصمة ومتحفها الوطني. وأقاموا على شرفنا حفل عشاء فاخر وتحملوا كافة تكاليف إقامتنا بين ظهرانيهم. وإذا كانت حكومة الملك إدريس لا تعترف رسمياً ببلدي، فقد استقبلتني استقبال رئيس دولة في زيارة خاصة.
أما الجمهورية الليبية التي أعلنها معمر القذافي سنة 1969، فقد تعددت روابطنا معها وتنوعت بشكل ملحوظ، وخاصة في السنوات الأولى من قيام ذلك النظام الجديد. وفى 4 من سبتمبر، اعترفت الجمهورية الإسلامية الموريتانية بالجمهورية العربية الليبية التي اعترفت بدورها بموريتانيا يوم 5 من الشهر نفسه.
وبعد ذلك بقليل، بعث إلي القذافي وفداً ليعبر لي عن رغبته في إقامة علاقات متميزة بين بلدينا ولإبلاغي رغبته الملحة في أن يلقاني في أسرع وقت ممكن. ومن ثم فهو يدعوني إلى القيام بزيارة رسمية للجمهورية العربية الليبية ضمن أوائل الرؤساء الأشقاء. وبوده أن يكون البادئ بالزيارة، إذ هو أصغر مني، غير أنه تسلم السلطة للتو ولم يدعم بعد أركانها، مما يجعله غير قادر على مغادرة بلاده. وقد رددت عليه بأن الجمهورية الإسلامية الموريتانية مستعدة تماماً لتطوير التعاون الأخوي مع الجمهورية العربية الليبية إلى أبعد الحدود. أما زيارتي الرسمية لليبيا فسأقوم بها فور ما يسمح لي جدولي الزمني بذلك. وتمت إقامة العلاقات الديبلوماسية بيننا في 9 يناير 1970.
وقد توجهت إلى الجمهورية العربية الليبية في 11 مايو 1970 واستقبلني القذافي بحرارة أخوية بالغة. وقد أحاطني بعناية كبيرة خلال الزيارة كلها وتصرف معي باحترام تصرف الأخ الأصغر مع شقيقه الأكبر. وردد على مسامعي مرارًا أنه يريد أن يستفيد مما سماه "تجربتي وحكمتي". وقد حدثني كثيرًا، بطبيعة الحال، عـن الرئيس جمال عبد الناصر الذي يتجاوز إعجابه به الحد ويسعى إلى أن يجعله قدوةً ومرشداً في جميع المجالات. وقد شرح لي مطولا أفكارَه الثرية حول الأمة العربية ومستقبلها ولاسيما وحدتها وتحرير فلسطين. ورغم مثاليته وقلة تجربته، فقد كان صافي السريرة يتلمس طريقه.
أما بالنسبة لإفريقيا السوداء، فإن أفكاره أقرب إلى التشويش، وهو يعترف صراحة بجهله بهذا الجزء من قارتنا. ولذا قال لي: "أعول عليكم في تزويدي بـأفضل النصائح …". وكان يسعى بالأساس إلى إقامة روابط حسنة مع جيرانه مثل تشاد والنيجر ومع الدول ذات الأغلبية المسلمة وبالذات مع الشعوب المسلمة في تلك الدول. وقد حذّرته بشدة من هذا التصور الأخير، وبيّنت له أنه لا يمكنه باعتباره رئيس دولة أن يقيم علاقات إلا مع رؤساء الدول وحكوماتها ولا ينبغي له السعي إلى غير ذلك. وقد حذّرته بشدة من الأخطار الكبيرة والمشاكل الديبلوماسية التي يمكن أن يتعرض لها إذا ما أراد أن يبني علاقات مع الشعوب الإسلامية دون علم من حكوماتها. وقد وعدني باتباع نصيحتي وهو ما فعل في بداية أمره على الأقل.
وقد عملت في مناسبات عدة على تنظيم لقاءات بينه وبين بعض الرؤساء الأفارقة الناطقين بالفرنسية أمثال فرانسوا تومبلباي بمناسبة تشييع جنازة الرئيس عبد الناصر بالقاهرة، وهماني ديوري، وأحمد آهيدجو الذى دعوته إلى طرابلس عام 1971 بمناسبة الذكرى الثانية لوصول القذافي إلى السلطة، وليوبولد سيدار سينغور، وموبوتو سيسكو، وعمر بونغو، وصانغولى لاميزانا، وموسى تراوري، وماريان انكوابي وغيرهم… في قمة عدم الانحياز بالجزائر عام 1973. وقد اقترحت على القذافي، من باب الطرفة، أن يرافق موبوتو بالطائرة من الجزائر إلى طرابلس لتتكسر الحواجز بينهما ولكي يثبت للجميع أنه ليس ذلك الثري الجديد الذي يحتقر الأقل منه ثراءً. وقد ارتاح موبوتو لهذه الفكرة كثيرًا، خاصة أن الطائرة يقودها أول إفريقي يتولى قيادة طائرة من طراز DC8، وهو زائيري.
لقد كانت علاقات العقيد القذافي بتشاد والنيجر علاقات يجور بها الملاح طوراً ويهتدي، إذ راوحت بين التوتر والانسجام. وقد تابعتها عن كثب حتى الإطاحة بفرانسوا تومبلباي واغتياله، والإطاحة بديوري وسجنه. فكلا الرجلين كان يدعوني دوماً إلى "تهدئة تطرف ابن عمي" حسب تعبير الرئيس ديوري هماني. لهذا كنت مضطراً إلى أن أزور طرابلس عدة مرات لا من أجل العلاقات الموريتانية الليبية كما قد يُتوهم، وإنما لأنصح القذافي بالتهدئة والحذر في علاقاته مع جيرانه الجنوبيين المباشرين. وكان على الدوام يأخذ هذه النصائح بعين الاعتبار حتى 1974-1975. وابتداء من هذا التاريخ لم يعد يأخذها في الحسبان كثيراً. وعندما لاحظتُ ذلك قلتُ له ذات يوم إنني لن أكون المبادر بإسداء هذه النصائح إليه مستقبلا، "أما أنتم فبوسعكم أن تطلبوها مني متى شئتم وسأقدمها لكم شريطة أن تحترموا التعهدات التي تأخذون في إطار ما أقوم به من مبادرات، وهي الالتزامات التي سأطلع عليها نظراءنا رؤساء الدول الإفريقية المعنية". وقد تصرفت على هذا النحو لأن القذافي وضعني أحياناً، عن غير قصد منه بالطبع، في مواقف محرجة. فكثيراً ما كنت أتدخل لدى الرئيس القذافي، بطلب من أحد الزملاء، فيأخذ هذا الالتزام الديبلوماسي أو المالي أو ذاك فأحيط به رئيس الدولة المعني علماً. ويتصل هذا الأخير بطرابلس بحثاً عن محاور فلا يجد مجيباً. وكادت بعض القضايا تنتهي نهاية سيئة. ولا يخفى ما يتولد عن ذلك من إزعاج بالنسبة للجميع. وقد وجد كل من رؤساء النيجر وتشاد وزائير والغابون والكونغو وغيرهم، أنفسهم في مثل هذا الوضع المحرج بالنسبة لرئيس دولة.
ولا شك في أن أوضاعاً كهذه لا تعبّر عن إرادة مسبقة لدى الرئيس القذافي، وإنما هي ثمرة طبيعية للأوضاع في الجمهورية العربية الليبية. فما معنى ذلك؟ لا يخفى على أحد أن ليبيا كانت حتى الخمسينيات بلداً متخلفاً على المستوى التكنولوجي وفقيراً، لديه اقتصاد كفاف زراعي رعوي. وفجأةً أصبحت دولة غنية وأغرقها تدفق عائدات النفط بالدولار بين عشية وضحاها. وبما أن النظام الملكي المتداعي لم تكن لديه طموحات لا في الداخل ولا في الخارج، فإن الحديث عن ليبيا لم يكثر في سنوات ازدهارها الأولى. فبقيت تحكمها إدارة تقليدية في طور جنيني تفتقر إلى إطارات وبنى الدولة الحديثة.
ومع قيام ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 وميلاد الجمهورية العربية الليبية، ستنقلب الأمور رأساً على عقب، إذ كانت لدى القذافي ورفاقه طموحات كبيرة وكثيرة جداً. فقد كانوا يسعون إلى استثمار ثروتهم النفطية لفائدة الشعب الليبي داخلياً، والبحث عن الجاه عبر سياسة خارجية موجهة إلى العالم العربي وإفريقيا والعالم الثالث بوجه عام. لقد كان لدى هؤلاء، إذن، الكثير من الأفكار البناءة، وغير الواقعية أحياناً، كما كانت لديهم وسائل مالية ضخمة وطموحات كثيرة ترمي إلى أن تجعل من الجمهورية العربية الليبية دولةً حديثةً كبيرةً تطمح للتأثير في مصائر العـالم ولاسيما العالم الثالث الذى تريد أن تصبح في زمرة الدول التي تقوده. غير أن المشكلة الأساس بالنسبة للجمهورية العربية الليبية تكمن في كونها لا تملك من البنى ولا الأطر العصرية ما يتناسب وطموحاتها الخارجية رغم ما لديها من وسائل مالية كبيرة. وغني عن القول إن مثل هذه البنى وتكوين أولئك الأطر ومنحهم التجربة الضرورية مسألة لا تكفيها عدة سنوات بل تحتاج إلى عدة عقود. وسبق أن أوضحت أنه من باب تحصيل الحاصل أن عامل الزمن لا يمكن تجاهله بالنسبة لتطور الشعوب والدول-الأمم. ومن ثم، فإننا نلتمس كل العذر للرئيس القذافي فيما يتعلق بالمواقف الحرجة المشار إليها أعلاه. فقد كانت نواياه طيبة وخالصة، لكنه يفتقر إلى الوسائل الفنية والبنيوية لتحقيقها. وكان عليه أن يتمثل بقول كيوم دورانج Guillaume d’Orange: "ليس الأمل من مستلزمات الشروع في العمل، ولا النجاح شرطاً من شروط الاستمرار فيه". إنها فكرة صالحة لبناة دولنا الفتية في العالم الثالث، وأعرف ذلك من خلال التجربة!
ولنعد للحديث عن العلاقات الثنائية الموريتانية الليبية بوجه خاص، لنؤكد أنها كانت على الدوام علاقات طبيعية جيدة أو جيدة جداً في السنوات الأولى من حكم القذافي.
أما بالنسبة لي شخصياً، فقد ظل الرئيس القذافي يعاملني بتقدير واحترام؛ وهذا من باب لزوم ما لا يلزم. فمن المعروف أن العلاقات بين رؤساء الدول تطبعها الندية مهما كانت أصولهم الاجتماعية وأهمية بلدانهم. وقد كان سلوك القذافي في هذا المنحى متميزاً، خاصة وأننا كنا نحن الموريتانيين طلاب عون مالي في الغالب، وإن كنا نمد يد المساعدة على الصعيد الديبلوماسي. فكثيراً ما ساعدتنا الجمهورية العربية الليبية مادياً لاسيما عند إنشاء عملتنا الوطنية واتخاذ إجراءات وطنية أخرى اقتصادية وسياسية حدت من الامتيازات الفرنسية بالجمهورية الإسلامية الموريتانية ابتداء من 1973. وقد أثارت تلك الإجراءات حفيظة فرنسا التي حاولت خنقنا عقاباً لنا على تلك الإجراءات وتحذيراً للدول الإفريقية بمنطقة الفرنك من أن تحذو حذونا، وهو ما لم يقع.
وطيلة هذه الفترة لم تبخل علينا ليبيا بدعمها الديبلوماسي ولا بعونها المالي الذي كان حيوياً بالنسبة لنا بوجه خاص. فقد منحتنا قرضاً معتبراً وودائع مهمة لدى البنك المركزي الوليد، دعماً للأوقية، وأنشأت في الوقت نفسه مصرفاً في نواكشوط. وقد ساهمت هذه الإجراءات في ردع الأوساط الاقتصادية الفرنسية عندما رأت أن موريتانيا غير معزولة، فعدلت عن تنفيذ مشروع مقاطعتها الاقتصادية لبلادنا الرامي إلى إرغامنا على العودة إلى منطقة الفرنك. بيد أن فرنسا قد سعت إلى إزعاجنا حين رفضت منحنا حساب اعتماد لديها. وقد قامت ليبيا بحل هذا المشكل، ففتحت حساب إيداع في بنكنا المركزي أودعته المبلغ نفسه الذى كنا قد طلبنا من فرنسا اعتماده.
وعلى المستوى السياسي، تطورت علاقاتنا الثنائية بسرعة. فبعيد إقامة العلاقات الديبلوماسية، تتالت البعثات الليبية إلى موريتانيا إسهاماً في توطيد الروابط الأخوية العميقة بين شعبينا وتطويرها. وقد قامت بعض هذه الوفود بصفة خاصة بدراسة عمل حزب الشعب الموريتاني وسيره وطرق تأطيره الجماهير، لا لاستنساخ ذلك النموذج وإنما ليستلهموا منه في بحثهم عن أفضل سبل التنظيم السياسي وأكثرها ملاءمةً للحقائق الليبية. وقد قمنا بدورنا بإرسال عدة بعثات إلى ليبيا لنرى عن كثب تجربتها الناشئة في مجال التنظيم الجماهيري ونتعرف عليها أكثر. وحرصاً على دعم التعاون وتنسيقه بين الدولتين، قمنا مبكرًا بإنشاء لجنة وزارية مشتركة تجتمع بالتناوب في طرابلس ونواكشوط. ولم أكن، في بداية علاقاتنا، أتحدث مع الرئيس القذافي بشأن موضوع الصحراء تحديداً. وعندما نتحدث عنها عرضاً بهذه المناسبة أو تلك، أذكِّره بموقفنا الثابت من هذه القضية المتمثل في كون "الصحراء جزءا لا يتجزأ من موريتانيا اقتطعته منها القوتان الاستعماريتان الفرنسية والإسبانية اللتان تقاسمتا بلدنا. ويجب أن يصفى الاستعمار من هذا الجزء من أرضنا الوطنية أولا، ويعاد توحيده مع الوطن الموريتاني الأم ثانياً. وبما أننا عاجزون عن تحريره بالقوة بسبب ضعفنا الذاتي أمام المحتل، فقد حاولنا تحريره بالوسائل الديبلوماسية والتفاوض مع إسبانيا، وهي مفاوضات قمنا بها بطريقتنا الخاصة اعتباراً لما لدينا من وسائل ضغط محدودة". وكان محدثي في البداية متفقاً معي تماماً في الشطر الأول من رأيي. أما الشطر الثاني فيتفهمه، لكنه يقول لي إنه يرى بأن عملية التحرير يمكن التعجيل بها وأنه مستعد لمساعدتنا في ذلك دون إعطاء مزيد من التوضيحات. وغالباً ما يضيف قائلا: "إحذر من الجزائر أكثر من حذرك من المغرب، فكلاهما له أطماع توسعية، وكلاهما يشكل خطراً على بلدينا…".
وقد اختار فرصة الزيارة الرسمية التي قام بها للجمهورية الإسلامية الموريتانية من 15 إلى 19 فبراير 1972، ليتقدم باقتراحين لم أقبل بهما:
أولهما أن تنضم موريتانيا إلى "اتحاد الجمهوريات العربية"، وهو المؤلف آنذاك من الجمهورية العربية الليبية ومصر وسوريا. وكان من المفترض أن تنضم السودان إليه. وعلى الرغم من غرابة هذا الاقتراح، فقد تقدم به القذافي بكل جدية ولم تعزني الحجج لرفضه بصورة مهذبة.
أما الثاني فهو أن تقبل موريتانيا بإقامة قواعد عسكرية ليبية في شمالها من أجل محاربة الإسبان في الصحراء. "وتستطيع موريتانيا كما تشاء أن تساهم في هذه العملية أو تترك ليبيا وحدها"، كما قال. ورداً عليه شرحت له، مرة أخرى، موقفنا من قضية الصحراء وأخبرتُه بأننا على صلة مستمرة ببعض شيوخ ووجهاء القبائل الصحراوية وببعض الشباب الصاعد الذين بدأوا يزوروننا باطراد للاتصال ببعض المسؤولين السامين المكلفين من قبل المكتب السياسي الوطني والحكومة باستقبالهم والنقاش معهم ونصحهم وتوجيههم ومساعدتهم مادياً. وذكّرته أخيراً بأن قادة المغرب والجزائر وموريتانيا قرروا منذ قمة نواذيبو في سبتمبر 1970 انتهاج سياسة تشاور بهذا الخصوص، وأن هذه البلدان الثلاثة شكلت مع إسبانيا لجنةً مكونةً من وزراء الخارجية تجتمع دورياً وتتابع عن كثب تطورات هذه القضية. ثم أضفت قائلا: "إن موريتانيا، احتراماً منها لتعهداتها واهتماماً منها بسياسة التشاور في شبه المنطقة، لا تستطيع تحرير الصحراء في أي إطار آخر ولا تريده".
وقد أسهب مضيفي مجددا في الحديث معرِّضا بالجزائر والمغرب، ولكنني بقيت متمسكاً بموقفي. ومع ذلك فقد أعاد عليَّ السؤال نفسَه عدة مرات قبل اتفاقية مدريد في نوفمبر1975 وما بعدها.
وأتذكر، من باب النكتة، أن بعض الشبان المعارضين اتصلوا ببعض أعضاء الوفد الليبي أثناء زيارة الرئيس القذافي للجمهورية الإسلامية الموريتانية، ليحدثوهم عن انتقاداتهم اللاذعة لنظامي. فقال لي القذافي: "سأقدم لكم أسماء هؤلاء الشباب المعارضين ولائحةً بأهم انتقاداتهم لنظامكم، لأثبت لكم صدق نواياي تجاهكم".
وقد عرفت العلاقات الجزائرية الليبية توتراً شديداً عام 1974، أعطاني كل من بومدين والقذافي روايته عنه. وكاد الأمر أن يصل حدَّ القطيعة الديبلوماسية، بل كاد البلدان أن يدخلا في مواجهة مسلحة. فقد كان هناك تنافر شديد بين مزاج الرجلين، إذ كان بومدين يحتقر الغير ويعاني من عقدة الاستعلاء، بينما كان القذافي حساساً ويشعر بمركب نقص. وكان من الصعب "القيام بدور الوسيط" بين رئيسي الدولتين اللذين لم يكونا راغبين، مع ذلك، في الكشف عن حقيقة سوء تفاهمهما. ولا داعي لاستطراد العبارات التي كان كل منهما يصف لي بها الآخر، فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر.
مررت على طرابلس في 1974، ووجدت القذافي شديد الحنق على نظيره الجزائري. وما كادت مراسم الاستقبال تنتهي حتى بدأ يصب "لعناته" على بومدين حتى قبل أن نصل إلى قاعة الشرف. فما سر ذلك الحنق؟ يعود الأمر إلى أن إسرائيل قد هددت ليبيا، في أعقاب حرب أكتوبر، بسبب تدخل طائرات الميراج الليبية في الحرب إلى جانب مصر. وشعوراً من القذافي بعدم قدرته على التصدي بمفرده لهجوم إسرائيلي محتمل، طلب مساعدة بومدين. فقام هذا الأخير على الفور بإرسال سربين من طائرات الميغ للمرابطة في ليبيا.
وذات يوم كان بومدين حنِقاً على القذافي جراء كلام نسب إلى هذا الأخير، فأمر طياريه بالعودة إلى الجزائر دون إشعار نظيره الليبي. وقد ترك ذلك التصرف في شكله ومضمونه جرحاً غائراً في نفس القذافي وأحس بأنه قد طُعن بشدة في شرفه جراء هذا التصرف الوقح تجاهه كرئيس دولة. ولو كان بمقدوره القيام بأي عمل لغسل هذا العار لفعَله، لكن لم يكن بوسعه التصرف ضد الجزائر. وكان من الصعب علي أن أُسمع أياً من الرجلين صوت العقل، لاسيما الرئيس بومدين العنيد الواثق من قوته والغاضب من أقوال القذافي وأفعاله. ومع ذلك فقد انتهى بهما الأمر إلى أن ثابا إلى الهدوء.
وفى سنة 1975 حدث توتر جديد في العلاقات الجزائرية الليبية بسبب الصحراء. فقد بلغت رغبة ليبيا في التدخل في الصحراء بأي وسيلة كانت حداً جعلها تدخل السلاح والذخيرة والوسائل اللوجستية بواسطة قوافل من السيارات والجمال عبر أقصى جنوب الصحراء الجزائرية دون إشعار حكومة الجزائر. غير أن القوات الجزائرية انتبهت بسرعة إلى الخدعة الليبية، فأوقفت القوافل وصادرت وسائل النقل وحمولتها وسجنت مسيريها. وأصدرت الحكومة الجزائرية احتجاجاً شديداً وإنذاراً شديد اللهجة إلى الليبيين. ووصل الأمر ببومدين إلى حد التهديد بالانتقام إن عاودت ليبيا فعلتَها. وهكذا بدأت فترة جديدة من التوتر لا أعرف مسارها ولا مآلها، إذ أن تدهور العلاقات الموريتانية الجزائرية منذ منتصف 1975 عاقني عن لعب دور الوسيط بين الرئيسين مثل ما فعلت في الأزمة السالفة. ومن ثم فلست أعرف كيف تطورت تلك الأزمة التي لم أشأ بدافع الحذر أن أثيرها مع الرئيس القذافي.
ومهما يكن من أمر، فقد حصل تقارب رسمي جديد بين البلدين ابتداء من سنة 1976 إثر قمة عقدت بين الرئيسين في الجنوب الجزائري.
وسأعود مجدداً إلى تدخلات الرئيس القذافي لدي فيما يتعلق بالصحراء، وسلوكه أثناء حرب إعادة توحيد الوطن بوجه أعم.
وأثناء قمة منظمة الوحدة الإفريقية المنعقدة بكامبالا في يوليو 1975، طرح علي القذافي السؤال التالي: "كيف ستستقبلون مجموعة من أطر البوليزايو الذين ضاقوا ذرعاً بوطأة الوصاية الجزائرية ويرغبون في الالتحاق بإخوانهم الموريتانيين والاندماج في الشعب الموريتاني في إطار الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ وينبغي التنبيه إلى أن هؤلاء الأطر لم يتخذوا بعد قرارهم، وإنما أخذت على نفسي مبادرة طرح المسألة عليكم لتسهيل ذلك القرار دون تفويض من المعنيين. وباختصار، ما هي المكانة التي ستمنح لهم في موريتانيا إذا عادوا إليها بصفة نهائية؟". وقد أجبت قائلا: "إذا ما عاد هؤلاء الأطر إلى موريتانيا دون نوايا مبيتة بهدف الاندماج في وطنهم بعد فترة من التيه، فسيستقبلون استقبال الإخوة. ولن يقف الأمر عند العفو عن جرائمهم السابقة وجنحهم، بل ستوفر لهم كل الفرص في إطار ما تسمح به وسائلنا المتواضعة للمشاركة التامة في البناء الوطني إلى جانب غيرهم من الموريتانيين. وسيوظف من لديه منهم تخصص حسب تخصصه مدنياً كان أم عسكرياً. أما الباقون فسيستقبلهم ذووهم ويتقاسمون معهم ما بأيديهم". وقد أكد رضاه عن هذه الإجابة وأنه سينقلها إلى المعنيين ويحيطني علماً بردهم عليها. ولكنه لم يحدثني بعدها عن تلك المسألة. وعندما أثرت معه هذا الموضوع بعد ذلك بشهور، أجابني بأن هؤلاء قد عدلوا عن مشروعهم.
وما كادت المفاوضات الثلاثية الموريتانية المغربية الإسبانية تبدأ بمدريد، في نوفمبر 1975، حتى تدخل القذافي لينصحني بما نصحني به بومدين، من عدم الاشتراك في تلك المفاوضات. وبهذه المناسبة صرّح لي بقوله: "…عليكم ألا تشتركوا في هذه القضية، واتركوا الجزائريين والمغاربة يسوون مشاكلهم فيما بينهم…".
وبعد ذلك بشهر، أرسلت الوزير عبد الله ولد بيه إلى طرابلس لطلب مساعدة عسكرية عاجلة من العقيد القذافي في أعقاب الهجمات الأولى على عين بنتيلي و بئر أم القرين. وكان ذلك أول طلب مساعدة نتقدم به إلى دولة أجنبية بما في ذلك حليفنا المغرب. وقد أحال القذافي مبعوثي إلى قائد أركانه ليحدد معه حاجاتنا المستعجلة. ووقع المسؤولان الساميان الموريتاني والليبي على محضر يحدد كميات تلك الأسلحة ونوعياتها وإجراءات تسليمها وتاريخه. غير أن ذلك العون لم يقدم أبداً. وينبغي القول إنه منذ بداية حرب إعادة التوحيد الوطني، فإن عون ليبيا المالي لبلادنا قد توقف عملياً باستثناء الدعم الموجه للبنك المركزي. وقد قال لي القذافي بعد ذلك أثناء زيارتي الأخيرة إلى ليبيا في إبريل 1978 إن "الجمهورية العربية الليبية لا تساعد أبداً الإخوة العرب على الاقتتال فيما بينهم…".
وفى هذا السياق، ردد على مسامعي أكثر من مرة أن "نزاع الصحراء يؤرقني ويقض مضجعي. فهو من أقسى الصراعات التي عرفت. ولو اقتصر الأمـر على الحرب بين المغاربة والصحراويين لما شكل ذلك معضلة بالنسبة لي، وكان اختياري بالطبع بديهيا. أما وقد اشترك الموريتانيون في النزاع، فقد زاد الأمر إشكالا، إذ أكن لهم ما أكن لأشقائهم الصحراويين من محبة وتعلق. فكلهم إخوتي وبالتالي إخوة الشعب الليبي. فأسلافي قد قدموا من الساقية الحمراء… كما أن أسلاف بشير هوادي عضو مجلس ثورتنا ينحدرون من وادان. وتعود أصول كثير من القادة الليبيين الآخرين إلى أجداد قدموا من موريتانيا الحالية. فنحن وأنتم ذرية بعضها من بعض، ونحن آخر من يمثّل بحقٍ الأصالةَ العربية البدوية في المغرب العربي. أما الشعوب العربية الأخرى في المنطقة فقد اختلطت كثيراً بالأعاجم، بل إن بعضها ذاب في الأوروبيين. فلم يعودوا عربا أقحاحاً. ومن المؤسف حقاً أن يقتل بعضنا بعـضاً…".
وفى بداية 1976، أعاد القذافي الكرّة مجدداً، بعد تمركز جيشنا وإدارتنا فى تيرس الغربية، ليطلب منى بإلحاح شديد أن أخلي مدينة الداخلة كي يتسنى لجبهة البوليزاريو أن تعلن منها "جمهوريتها" وتقيم فيها، ولو مؤقتا، جزءًا من "حكومتها". وأردف قائلا: "… فإذا وافقتم على هذا الاقتراح، فإنكم مخيرون بين صيغتين قبلت بهما البوليزاريو: أولهما أن تتحد الجمهورية الإسلامية الموريتانية والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية وفق الشروط التي تختارها موريتانيا بملء إرادتها. وثانيهما أن تخلي بوليزاريو مدينة الداخله وتعيدها إلى موريتانيا بعد فترة وجيزة تسمح لها بإعلان استقلالها واعتراف المجموعة الدولية بها انطلاقاً من "أراضيها الوطنية". وتلتزم الجمهورية العربية الليبية باحترام البوليزاريو المطلق لأي من التعهدين يتم تبنيه. وفى هذا الإطار ستمنح العون المالي الذي قد تحتاج إليه الجمهورية الإسلامية الموريتانية، سواء اتحدت مع الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية أم بقيت بمفردها". وفى هذا السياق، فإن القذافي لم يتفوه بعبارة "شراء" تيرس الغربية لصالح البوليزاريو، ولكن ذلك هو فحوى كلامه. وقد رفضت بالطبع كلتا الصيغتين.
وباختصار فقد ظلت العلاقات بيني وبين العقيد القذافي جيدةً على العموم، منذ أن تولى السلطة وحتى الانقلاب العسكري الذي أطاح بي. فقد ظل على الدوام يعاملني بتقدير واحترام ويعبر لي عنهما بشكل أو بآخر حتى فيما بعد 1973-1974 عندما بدأ يشعر بالاطمئنان والثقة بالنفس بفضل الطفرة النفطية المفاجئة التي جعلت بلاده تتحول بين عشية وضحاها إلى بلاد غنية، وجعلته مركز اهتمام المتوددين ومحط رحالهم. ورغم كل هذا، ظل يعاملني معاملة الأخ الأصغر لشقيقه الأكبر، كما ظـل يحترم آرائي ونصائحي حول هذه القضية أو تلك كما كان الحال بالنسبة للحرب الإعلامية بين تونس وليبيا. ففي بداية هذه "الحرب" التي أغضبت كثيرا الرئيسين بورقيبه والقذافي وأثارتهما، أعلن الأخير عزمه على متابعتها حتى النهاية. ولكن عندما تدخلتُ وتنقلت بين تونس وطرابلس، انتهى الأمر به إلى قبول وساطتي معلناً على الملأ أنه ما كان ليثني عزمه لولا تدخلي. وهكذا توقفت تلك الحرب دون غالب ولا مغلوب بحمد الله.
وكان الأمر كذلك عندما بلغ التوتر ذروته بين تشاد وليبيا، فتدخلتُ لديه بطلب سري من الرئيس تومبلباي، فقبل وساطتي رغم ما تعرض له من ضغوط المعارضة التشادية في ليبيا.
المختار ولد داداه/ «موريتانيا على درب التحديات»

  من صفحة محمد ولد المنى