ما إنْ يأخذ المرءُ بالتّعريف الأنثروپولوجيّ للثٌّقافة بوصفها تعبيرًا عن الذّات وتمثُّلاً للعالم والأشياء، بتوسُّل أدوات التعبير كافة (الكلام، الصّوت، الحركة)، حتّى يُلفي نفسَه أمام قطاعٍ هائلٍ من التّعبيرات الثٌّقافيّة ليستِ النُّخبُ العالـِمة (من أدباء ومبدعين وكتّاب ومفكّرين...) من يقف وراءها أو من يُنْتِجها كتعبيرات.
حينها يقع التّسليم بوجود ثقافةٍ في المجتمع من نوعٍ خاصّ تصنعها فئات ليست مصنَّفة في خانة المثقّفين المتعلّمين، هي ما يطلق عليها اسم الثّقافة الشّعبيّة، في مقابل ثقافة أخرى عالِمة تُنتجها النّخب.
يشار إلى هذه الثقافة، أحيانًا، أو للدقّة، إلى فنونها على نحوٍ خاصّ، بما هي فولكلور. والتّسميّة هذه، على ما فيها من انزياحٍ في التّعيين، تَرُدُّ إلى حقيقة أنّ بعض المنتوج الثّقافيّ الشّعبيّ يبدو مُعمَّرًا في الزّمان، فيستمرّ تأثيرُهُ وتداوُلُه كموروث مُتَنَاقل من جيلٍ لجيل. ولا يقتصر الأمر، في الحال هذه، على موروثات شعبيّة عريقة مثل الحكايات والأساطير والنّقوش تملك، عادةً، خاصيّة الرّسوخ في الأذهان والأذواق أكثر من غيرها، بل تتعلّق بتعبيرات ثقافيّة أخرى من الخواصّ عينِها؛ مثل الغناء والرّقص وطقوس الاحتفال في الأعياد والأفراح والمآتم؛ فهذه أيضًا، مثل سواها، تتحوّل مع الزّمن إلى ما يشبه الدَّمغة التي تحدِّد سمات الشّخصيّة الجمْعيّة لشعبٍ مّا.
تتميّز الثّقافةُ الشّعبيّة، مقارَنةً بالثّقافة العالِمة، بأنّها أوسعُ انتشارًا وتداوُلاً في البيئات الاجتماعيّة، لأمرٍ معلوم: أنّ تداوُلَها لا يفترض تكوينًا ثقافيًّا عالمًا، كتداوُلِ المنتوج الرّوائيّ أو الشّعريّ أو الفكريّ... إلخ؛ فهي من نوعٍ "فطريّ" تُفْصِح الذّاتُ فيه عن نفسها بما هو متاحٌ لها من مهارات (لغويّة، صوتيّة، تخييليّة، حركيّة...). لذلك عُرِفت بأنّها ثقافة بَرّيّة Culture sauvage، تنشأ بالتِّلقاء مثلما تنشأ الأعشاب البريّة في الخلاء الطّلق. وهي تتميّز عن العالِمة، ثانيًا، بكونها أعرق في التّاريخ؛ لأنّها سابقة لتاريخ الكتابة وتقعيد آدابها وعلومها، وقد يكون تاريخُها هو تاريخ الإنسان نفسه، لا بضعة قرون هي عمر الثّقافة العالِمة. وإلى ذلك تتميّز، ثالثًا، بأنّ صانعَها والفاعلَ فيها هو الشّعب؛ لأنّ الأثرَ الثّقافـيَّ فيها ولو كان فعْلَ فردٍ (غيرِ معلوم) يشارِك متداوِلوه من أفراد الشّعب في صوغه بالإضافة والتّعديل حتّى يختفيَ في العمل منتِجُهُ الأوّل فيتحوّل إلى ما يشبه المنتوج الجماعيّ المعبِّر عن الذّات الجماعيّة.
ولأنّ الشّعب روافد اجتماعيّة متعدّدة، تصوغ شخصيّتَها المواريثُ المنقولة، وعلاقات التّساكُن وروابط الجوار، وتراثاتٌ لسنية مختلفة، ومنظوماتٌ من القيم متباينة المصادر، وحساسيّاتٌ جماليّة متعدّدة...، تتميّز الثّقافة الشّعبيّة من الثٌّقافة العالِمة بأنّها متعدّدة، بل فسيفسائيّة أحيانًا، وأنّ في تعدُّدها غنًى وثراءً يعبّران عن تعدّد خصوصيّات مكوّناته الثّقافيّة واللّغويّة والأنثروپولوجيّة والجغرافيّة (الجبل، السهل، الساحل، الصّحراء...). لذلك ليس في الثّقافة الشّعبيّة نمطيّة ثقافيّة واحدة وموحِّدة كما هي الحال في الثّقافة العالِمة أو الثّقافة الوطنيّة الجامعة؛ فهي تعبّر عن الجزئيّ والخصوصيِّ أكثر ممّا تعبّر عن الكلّيّ والجامع.
للأنثروپولوجيا الثّقافيّة فضلٌ كبير في تسليط الضّوء العلميّ على هذه الثّقافة الشّعبيّة، وفي نفض غبار الإهمال وأستار النّسيان عن تعبيرات إنسانيّة ثقافيّة وإبداعيّة أنتجها النّاس واحتفظت الذّاكرة الجماعيّة ببعضٍ منها. ولقد طالها الإهمال ممّن لم يَعُدّوا منتوجَها أثرًا ثقافيًّا بمعيار الثّقافة عندهم. ثمّ طالها النّسيان لأنّ تراثها غيرُ مكتوب أو مدوّن إلاّ في النّادر، وهو حين يدوَّن إنّما يُدَوّن بلغةٍ عالِـمة على الأغلب. ولقد كان للانتباه الأنثروپولوجيّ إلى هذه الثّقافة أنّ بعضَ الطّلب زاد على منتوجها وموروثها من قِبل الثّقافة العالِـِمة نفسها و، بالتّالي، قاد إلى بعض الاعتراف بها. ماذا نسمّي، اليوم، الدٍّراسات السّيميائيّة والأنثروپولوجيّة للأساطير والحكايات الشعبيّة القديمة؟ وماذا نسمّي الاستثمار الأدبيّ (الرّوائيّ والشعريّ والمسرحيّ...) أو الاستثمار الفنيّ (الموسيقيّ والتّشكيليّ والسينمائيّ) للموروث الشعبيّ؟ وماذا نسمّي الطّلب المتزايد على الفولكلور في المناشط الثّقافيّة في العالم كلّه؟ إنّه من ثمار ذلك الجَهد الذي بذلَه الدّرس الأنثروپولوجيّ في توسعة مفهوم الثّقافة، وفي تنبيهنا إلى هذه القارّة من التّعبيرات الثّقافيّة.
لا بدّ، هنا، من التّمييز بين الثّقافة الشّعبيّة والثّقافة الجماهيريّة، لأنّه كثيرًا ما يقع الخلطُ بينهما لمجرّد وجود مشتَركٍ بينهما هو سعة الانتشار. ليستِ الثّقافةُ الجماهيريّة ثقافةَ الشّعب، بل ثقافةُ الجمهور الواسع المحمولةُ على وسائط النّشر والتسويق الهائلة. وقد تكون ثقافةَ نخبةٍ لا ثقافةً شعبيّة، وهي في الغالب ثقافة نخبة. وليست سعةُ انتشارها دليلَ قمتها، فما أكثرَ الرَّديء والمنْحطّ الذي أصبح جماهيريًّا بل هو، على التّحقيق، الأكثرُ والأوفر.