أطالع من وقت لآخر مقالات وتدوينات لجهات مختلفة ومتعددة تستهدف الجيش الوطني وتحمله كل ماهو سلبي من مظاهر الفساد وسوء التسيير والتخلف والفوضى والتزوير. ولذا أجدني مضطرا ان أتناول هذا الموضوع لأزيح بعض اللبس الراسخ فى أذهان البعض بوصفي كنت أحد أعضاء هذه المؤسسة وأعلم من أمرها ماغاب عن الكثيرين مما جعلهم يتهمون الجيش جزافا و يحملونه وزر مالم لم يقم به ويلصقون به من الأعمال الجارحة ماهو بريء منها. وسأتناول الموضوع على النحو التالي : أولا: تمهيد مختصر ثانيا :دور المؤسسة العسكرية على المستويين الوطني والإقليمي وانعكاساته ونتائجه. ثالثا : ظروف منتسبي الجيش الوطني. رابعا : خاتمة. تعتز كل الشعوب قديما وحديثا بمن يضحون فى سبيلها وتعطيهم الاحترام وتوليهم من التقدير بل و التقديس أحيانا ما يليق بمن يقدم دمه وروحه في سبيل حماية الآخرين والدفاع عن أرضهم وعرضهم. وتعتبر الجيوش فى عصرنا الحديث حامية البلاد والعباد والمدافعة عن الحوزة الترابية والمتصدية لأطماع الطامعين وكيد الكائدين ،ولذا نجدها في جميع البلدان الديمقراطية والأوتوقراطية خطا احمرا مقدسا لا يتطاول عليه أحد مهما زاغ وطاش،وتعتبره كل الأطراف محل إجماع، فهو رمز القوة وحصن الأوطان ودرعها . أما في بلدنا العزيز فالجيش فيه دائما عرضة للإستهداف والتنقيص والتقليل من أهمية الدور الذي يلعبه ونسبة كل المصائب اليه، قول يجمع عليه المثقف والأمي والمعارض والموالي إلا من رحم ربي وقليل ماهم. وإذا أجهدت نفسك لمعرفة سبب ذلك لن تجد له سببا وجيها يمكن أن يقنع أحدا ولو بصورة محدودة إلا إذا أرجعته لرواسب من تربية قديمة لدى الأجداد زرعت في النفوس توجسا وعداء دفينا لجيش المستعمر وانتقلت مع الأجيال لتلحق الجيش الوطني بعد تأسيسه خاصة أن الاستقلال لم يكن عبر حرب تحرير مما يكون قد ولد لدى البعض انطباعا أن جيش الاستقلال أمتداد لجيش المستعمر. كما ساهمت محدودية التربية المدنية في المناهج التعليمية وعدم موائمة ما يقدم من برامج وعجزها عن غرس الروح الوطنية وقدسية الرموز في الاذهان خلال تنشئة الأجيال. ففي كل بلاد العالم تعتبر مؤسسة الجيش مؤسسة استهلا كية غير ربحية مهمتها أمتلاك القدرات البشرية والمادية التي تخولها القيام بمهمتها الرئيسية والنبيلة وهي حماية الأوطان من التهديدات والمخاطر التي قد تتعرض لها وإبقاء الحوزة الترابية آمنة حتى يتمكن سكانها من القيام بأنشطتهم وأعمالهم بحرية وفعالية ولذا ينفق عليها من المال العام دون انتظار مقابل سوى توفير الأمن الذي بدونه لا يمكن لأي بلد البقاء . ونادرا جدا ما يطلب من المؤسسة العسكرية المساهمةفى القطاعات الإنتاجية ، ولذا لا يمكن ولا ينبغي تحميلها فشل القطاعات الأخرى لأن ذلك غير منصف وفيه ظلم كبير. فمؤسسة الجيش في موريتانيا كمثيلاتها فى العالم يدخل ضمن مهامها الدفاع عن الحوزة الترابية وحماية الحدود والمحافظة على كيان الدولة ووحدتها ، و هي لعمري مهمة بالغة الصعوبة نظرا لأتساع الرقعة الجغرافية وقلة السكان وتعدد الأطماع الخارجية، ومع ذلك فإن القوات المسلحة الموريتانية قامت بالمهام التي أسندت لها فى الدفاع عن الوطن بكفاءة عالية وشجاعة نادرة وبروح وطنية منعدمة النظير. وفي معظم الحالات تنفذ هذه المهام فى ظروف بالغة الصعوبة وبوسائل محدودة ومعدات بالية كما كان الحال أيام حرب الصحراء التي دخلناها دون تحضير وبمجندين جدد ومعدات قتالية قديمة ومتخلفة ومع ذلك حقق مقاتلونا انتصارات عديدة وفى معارك متعددة مثل زاد ناس- ميجك- وادان والقائمة تطول. ثم جاء الخلاف مع السنغال نهاية الثمانينات حين كانت قواتنا فى حال لاتحسد عليها وما إن دعى منادي الدفاع عن الوطن حتى لبت قواتنا النداء وتميزت بحضورها المكثف والفعال على طول الحدود ولقنت السنغاليين دروسا جعلتهم يقفون عند حدهم. ثم جاءت المواجهة الكبرى مع الإرهاب و الإرهابيين الذين انتشروا في البلاد من قواعدهم داخل مالي وانهارت أمامهم أعتا الجيوش وأعرقها تاريخا وافضلها تسليحا، ومرة أخرى أثبت المقاتل الموريتاني جنديا وضابط صف وضابطا قدراته الميدانية وكفاءته القتالية وتمكن خلال فترة وجيزة من فرض سيطرته على المنطقة كلها وأجبر الإرهابيين على التقوقع بعيدا داخل الحدود المالية. وبحق يعتبر الجيش الموريتاني الآن مع الا تشادي في المقدمة داخل منطقة جنوب الصحراء، فمساهمته في القوة الأممية لحفظ السلام في وسط أفريقيا وقبل ذلك في الكوديفوار أضحت مضرب مثل في الإنضباط والشجاعة والكفاءة القتالية. ولا أدل على ذلك من تمكن فصيل من الوحدة الموريتانية من التمسك بمواقعه وحماية قرية(تيكابرا) المكلف بالدفاع عنها أمام هجوم معادي من طرف المتمردين يفوق عدد هم تعداده أربع مرات. ومع ذلك تكبد العدو أكثر من أربعين قتيلا وخمسين جريحا في حين إستشهد أحد ضباط الصف برتبة رقيب رحمه الله وجرح بضع جنود جروحا متفاوتة. أما من حيث القدرات والكفاءة لدى ضباطنا فكل المدارس التي تخرجوا منها والمناورات والملتقيات التي شاركوا فيها مع الفرنسيبن والامريكيين أو مع الاخوة العرب والأفارقة كانت كلها شهادة امتياز لهم بالقدرة والكفاءة والتحمل والثقافة الواسعة . كما تميزت فترة ترأس بلادنا لقيادة القوة العسكرية لدول الساحل الخمسة،بالفعالية في مواجهة الإرهاب ومكنت من إعادة تنظيم القوة وتحديث هياكلها لتلائم متطلبات المواجهة وباعتراف وإشادة كل الأطراف المعنية بذلك بما فيها فرنسا. كما كان ضباطنا وجودنا محل إشادة وتنويه من طرف المسؤولين في قوة حفظ السلام في وسط أفريقيا مما خلق مكانة خاصة لبلادنا فى المنطقة والعالم وأعطاها مكانة وتأثيرا لم تستطع دول أكبر ان تتبوءه. لقد ظل جيشنا يقوم بكل المهام التى يكلف بها وبكفاءة عالية وهو يعيش ظروفا أقل ما يقال عنها أنها بالغة الصعوبة لئلا نقول سيئة ومع ذلك إستمر فى تأدية تلك المهام بجدارة وتفان فى حين كانت ظروفه العامة تحت المستوى المطلوب. فإذا علمنا أن راتب ضابط برتبة رائد كان حين مغادرتي للجيش لا يتعدى سبعا واربعين ألفا وراتب عقيد قائد منطقة بكل علاواته لا يتعدى ثمانين ألفا قديمة وأن الخدمات الصحية والإعاشة والإواء كانوا دون المستوى، وان الجندي آنذاك لا يتعدى راتبه خمسة عشر ألفا، أكيد سندرك صعوبة الظروف التي كان يؤدي فيها الجيش مهامه والتضحيات التى بذلها فى حين أن ابسط عامل يدوي كان راتبه الشهرى أكبر من ذلك. ومع ان الظروف تحسنت كثيرا إلا أن الرواتب فى الجيش مازالت أقل بكثير من موظفي الدولة الآخرين. وقد كتب كثيرون خلال السنوات الماضية ومازالوا يكتبون ومنهم المثقفون والسياسيون أن جنرالات الجيش يتقاضون ثلاثة ملايين والعقداء رواتبهم مليونا اوقية قديمةوالمفارقة الغريبة أن جنرالا بالجيش الموريتاني ومع كل العلاوات لايتعدى راتبه خمس مائة ألف اوقية قديمة ويأتي في ذلك بعد الولاة والحكام والقضاة وكثير من موظفي الدولة أما العقيد فلايصل راتبه أربع مائة ألف اوقية قديمة. والمحير أني قرأت مقالا أمس أرسله الي أحد الضباط السابقين يقيم فى أمريكا إستلمه بدوره من وسائل التواصل الاجتماعي يتهم كاتبه أربعة وثلاثين جنرالا حسب زعمه بالسيطرة على البلاد واستغلال مقدراتها ونهب كل ثرواتها الوطنية. ولايعلم كاتب المقال أن عدد جنرالات الجيش لايتعدى عدد أصابع اليدين بكثير ولايمتلك أحد منهم شركات ولا مصانع كما لايسير أحد منهم مرفقا عموميا او مؤسسة خارج المؤسسة العسكرية سوى واحدا هو مدير الجمارك الذي تضاعفت في عهده عائدات هذا القطاع عشرات المرات، فكيف والحال هذه أن يحمل الضباط مسؤولية نهب خيرات البلد والسيطرة على اقتصادها وهم لا تربطهم بذلك أية صلة؟ لقد ختم صاحب المقال مقاله بعد أن صب جام غضبه على الجيش والصق بهكل التهم والمنكرات بان كتب ختم مقاله عبارة: الجيش هو السبب. إن هذه العبارة وحدها ومكانها فى المقال توضح ان صاحب المقال متخصص في في الإثارة وبث الفتن واذا تصفحنا الكتابات الأخرى فى نفس الإطار، سيظهر جليا ان وراء مايكتب عن الجيش حملة منظمة تستهدف زعزعة ثقة المواطنين في جيشهم وابعادهم عنه وهي حملة خطيرة خاصة فى ظل تنامي الاضطرابات والفتن فى المنطقة. وقد أثبتت التجارب أن زعزعة الإستقرار فى أي بلد أو محاولة ضربه من الداخل تتم عبر إستهداف مؤسسته العسكرية ودق إسفين الخلاف بينها ومواطنيها من أجل تسهيل مهمة الاستهداف، وبذلك دمرت دول عديدة وتم تفكيك جيوشها، والدول التي إستطاعت البقاء موحدة ومتماسكة مثل الجزائر وسوريا واتشاد فبفضل قوة وتماسك جيوشها وتلاحم شرائح واسعة من مواطنيها مع تلك الجيوش. لقد أصبح الآن معروفا ان ربيعا عربيا أكثر تدميرا وفتكا يعد الآن له وهو يعتمد على على إثارة الأقليات سواء كانت دينية أو عرقية لإشعال الفتن فيها وتدميرها من الداخل، وعلى كل الذين يكتبون بنية صادقة أحيانا وبنوايا سيئة غالبا أن يتوقفوا عن محاولات بث الفرقة والفتن وضرب التلاحم بين المواطنين وجيوشهم ،فمحاولاتهم أصبحت مكشوفة ومعروفة لبداية إستهداف بلدانهم وزعزعة إستقرارها خاصة إذا كانت هذه البلدان فى مناطق ساخة ومهددة فى وحدتها واستمرار كياناتها .
محمد ولد فال