برحيل المغفور له -إن شاء الله- الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل تفقد موريتانيا وأحوازها ونخبتها أشياء كثيرة:
فهو بالنسبة للجميع " أبوالهول" الفكري، وكذلك المثقف العضوي و"الناسك" السياسي، وفوق ذلك مرجعية أخلاقية وعامل توازن في المجتمع.
كان الأول ممن تتطلع إليه الأنظار عند الأوقات الحرجة "المزمنة"،ُ كما كان وعيه المتقدم يستشرف حالات عدم اليقين والانسداد فتراه يجهد - ما وسعه - في وقف التردي وبعث الأمل وإنارة منعرجات الطريق واستبيان الآفاق.
ورغم الجذور القومية "غير البعثية" فقد كانت انطباعتي - الأولية ومن بعيد - عن الرجل مشوهة بفعل الجهل وآفات الصور النمطية التي تنتجها - للأسف - ثقافة القيل والقال السائدة في المجتمع الظالمة في حق الكثير من الأكابر؛ إلى أن تعرفت عليه عن قرب نهاية 2005 ضمن ظروف وملابسات تلك المرحلة.
وهنا وجدتني أمام رجل من طينة نادرة تتداخل فيه الأبعاد والمعاني والتجليات:
فهو عروبي افرانكفوني ضليع بثقافة أمته ومجتمعه وتاريخهما، ومع ذلك فهو مشبع - بشكل لا يضاهى - بالثقافة العالمية غربيها وشرقيها، ويكفي للدلالة أن تطلع على كراسة تشي بعمق اطلاعه، كتبها من مدة عن "جذور المارد الصيني"، قدم فيها صورة ملهمة وشاعرية مفعمة بالآلام والآمال والعنفوان و"الطهارة الثورية" لأمة شرقية عريقة هي الآن بصدد كسر القيود والأخذ بثأرها التاريخي دون إراقة دماء !
وهذا الرجل المحافظ بل "التقليدي" في نمط عيشه وتعامله اليومي يسكن داخله "ثائر حكيم" أو "حكيم ثائر"، وهو أبعد ما يكون عن الصورة المفترضة لقومي عقائدي متزمت بل إنه شخص منفتح ومتسامح مع الآخر وعلاقاته ممتدة على كامل الطيف - تفاعلا وتقديرا - وهو ممارس ديموقراطي راسخ ومفكر بنفس إنساني طافح.
وكم أعتب على أولئك الذين تسول لهم أنفسهم أحيانا - مكاء وتصدية - بنعته كمفكر الشمال بل لكل الجهات أن تفخر به لأنه هو الحامل لهموم أمته العربية من المحيط إلى الخليج وشيخ الصحراء الكبرى والفضاء "البيظاني" في عمومه.
ومن واقع التجربة الشخصية فإني أعتقد أن حسابات المرحوم محمد يحظيه كانت دائما أو غالبا وطنية وكلية، موضوعية ومتجردة وهي أبعد ما تكون عن لوثات بعض "أهل لخيام" وقصور أفقهم وعدم قدرتهم على تجاوز الحزازات الشخصية السابقة وهوياتهم الفرعية وحساباتهم الضيقة في حين كان المرحوم قادرا على الالتقاء مع أي كان من أجل المصلحة الوطنية، بغض النظر عن سالف التجربة معه حتى ولو كانت مريرة أو مجحفة في حقه.
التعامل مع محمد يحظيه في غاية السلاسة والانسيابية، فهو يغلف صرامة تفكيره وصلابة طبعه بتواضعه الجم وأكنافه الموطأة وسخاء روحه وقدرته على الإنصات والإنصاف.
وأجمل ما في التعامل معه هو أنك يمكن أن تثق به، فمجلسه يتسم بالأمان، فلا تخشى وشاية منه كما تستطيع أن تعول على عدم خذلانه إذ لا سبيل لأحد عليه من حاكم أو متحكم، فحياته المتقشفة أو المتخففة وأنسه بمحراب القراءة أو ألفته بالإبل والصحراء تجعل منه على العكس مصدر خشية وضغط، لا مظنة تطلع أو طمع.
فهو من رجال الإصلاح المتحلين بالشجاعة ومن أصحاب المروءة التي هي أخت الدين، لذا كانت له سلطة أخلاقية كابحة للحيف ومصححة للمسار يتقاسمها وإياهم.
العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمصلحون الآخرون أيا كانت عناوينهم وهي سلطة خامسة معنوية وأخلاقية رادعة للمتغولين مطمئنة للمستضعفين.
وبغياب محمد يحظيه اليوم على بعد شهور قليلة من رحيل بدر الدين تكون أسطوانة مركزية قد تهدمت من صرح تلك السلطة.
وختاما ندعو الله بالرحمة لهذا الفقيد وكما بات ليلته الأولى في برد غرفة بالمستشفى العسكري فعسى ربنا الغفور الحليم أن يجعل كل ما يستقبل من ليالي وأيام بردا وسلاما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
آمين.
السلام عليكم.