دور الإعلام في إصلاح القضاء

الخلل القضائي في بلادنا واقع لا مناكرة فیه ومن المجانف للصواب أن تعتقد السلطات أن النواقص القضائیة غیر ملحة وأن تدرجھا في قائمة المتطلبات الكمالیة القابلة للتأجیل ولأن جل المواطنین یتطلعون لسیادة العدالة، اعتبارا لانعكاسھا الإیجابي على تنمیة البلد وتحقیقھا لمصالح ساكنته ولما یترتب على غیابھا من ضرر، یجب على السلطات التنفیذیة والتشریعیة أن تضع إصلاح القضاء ضمن برامجھا الأولویة كما یتعین على القوى الوطنیة الحیة وعلى كافة المواطنین أن یساھموا في إقامة العدل وأن یستحضروا النیة كي یثابوا على إجابة أمر الخالق سبحانه {إن الله یأمر بالعدل والإحسان}.. ومع أن تشخیص الخلل القضائي یظھر حالة مرضیة معقدة یتطلب علاجھا التفكیر والتدبیر ولا سبیل للتغلب علیھا إلا بتوفر إرادة قاطعة لدى السلطات السیاسیة، فإن ثمة إجراءات مساعدة للإصلاح یمكن أن یسھم فیھا من لا یملك السلطة المادیة.. وأتناول في ھذه المعالجة دور الإعلام في إصلاح القضاء باعتبار العلنیة أحد المبادئ الأساسیة للمرافعات (I) وفي استعراض النواقص أكتفي بإعادة نشر مبحث "علنیة المرافعات" الذي كتبته سنة 1997 ونشر في كتابي "مباحث في سبیل العدل، معالجات لواقع التردي القضائي في موریتانیا وضرورات الإصلاح"، وھو مصنف صدر في مارس 2010 (II) وإذا نظرنا من حولنا نلاحظ أن حضور الصحافة في الساحة القضائیة للدول یتناسب طردیا مع مستوى سلاسة الممارسة القضائیة فیھا ولا غرو فكلما تأسست قرارات القاضي وسلمت من الأغراض الخاصة، كلما اتسع صدره لفتح الأبواب وتقبل المراقبین. وفي فرنسا - التي تربطھا ببلدنا أواصر قانونیة وتنظیمیة راسخة - توجد صحافة قضائیة متخصصة وتسعى السلطات إلى إزاحة العرقلة التشریعیة كي یتمكن الإعلام من نقل المرافعات ونقاشات الأطراف دون قید وبینما تسعى جل دول العالم إلى تحدیث وسائلھا الفنیة وتتقدم في تكریس علنیة القضاء وتفعیل شفافیته  (III)تكرس الممارسة القضائیة عندنا ثقافة التحفظ السلبي حیث یرفض جل القضاة الأضواء ویحترزون من حضور الإعلام وربما اعتبره بعضھم شرا وللتغلب على ذلك یتعین على السلطات الموریتانیة أن تعمل على وضع إستراتیجیة لإصلاح القضاء یكون من مرتكزاتھا الرئیسیة إزالة عراقیل العلنیة مما یتطلب إعادة النظر في المادتین 278 و362 من قانون الإجراءات الجنائیة اللتین تحظران تصویر وتسجیل مجریات المرافعات الجنائیة وفي انتظار العمل الرسمي الذي یتأخر عادة، یتعین على العاملین في القطاع القضائي أن یقوموا بالإجراءات المساعدة للإصلاح بتفعیل العلنیة والإفادة من مزایاھا ومن مسؤولیة المحامین، الذین یمثلون الأطراف، أن یطلعوا بواجبھم الإعلامي الذي یحقق خدمة مزدوجة یفید منھا موكلوھم وتنفع المرفق القضائي الوطني كما ینبغي على الإعلامیین الاھتمام بالقضاء من منطلق أن التفاتھم نحوه ینعكس إیجابا على أدائه (IV).

 

 I

یكرس القانون الموریتاني مبدأ علنیة الجلسات القضائیة في جل النصوص الإجرائیة المنظمة للقطاع وفي المساطر الجنائیة والمدنیة:

1. تنص المادة 5 من التنظیم القضائي على ما یلي: "تكون جلسات المحاكم علنیة إلا إذا كان في ذلك خطر على الأمن العام أو الأخلاق الحمیدة أو إذا كان محظورا قانونا. وفي ھذه الحالات یقرر رئیس المحكمة المعنیة عقد جلسات مغلقة. وفي جمیع الحالات فإن الأحكام والقرارات یجب أن ینطق بھا بصفة علنیة وإلا كانت باطلة".

 

2. تنص المادة 276 من قانون الإجراءات الجنائیة: "تكون المرافعات علنیة ما لم یكن في علانیتھا خطر على النظام العام أو الأخلاق وللرئیس عندئذ أن یأمر بأن تكون في جلسة مغلقة. وللرئیس أیضا أن یمنع القاصرین أو بعضھم من دخول قاعة الجلسة.

 

إذا تقررت سریة الجلسة فإن ھذه السریة تنطبق على النطق بالقرارات التي یمكن أن تصدر في الأحداث العارضة في النزاعات المشار إلیھا في المادة 286.

یجب دائما أن یصدر الحكم في الأصل في جلسة علنیة".

 

وتنص المادة 359 من قانون الإجراءات الجنائیة: "تكون الجلسات علنیة. غیر أن للرئیس أن یأمر بأن تكون خلف أبواب مغلقة إذا رأى في علنیتھا خطرا على النظام العام أو الأخلاق.

 

إذا أمر الرئیس بأن تكون الجلسة خلف أبواب مغلقة فإن ذلك یشمل النطق بالأحكام المنفصلة التي یمكن أن تصدر في الأحداث العارضة والدفوع وفقا لمقتضيات المادة 419.

 

أما الحكم في الأصل فیجب دائما أن ینطق به في جلسة علنية".

 

3. وفي المادة المدنیة تنص الفقرة الثانیة من المادة 77 من قانون المرافعات المدنیة والتجاریة والإداریة على ما یلي: "وتكون الجلسات علنیة ویتولى الرئیس حفظ نظام الجلسة".

 

أما فیما یتعلق بالعراقیل فتنص المادة 278 من قانون الإجراءات الجنائیة على ما یلي: "عند افتتاح الجلسة یحظر استعمال أي جھاز للتسجیل أو الإذاعة أو كامیرا أو تلفزیون أو أجھزة للتصویر أو ھواتف نقالة تحت طائلة العقوبات بغرامة من ثلاثین ألف أوقیة إلى ستین ألف أوقیة ویمكن أن یحكم بھا حسب إجراءات الحكم في الجرائم المرتكبة في الجلسة".

 

ویتطابق نص المادتین 362 و278 من قانون الإجراءات الجنائیة لولا أن المذكورة أولا زادت على سابقتھا في الترتیب الرقمي بذكر السینما.

 

II

ولوصف الواقع أعید نشر مبحث "علنیة المرافعات" الذي كتبته، سنة 1997، في مذكرة تحت عنوان "أضواء على القضاء الموریتاني" التي نشرت في كتابي "مباحث في سبیل العدل، معالجات لواقع التردي القضائي في موریتانیا وضرورات الإصلاح" وھو مصنف صدر سنة 2010 (الصفحات من 70 وحتى 75).

 

1. إن المحاكم منابر یتداعى إلیھا الخصوم لتمیز الحق من الباطل ویؤمھا العموم لیشھد مجریات المرافعة وأحكام القضاة. ھذا ھو التعریف المبسط الذي یذھب إلیه الإنسان العادي، لا تذكر لأحد القضاء إلا وتداعت إلى ذھنه قاعة بھا قضاة ومرافعات تعرض للوقائع وتذھب مذاھب في تفسیر النصوص لتشكل مخاض الحقیقة التي تنكشف بالحكم، وإذا جرت محاكمة ما وراء أبواب موصدة فإنه ینتاب الجمیع شعور بأنھا ستكون إجھاضا للحقیقة ولن تتوفر فیھا الضمانات التي تعطي الحیاة عادة لحكم صحیح وینص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته العاشرة على حق كل شخص في أن تسمع دعواه علنا من طرف محكمة مستقلة ومحایدة وللقاعدة قیمة القواعد الدستوریة في موریتانیا، كما تقرر قوانین الدول المتمدنة علنیة المرافعات كمبدأ ثابت. ومن منظور الشریعة الإسلامیة یجب أن یقعد القاضي في مكان عمومي لائق یصله الجمیع فإن عدم ففي المسجد ملتقى الأمة.

 

2. وتنص المادة 5 من الأمر القانوني رقم 2007/012 الصادر بتاريخ 8 فبراير 2007، المتضمن للتنظيم القضائي على ما يلي: "تكون مرافعات جميع المحاكم علنية إلا إذا كان في ذلك خطر على الأمن العام أو الأخلاق أو إذا كان محظورا قانونا. وفي ھذه الحالات یقرر رئیس المحكمة المعنیة إقامة المرافعات خلف أبواب مغلقة. وفي جمیع الحالات فإن الأحكام یجب أن ینطق بھا بصفة علنیة وأن تكون مسببة وإلا كانت باطلة".

 

وتنص الفقرة الأولى من المادة 78 من قانون المرافعات المدنیة والتجاریة والإداریة على ما یلي: "وفي الیوم المحدد بالاستدعاء یمثل الأطراف أنفسھم أو بواسطة وكلائھم ویستمع إلیھم حضوریا".

 

3. ھذا ما نص علیه المشرع وكرره في أكثر من مادة ولكننا في الواقع لا نقدره حق قدره فغالبا ما یكتفي الأطراف في مرافعاتھم بالمطالبة بإدراج القضایا في المداولة، وفي بعض الأحیان یتأھب البعض لعرض قضیة ما علنا إلا أن الرئیس یسكته دون ذلك مطالبا بتضمینه في مذكرة، حتى أصبح یخیل إلى البعض أن العلنیة مسیئة للعدالة وأصبح مألوفا أن یقف المحامي قائلا إنه لن یرافع وإنما سیكتفي بمذكرة وأن تستقبل المحكمة إحجامه بارتیاح زائد ونحن بذلك نفرغ علنیة المرافعات من محتواھا ونعضل إرادة المشرع ونضیر العدالة.

 

فحكمة المشرع الكامنة في علنیة المرافعات تتمثل في أن تنثر القضیة، موضوع النزاع، أمام ھیئة لا یھمھا التستر على كائن من كان بقدر ما تھمھا الحقیقة وأن تثار النصوص القانونیة التي تشكل مرجع الحل أمام القضاة الذین سیحكمون فیھا تاركین لجمھور العدالة إصدار حكمه بالاستناد إلى معطیات القضیة فكل حضور العدالة قضاة إلى حد ما، كما أن القضاة قد یصبحون في میزان المجتمع وحتى في منظور القانون أطرافا كما سبق.

 

وعلاوة على ما في العمومیة والعلنیة من إمضاء لإرادة المشرع بشكل صحیح، فإن فیھا شد لأزر القضاة الذین یجدون في الحضور عونا وعضدا یساعدھم في التغلب على مؤثرات المجتمع – وما أكثرھا بین ظھرانینا – ویحفزھم على القیام بمھمتھم الشاقة، فحري بھم أن یسھروا على عرض القضایا علنا أمام الله والناس وأن یستمعوا في تؤددة وبدون ضجر، كما ھو خلیق بھم، إلى مواقف الخصوم بحضور الشھود "عیون العدالة وآذانھا" كما وصفھم بنتھام، وأن یعلموا أن رسالتھم، تستدعي الإنارة والابتعاد عن الظلام (نسیب الظلم).

 

وأذكر أنني لقیت مرة أحد حضور القاعة بعد إحدى جلسات المحاكم فأعرب لي عن امتعاضه لأنه انتظر الجلسة من الصباح، وحتى منتصف النھار لسماع حوار مفید ألفه قبلا فلما عقدت تركزت حول (مداولات لا فائدة فیھا) ھكذا قال، ومع طرافة موقف الرجل وبساطته فإنه وارد إلى حد ما، لأن حضور المحكمة وتواجد الأطراف في القاعة لیس ھدفا في حد ذاته وإنما ھو بقصد إثارة القضایا ولو كان لمجرد إدراجھا في المداولات أو تأجیلھا لساغ أن یتم ذلك بإعلان في كتابة ضبط المحكمة مثلا ولما تطلب أشكالا خاصة لا تضیف للقضیة جدیدا وبالتالي فإن وصف الأحكام بالحضوریة والمرافعات بالعلنیة في مثل تلك الظروف یبقى مدعاة للشك.

 

ورغم توجه إرادة الشعب الموریتاني إلى اعتبار "حق الإعلام وحریة الصحافة بوصفھما من بین روافد حریة التعبیر حقوقا ثابتة للمواطن" كما ورد في المادة 2 من الأمر القانوني المتعلق بحریة الصحافة، فإن وسائل الإعلام الرسمیة خاصة تفرض حظرا على كل ما یدور أمام المحاكم ولعل القارئ لا یذكر أن أیا من الإذاعة أو التلفزیون انتھك ذلك الحظر بعرض شيء من ذلك القبیل. ولست أدري مرد ذلك إلا أن أغلب الظن أنه عرف موروث عن فترات وظنون تم تجاوزھا بوضع أسس دولة القانون والحریات والشفافیة، التي لا تقیم وزنا للأعراف المعارضة لنصوص القانون وتوجھات المجتمع.

 

إن وسائل إعلامنا الرسمیة لا تفتؤ تنقل لنا جلسات البرلمان بغرفتیه مع أن القانون خص علنیة المرافعات أمام المحاكم بزخم أكبر بكثیر من ذلك الذي خص به مداولات البرلمان التي وصفھا فقط بالعمومیة.

 

صحیح أنه عند بدء المرافعات في القضایا الجنائیة یحظر استعمال كل جھاز للتسجیل أو التصویر، إلا أنه تشترك معنا في ذلك دول كثیرة نتابع أصداء محاكمھا في نشراتھا الإخباریة الیومیة ولأنه لا تثریب على الإعلامیین في متابعة الجلسات فمن السائغ تذكیرھم بأن الإعلام بدأ مكتوبا، فلا غرو أن یستخدم الإعلامي قلمه لتغطیة مجریات المرافعات على أن یستعید أجھزة تسجیله وتصویره إن كانت، فور خروجه من قاعة الجلسات أو انسحاب المحكمة منھا كما یفعل زملاؤه في كل البلاد تقریبا.

 

إنني أستغرب إھمال وسائل إعلامنا الرسمیة خاصة للقضاء، الذي یشكل السلطة الثالثة في الدولة، وعدم مساواتھا في ذلك مع نظیرتیھا اللتین تحظیان بالعنایة والاھتمام، فنحن نتابع یومیا اجتماعات السلطة التنفیذیة وتحركات أعضائھا، كما نتابع جلسات البرلمان بغرفتیه ولجانه المصغرة. أما القضاء فنذره بعیدا عن الأضواء وبالتالي فلا غرو أن یعیش أزمته المتفاقمة التي تلقي بظلالھا على الأجزاء القاتمة في دولة القانون بدلا من أن تكون مصدر إشعاع وإنارة كما یجب.

 

إنه إذا كانت السلطة التشریعیة تضطلع بدور التصویت على القوانین التي یناط بالحكومة تنفیذھا، فإن السلطة القضائیة تضطلع بدور لا یقل أھمیة في فض النزاعات وتفسیر نصوص القانون الجامدة التي قد تقوم الإدارة في تسییرھا الیومي للمرافق العمومیة بإساءة فھمھا، كما قد یتعمد البعض خرقھا إضرارا بالمجتمع مما یبرر اللجوء إلى القضاء المختص لإمضاء القول الفصل في حیاد واستقلال عن السلطتین التشریعیة والتنفیذیة. وھذا ما جعل الأقدمین یعتبرون القضاء (ركنا من أركان الشریعة بل ھو أسھا) كما یعتبره المعاصرون قوام دولة القانون،

 

فحري بنا أن نتساءل: لماذا نھمل مؤسسة على ذلك القدر من الأھمیة؟

 

ولن یفوتني قبل ختم ھذا الموضوع أن أعود إلى قاعة الجلسات العمومیة لوصف ما درجنا على تسمیته منطوق الحكم الذي یأتي دائما في صیغة جملة تنحصر في وصف الحكم ودرجته وملخصه وھذا ما لا یحقق إرادة المشرع الذي أوجب أن یكون النطق بالحكم دائما في جلسة علنیة كما نص على عمل المحكمة العلیا في رقابة ما إذا وقع احترام القانون بمنطوق الحكم، فمن البین أن المشرع قصد أن ینطق بالحكم كاملا جھارا حتى یعلم الجمیع أنه مؤسس ومرتكز على أسس سلیمة ولیس خبط عشواء، مما لن نسترسل فیه لأننا سنعـرض له في مقام تعليل القرارات.

 

III

یولي الإعلام، في العالم المتحضر، اھتماما كبیرا بالشأن القضائي حیث یجد الصحفیون مادة تجذبھم لقصور العدل فالنزاعات وحلولھا تحكي قصصا متنوعة وذات شجون ویوجد في البلدان المتمدنة صحفیون مختصون في متابعة مجریات المحاكمات ونشر أخبارھا واستقصاء مآلاتھا وبینما تختص في متابعة مجریات التقاضي مئات المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونیة في الولایات المتحدة وبریطانیا وفي الفضاء الآنجلو-سكسوني عموما، توظف وسائل الإعلام المعاصرة، في بلدان المعمورة الأخرى، صحفیین مختصین في متابعة الشؤون القضائیة.

1. ففي فرنسا، التي اقتبست بلادنا من تشریعاتھا وتقالیدھا القضائیة الإجرائیة الكثیر، توجد ثلة صحفیة مختصة في نقل الأخبار القضائیة تقوم على مصالحھا رابطة الصحافة القضائیة Association de la Presse Judiciaire التي تضم في عضویتھا 231 عضوا بعضھم مستقل ویعمل أغلبھم لحساب مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئیة ولتسھیل المھام یحمل الصحفیون القضائیون بطاقات خاصة تخولھم ولوج المحاكم من الأبواب المخصصة لدخول القضاة والمحامین وكتاب الضبط.

 

أما التصویر والتسجیل في المحاكم الفرنسیة وبث مجریاتھا فقد مر بتطور یمكن اختزاله في أربعة مراحل:

أ. كان تصویر مجریات المحاكمات وبثھا مباحا في فرنسا حیث كان الصحفیون المصورون، في سعیھم لاقتناص أفضل اللقطات، یتخذون قاعات الجلسات استودیوھات ولأن الصور لم تكن تستغني عن الأضواء الكاشفة فقد أزعج ذلك القضاة ومن أمثلة الإحراج قیام أحد المصورین بتثبیت مصباح كھربائي في صدر قاعة محكمة بضاحیة فرساي لالتقاط الصور الأخیرة للمتھم  Landru وھو یكتم الضحك كعادته إبان محاكمته الشھیرة التي جرت في باریس سنة 1921 وأفضت إلى إعدامه بالمقصلة، في السنة الموالیة، بعد إدانته باغتیال عشر نسوة لم یعترف بقتلھن ولم یعثر لأي منھن على أثر.. وفي غیاب نص یضع حدا لصولة الصحفیین تحمل القضاة الفرنسیون التشویش عدة عقود كان ومیض الأضواء الكاشفة (لفلاشات) خلالھا یخطف أبصارھم مما دفع الرئیس Favard لمخاطبة المصورین بعبارات لائقة تناقلھا الصحفیون كمثال على ضبط النفس الذي یلیق بالقضاة: "قلیلا من الحیاء أیھا السادة".

 

ب. بعد عقود من الھرج وسعیا للحفاظ على سكینة القضاء سنت السلطات الفرنسیة قانون 6 دجنبر 1954 الذي تم بموجبه إدخال تعدیل على قانون 29 یولیو 1881 المتعلق بحریة الصحافة ونص التعدیل على تحریم التصویر والتسجیل أثناء انعقاد جلسات المحاكم إلا بإذن استثنائي یصدر عن وزیر العدل وتم تضمین التحریم وعقوبة مخالفته في المادة 308 من قانون الإجراءات الجنائیة الفرنسي.

 

ج. خلال ثمانینات القرن العشرین بدأ التشكیك في ملاءمة استمرار حظر التسجیل والتصویر في جلسات المحاكم لما یؤدي إلیه من تبخر المرافعات الشفھیة الملھمة فخاطب وزیر العدل الجمعیة الوطنیة الفرنسیة قائلا: "لم یعد من المغتفر في زمن تطور الصورة والصوت أن لا تكون للعدالة ذاكرة حیة..". ونجح الرجل في إقناع البرلمان بإدخال تعدیل على قانون التراث یتم بموجبه تصویر المحاكمات ذات القیمة التاریخیة عرف بقانون (Badinter) اسم الوزیر الذي اقترح المشروع وبناء على قانون 11 یولیو 1985، بدأ تسجیل ونشر المحاكمات التي تصنف بأنھا تاریخیة.

 

د. ولم یكتف الفرنسیون بتسجیل وبث مجریات ثلاث عشرة محاكمة لتشكیل الأرشیف التاریخي لعدالتھم، وإنما تصاعدت المطالبات برفع الحرج عن تسجیل وتصویر مجریات المرافعات القضائیة عموما مما حدا بالسید Perben Dominique وزیر العدل في حكومة رافارین - حكم شیراك لإصدار قرار بتشكیل لجنة لدراسة إشكالیة التسجیل والنشر الإلكتروني لمجریات المحاكمات وختمت اللجنة المعروفة بتسمیة LINDEN (اسم القاضیة التي كانت ترأسھا) تقریرھا بتاریخ 22 فبرایر 2005 ونشرتھ وخلصت فیه إلى توصیات بإعادة النظر في حظر التسجیل والتصویر أثناء انعقاد جلسات المحاكم.

 

وتضمنت خطة العمل للمجلس الأعلى للقضاء الفرنسي لسنة 2007 ما نصه: "یتعین أن تنفتح المحاكم على وسائل الإعلام بأنماطھا الحالیة: إذ لا یسوغ أن نلاحظ نقصا كبیرا في انفتاح المؤسسة القضائیة ونستمر في رفض التفكیر في دخول المیكروفونات والكامیرات لقاعات المحاكم. لقد أضحت الصورة والصوت الناقل الأول للأخبار إلى الجمھور العریض. وإذا كانت العدالة تتطلع لأن تعرف بنفسھا وأن یفھمھا الناس، یتعین أن تلتفت إلى وسائل الإعلام المرئیة والمسموعة وأن لا تكتفي بالصحافة المكتوبة المخولة وحدھا دخول قاعات الحكم لنقل ما یحدث".

 

وفي ظل الحكومة الفرنسیة الحالیة عبر وزیر العدل Moretti-Dupont Eric - في نھایة سنة 2020 المنصرمة - عن سعیه لإلغاء العراقیل التشریعیة التي تحول دون تسجیل ونشر النقاشات القضائیة وأعرب عن أمله في أن یتحقق ذلك قبل نھایة فترة حكم الرئیس إیمانویل ماكرونه الحالیة وخاطب موریتي الفرنسیین قائلا: "أساند تصویر ونشر مجریات العدالة كي یراھا الفرنسیون. علنیة النقاشات ضمانة دیمقراطیة".

 

2. كانت محاكمة النازیین سنة 1945 من أكبر المحاكمات زخما حیث حرص الحلفاء المنتصرون على جمع الصحفیین في بلدة نورنبرغ بألمانیا لنقل وقائع محاكمة الریش الثالث إلى العالم. وفي سنة 2005 تابع المھتمون بالصوت والصورة مجریات محاكمة الرئیس العراقي الراحل صدام حسین وكأنھم بالمنطقة الخضراء ببغداد وسمعوا اعتراضات الرجل ورفاقھ ولفتت الطریقة التي أدار بھا القاضي رزكار محمد أمین أثناء الجلسات الأولى من المحاكمة الانتباه. كما تابع الناس سنة 2011 عبر الشاشات محاكمة الرئیس المصري الراحل حسني مبارك وعندما قررت السلطات المصریة، خلال شھر دجنبر المنصرم (2000( اقتراح قانون یقضي بعقاب من یقوم بتصویر وإذاعة جلسات المحاكم انتفض الصحفیون المصریون الذین عبر نقیبھم الأسبق یحي قلاش عن موقفھم قائلا: "كارثة تنال من روح العدل الذي تعتبر العلانیة أحد دعائمه لأنھا تكرس ثقة الناس في القضاء وتضرب حریة النشر والحق الأصیل للمواطن في المعرفة وتتعارض مع مواد الدستور المصري والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعھد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة والسیاسیة" وخلص قلاش لمطالبة الأطراف المعنیة بالتصدي، بالحوار، لما أسماه "الكارثة التي لم یستطع الاحتلال أن یفرضھا على المصریین ولا على صحافتھم ولا على قضائھم".

 

3. وعلى حدودنا الشرقیة تمت محاكمة الرئیس المالي الأسبق موسى اتراوري أمام المحكمة الجنائیة بباماكو وتابع العالم صوره وھو یساءل أمام المحكمة وكان المنمون والمزارعون في الریف المالي یحبسون أنفاسھم قرب المذیاع لمتابعة مجریات محاكمة الرجل الذي حكمھم على مدى 23 عاما.. إلى أن نطقت محكمة جنایات باماكو بحكم إعدامه وإعدام ثلاثة من معاونیه یوم 12 فبرایر 1993 قبل أن یستفید من عفو رئاسي.

 

4. أما في حدودنا الجنوبیة فقد توافد في منتصف شھر یولیو سنة 2015 إلى داكار زھاء ألف صحفي من أرجاء العالم لحضور محاكمة الرئیس اتشادي الأسبق حسین ھبري الذي حوكم بتھم ارتكاب جرائم ضد الإنسانیة وجرائم حرب وتعذیب واغتصاب في حق مواطنیھ وتمت المحاكمة بعد أن اتفق السنغال ومنظمة الوحدة الإفریقیة على إنشاء "الغرف الإفریقیة فوق العادة" CAE تجنبا لحرج تسلیم الكھل الإفریقي ومساءلته في الشمال خاصة بالنظر لصعوبات تنقل آلاف الشھود وعشرات الضحایا إلى أوروبا حیث تعھد القضاء ضد الرجل على أساس قاعدة الاختصاص الكوني في متابعة جرائم التعذیب.. ونقلت مجریات محاكمة ھبري بالصوت والصورة من داكار إلى العالم بأسره وبفضل التقنیات الحدیثة تمكن اتشادیون من متابعة شھادات حیة عن التھم الموجھة لرجل حكمھم ونكل بالكثیر منھم على مدى 8 سنة (من 1982 وحتى 1990) لأنه رفض الحدیث للمحكمة التي قاطعھا محاموه مما دفعھا، طبقا للإجراءات الجنائیة السنغالیة، لتعیین ثلاثة محامین من نقابة داكار لمؤازرته في مواجھة الأطراف المدنیة التي كان یمثلھا 15 محامیا من مختلف الجنسیات.. ورغم المھمة الصعبة دافع الزملاء الثلاثة عن متھم دأب على رفض التجاوب معھم..

 

وأسفرت المحكمة عن إدانة حسین بالسجن المؤبد سنة 2016 وتأكد الحكم علیه في طور الاستئناف السنة الموالیة.

 

5. وفي الخلیج العربي تسعى وزارة العدل السعودیة لأن یعتمد القضاء كلیا على الوسائل الفنیة الحدیثة من تصویر وتسجیل وأن تستغني ھیئات الحكم عن الأوراق والأقلام مما یمكن القضاة أثناء المداولات من مراجعة التصریحات الحیة ومرافعات الأطراف ویتیح لھیئات الرقابة المختصة الاطلاع بمسؤولیاتھا باستعراض الأصوات والصور.. وفي أجواء الرعب التي سببھا 19 COVID  تمكنت الإمارات العربیة المتحدة من عقد جلسات افتراضیة ناجحة تفاعل فیھا الأطراف مع المحكمة عن بعد باستخدام وسائط الاتصال الإلكترونیة.

 

6. وخلال سنة 2016 أمرت وزارة العدل المغربیة بتزوید محاكم المملكة، بما فیھا قاعات الجلسات، بكامیرات للتسجیل والتصویر في خطوة اعتبرت الوزارة أنھا ذات دواع أمنیة بالأساس واعتبر البعض أنھا تسھم في محاربة الفساد.

 

IV

والخلاصة أن العمل الإعلامي الذي یعول علیه في إصلاح القضاء لیس من ھم الصحفیین وحدھم فللقضاة والمحامین دور إعلامي یجب علیھم الإطلاع به فواجب القضاة یقتضي الحرص على العلنیة المقـررة ضمن مبادئ المرافعات ومسؤولیة المحامین تتطلب توصیل قضایا موكلیھم إلى الجمھور الذي یساعد في إرساء العدل ولأن الظلم فعـل شنیع یحرص مقترفـوه على التستر علیه ویحرجھم إظھاره للعلن فمن العدل معاملة المتكتم بنقیض قصده.

 

وإذا كان واجب القاضي ھو التطبیق السلیم للقانون في فض النزاعات المعروضة علیھ فإن دور المحامي یتمثل في تسخیر معارفه وجھوده لمساعدة موكلیه بإرشادھم إلى الطرق القانونیة الكفیلة بتحقیق مصالحھم والحفاظ على حقوقھم والدفاع عنھا حینما تكون مھددة وھو بذلك یخدم الحق ویساعد القضاء ولأن المشورة تقدم عادة في وسط خاص وفي أماكن مغلقة فإن حفظ سر الموكل یعد من أسباب الثقة في المحامي المستشار، أما الدفاع والتمثیل القضائي، اللذین تتم ممارستھما من حیث المبدأ، في قاعات مفتوحة وخلال جلسات علنیة، فیقاس مستوى نجاح الدفاع فیھما بمدى توصیل قضیته إلى حیث ینبغي أن تصل ومن اللائق بالمحامین، قیاما بواجبھم، أن یصدعوا بقضایاھم وأن یتجنبوا التكتم على الظلم الذي كثیرا ما كان فضحه سببا في وضع حد له.

 

إن عمل القاضي والمحامي یتقاطع مع العمل الصحفي في اعتماد الثلاثة على التحریر فكما تتطلب الأحكام التعلیل منھجا للإقناع بمدى تأسیسھا، تتبع الاستشارات والعرائض والمذكرات خطا تحریریا یضمن وصول الخطاب للمستھدفین. وإذا كان مصطلح "العریضة الفاتحة للدعوى" ھو المتداول عندنا لتسمیة المكتوب الذي یقدم القضیة للمحكمة وتتعھد بناء علیه، فإن بلدانا مماثلة تستخدم تسمیة "المقال الافتتاحي للدعوى" وتسمى الردود والمذكرات بالمقالات الجوابیة وسواء سمینا المحرر عریضة أو مقالا فإن المحامي الذي یصوغه لا یستغني عن مھارة التحریر التي یحتاجھا الكاتب الصحفي مع أن لكل فـن قاموسه ومصطلحاته ولكل مھني أسلوب یمیزه.

 

وتتقاطع مرافعات المحامین وقضاة النیابة العامة (القضاء الواقف) مع المراسلات والتقاریر الصحفیة الشفھیة في أنھا تتطلب القدرة على الارتجال وغالبا ما یتألق فیھا ذوو الأصوات الجھوریة من ذوي الرسالة الإعلامیة عموما سواء كانوا قضاة أو محامین أو صحفیین.

 

ولتسلیط الضوء على التطور وبیان أنه یفرض نفسه وأنه لا سبیل لغض الطرف عنه، أختم ھذا المقال، بعرض موقفین یخدمان الموضوع عاینتھما بنفسي أمام المحاكم الوطنیة: فخلال السنوات الأخیرة من القرن المنصرم شھدت مدینة انواذیبو إحدى أكبر محاكماتھا في قضیة شملت العمدة وأمین عام البلدیة والمدیر الجھوي للخزینة وبعض رجال الأعمال بتھمة تبدید الموارد العامة والغیاب علیھا وأحیل مسؤولون كبار للمحاكمة التي انعقدت جلساتھا في قاعة محدودة السعة تختلف عن قاعات جلسات قصر العدل في انواكشوط الغربیة التي تضم شرفات معطلة، طالما علق علیھا الدفاع، وھي شرفات أعتقد أنھا أعدت أصلا لتمكین الصحفیین من متابعة مجریات المحاكمات.. كنت في صدارة محاكمة انواذیبو لأن المحكمة طلبت مني أن أترجم بینھا وبین المتھم كما عھد إلي العمید بال أحمدو تیدجان (الذي سیصبح بعد ذلك وزیرا للعدل ورئیسا للمحكمة العلیا) أن أنقل مرافعته الطویلة والبلیغة من لسان مولییر إلى اللغة الرسمیة.. ورغم المقتضیات القانونیة التي تحظر التسجیل في الجلسات الجنائیة فقد علمت آنذاك أنه تم تسجیل المرافعات وأن السلطات الإداریة كانت تتابع مجریاتھا كل مساء.. وبعد تدشین قصر العدل الجدید تمت محاكمة المتھمین بقتل أحمد ولد أما رحمه الله ورغم اتساع القاعة استشعـرت السلطات أھمیة إقناع الرأي العام فعملت على تزوید قاعة جلسات قصر العدالة في انواذیبو بشاشة عرضت أمام الجمھور إعادة تمثیل الجریمة البشعة التي راح ضحیتھا شیخ وقور قتله مشعـوذون من أجل استخدام دمه لإعداد خلطة سحریة، وكانت تلك الخطوة الأولى في الاستعانة بالسمعیات البصریة ولن تكون الأخیرة.

 

لقد تغیرت الحیاة الإعلامیة جذریا وأطل عصر "سلطان الكامیرا" التي أصبحت تتابع الناس في الأماكن العامة والخاصة وتترصدھم في الطرقات وحیثما كانوا وبفضل التقنیات تغلبت العدسات على قصور النظر ولم تعد تحتاج لأضواء كاشفة ولا تتطلب الدنو لتتبین ما یحدث وإنما ترمق من بعید وتضبط ما یتحرك في مجالھا دون زیادة أو نقصان ولأن الكامیرا كثیرا ما قطعت الشك بالیقین فإنني أرى تعدیلھا وإفساح مكان لھا في مجالس الحكم.

 

انواذیبو بتاریخ 4 فبرایر 2021.