في الصراعات السياسية أقرب شيء للمقارنة من وجهة نظري هو تلك القصة التي نقلها أحد الأصدقاء عن شجار بين مومس ومخنث، حيث بادرت الأولى قائلة أنت مخنث..، فعلق عليها قائلا: قبل كل شيء علينا أن ننطلق من شيء ثابت هو أنك مومس، وأنا مخنث، بعد ذلك نبدأ الكلام.
أحيانا أشعر بأنني أكره السياسة، والحقيقة أن بعض الكره يكون نابعا من التعلق، وأريد أن أعرف هل ما أعيشه تعلقا، أم غير..، والأكيد أن كل ذلك قد لا يعني شيئا..، أو قل لا يغير شيئا بالنسبة للكثيرين..
إن مرحلة ما بعد الخوف تختلف كثيرا، فهي إما أن تكون خرابا، ودمارا، ونهاية أمل، وحلم جميل راود شعبا بأكمله، ذات مساء مشهود..، وإما أن تكون بناء وتقدما، وازدهارا، وتطورا، وتنمية..
أنا أعتقد أن الحاكم يجب أن ينظر إلى المحيطين به نظرة شك حتى يميز الخبيث من الطيب..، وعليه أن يعرف جيدا أن تلك النظرة يجب أن ترافقه كلما طرأ طارئ..، فكثيرا ما يكون الحكام ضحية لأصدقائهم المفترضين.
في السياسة شيء يختلف عن إدارة كتيبة، أو جيش بأكمله، ففي هذا الأخير تراتبية وانسجام، وشيء من الانصياع أو قل الانبطاح، لا يهم..، لكن خوض غمار السياسة يفرض عليك خلع البزة العسكرية، وهو ما يفقدك الكثير من الألق في عيون رفاق السلاح، ويجعلك عرضة لألسنة حداد، يمتلكها قادة يتقنون فن المطالبة، والمخاصمة، وكشف عورات الحكام..، فالسياسة في هذا البلد عبر تاريخها لم تنتج حكاما، وإنما قدمت في الغالب نمطين من الرجال: بعضهم يسير في فلك النظام سواء كان قادما على ظهر دبابة، أو عبر صندوق الإقتراع، والبعض الآخر يتقن فن المراوغة مع الحاكم أيا كان، وبحسب القرب، والبعد، والاستفادة والحرمان، يكون ناطحا أو ناصحا.
ويجتمعان غالبا في التقرب من كل وافد جديد..
ما يحتاجه الموريتانيون اليوم هو قرارات صارمة تحسم الجدل الدائر، يعرفون من خلالها ما ستؤول إليه الأمور في جميع الملفات بغض النظر عن طبيعتها الاجتماعية، أوالقانونية أو السياسية..، المهم أن يشعر الجميع بوجود سلطة صارمة تحكمهم، وتنفذ ما تريد دون تردد ولا تخوف من مآلاته..، وبغض النظر عن التذمر الداخلي، أو التحفظ الغربي.
كل الأمور متوقفة على حل لغز ما بات يعرف بملف العشرية، وعلى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يعي جيدا أن إدارة هذا الملف من وراء الكواليس لم تعد ممكنة، ولا مقنعة، فإما أن يأمر بتقديم الملف أمام القضاء ليصدر حكمه النهائي، أو يصدر تعليماته بإلغاء المسطرة ويكون ذلك بشكل علني، فالتردد في اتخاذ القرار يمكن اعتباره أخطر سلاح يستخدمه الرجل ضد نفسه، كما يعتبر عامل دعم وقوة لمنافسيه.
فالموريتانيون بحاجة اليوم قبل كل شيء للتوقف أولا لمعرفة طبيعة معالجة رئيسهم لأبرز ملف يواجهه منذ وصوله للسلطة.
في تاريخ هذه المنطقة عندما تتصاعد الأزمات وتتراكم، لا شيء يجعل الحاكم في مأمن..، ففي الدولة الصفرية نهاية القرن 2 الهجري انقلب أبو المنتصر اليسع بن أبي القاسم على شقيقه إلياس، وفي دولة المرابطين انقلب يوسف بن تاشفين على ببكر بن عمر.
وفي العصر الحديث علق الملك الحسن الثاني رحمه الله، على سؤال عن الثقة التي منحها للجنرال أوفقير..؟ قائلا: على كل حال أنا لم أختره وإنما ورثته عن والدي.
وفي موريتانيا انقلب المصطفى ولد محمد السالك على المختار ولد داداه رحمهما الله، وانقلب معاوية على ولد هيداله، وانقلب اعل ولد محمد فال رحمه الله على معاوية، وانقلب محمد ولد عبد العزيز على سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله.
وقبل ذلك عرفت الإمارات المتصارعة في هذه الصحراء أيام السيبة انقلابات كثيرة..
والمؤشرات الآن تدل على أن محمد ولد الشيخ الغزواني قطع شعرة معاوية مع صديقه وسلفه في الحكم محمد ولد عبد العزيز، لكنه أبقاها سميكة مع غالبية المتنفذين من رجاله.
إن المستمع لحديث نواب الأغلبية أمام الوزير الأول قبل أيام، والمتتبع لمخرجات الإعلام العمومي الرديئة، والناظر إلى سحل النساء وضربهن في الشوارع يكتشف أن المحيطين بالرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يعيشون أزمة لم تعد صامتة، بل أصبحت ناطقة، وهو ما يتطلب من الرجل الكشف عن وجهه ومواجهة الواقع كما هو، فإما أن تكون قطيعة تامة مع النظام السابق برجالاته، ونوابه..، وإما أن تكون عودة صريحة لحضنه، وإما أن تذهب الأمور إلى مزيد من الغموض وغياب الرؤية..
وحدها جمهورية مالي الشقيقة ظلت انقلاباتها الأخيرة قادمة من خارج دوائر النفوذ في السلطة، كما هو حال انقلاب فرسان التغيير 2003..
إن البلد يشهد احتقانا يدرك المراقب العادي أنه مفتعل، ففي حين يقدم بعض الوزراء الجدد عملا متميزا في قطاعاتهم، وتلك سجية كل جديد..، ينشغل المتسيسون ورجالات الأنظمة المتعاقبة بصناعة الأزمات، ووضع العراقيل أمام الإصلاح المنشود، محاولين إزاحة كل من يقف في وجههم، مستخدمين الثقة الممنوحة لهم، إنهم يريدون الانفراد بالرئيس وإبعاد كل من تخول له نفسه تغيير الواقع الذي ساهموا في صناعته عبر الحقب المتعاقبة..
إنه صراع الأجنحة بين محترفين يتقنون تدجين الإعلام، وتوظيف المطبلين، ورجال جدد، وصلوا مركز صنع القرار، بتكليف من الرئيس الحالي يحاولون تطبيق تعليماته..، لكن الأمر أقوى منهم بكثير.
فنشر المكالمات الهاتفية الخاصة بات بضاعة رائجة، والأسعار في تصاعد، والدخل في تراجع، والقمع ثقافة..، والمؤتمون على أمن المواطن عاجزون، أو متورطون.
فهل يا ترى أسقطت المعارضة نظاما في هذا البلد..؟
أحمد سالم سيدي عبد الله كاتب صحفي