نظم المركز الجزائري لدراسات التنمية، الذي ترأسه الدكتورة وهيبة قطوش، مؤخرا، ندوة حول دور مراكز البحوث والدراسات في الوطن العربي، عبر تقنية التحاضر المرئي، الذي أدارته الدكتورة فتيحة فرقاني، أستاذة العلوم السياسية بجامعة الجزائر، بمشاركة مختصين من الوطن العربي، على غرار الدكتور محمد العادل وديدي ولد السالك والدكتور فوزي بن دريدي، حيث تم التطرق لأسباب الأزمات التي يعرفها العقل العربي، بفعل المشاكل المتراكمة. كما تمت الإشارة إلى ضرورة المطالبة بصناعة التفاؤل وتحرير وتحريك العقل العربي، مع التعامل بأهمية كبيرة مع الرأسمال الحقيقي، وهو البشر.
الدكتور محمد العادل، مدير المركز العربي التركي للدراسات الاستراتيجية: "نحن مطالبون بصناعة التفاؤل وتحرير العقل العربي"
أكد الدكتور محمد العادل، مدير المركز العربي التركي للدراسات الاستراتيجية، خلال مداخلته، أن ظاهرة مراكز البحوث والدراسات جديدة في الوطن العربي، وأن مسارات التنمية بشكل عام في توجهاتنا السياسية، والاقتصادية، والتعليمية وغيرها ـ للأسف ـ لم تساعد الأكاديمي أو المؤسسات البحثية أو مراكز الدراسات أو الجامعات على أن تصنع فكرا، بالتالي "علينا أن نبدأ أولا بشرح هذه المسببات"، حسب ما أوضح، مضيفا بقوله: "أما اليوم ونحن في عالم تطغى فيه التقنيات والتكنولوجيا وسرعة التواصل مع الباحثين وغيره، نرى بأن العقل العربي بدأ يتحرر، وهذا التحرر ليس برؤية الدولة ـ أي أن الدولة هي التي توجه هذا التحرر، وهذا التواصل مع المؤسسات الأخرى، حتى ينتج فكرا وطنيا. وتحرر الفكر العربي هذا، بدأ يضع مبادرات فردية في الأساس وليست مبادرات مؤسسية تعود إلى الجامعات. فمعظم الباحثين من البلدان العربية هم أصحاب المبادرات، وهم الذين حركوا هذه المبادرات وبدأوا يصنعون فكرا".
أضاف قائلا: "أما حينما تتولى الإدارة والدول هذه المهمة، ستصبح مراكز التفكير غير محتاجة للتمويل، فمراكز التفكير تتناغم في توجهها الفكري مع الخط العام للتنمية، الخط العام للسياسة، الخط العام لرؤية الدولة، بالتالي يكون هناك إسهام مباشر لمراكز التفكير من أجل مساندة الدولة، ومساندة مسارات التنمية التي تقوم عليها الدولة". ويشرح العادل: "لست متشائما على وضعنا العربي، بل العكس، نحن مطالبون بصناعة التفاؤل وتحرير وتحريك العقل العربي، ومدركون تماما أنه خلال العشرين سنة الأخيرة، حصلت تحولات مهمة في بلادنا العربية من صناعة المبادرات، وبدأت بعض الجامعات العربية تتحرك وتهتم بمخابر المراكز البحثية وغيرها". يختم الدكتور العادل مداخلته، من خلال التأكيد على أن نجاح مؤسسات صناعة التفكير ومراكز الدراسات والبحوث وغيرها، يجب أن تتوجه إلى التخصص في مناطق معينة وفي قطاع معين، حتى تستطيع أن تنتج فكرا عميقا، والأهم من ذلك، أن تصنع باحثا أكاديميا يحقق التراكم المعرفي لديه".
الدكتور فوزي بن دريدي، المنسق العام للشبكة الدولية لدراسة المجتمعات العربية .. المحافظة على الاستقلالية العلمية للمراكز
انطلق الدكتور فوزي بن دريدي، المنسق العام للشبكة الدولية لدراسة المجتمعات العربية، من جهته، من سؤال مركزي وهو؛ لماذا لا تؤدي مراكز البحث دورها في المساهمة في حل مشكلات المجتمعات العربية؟ حيث يقول: "فالخلفية التاريخية التي تمر بها المجتمعات العربية، هي ظرفية مهمة جدا، وللأسف، بعض مراكز البحث المتواجدة في الدول العربية، تريد أن تلعب دور التنظير، بمعنى أنها لا تذهب إلى دراسة المشكلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، لأن دورها واضح من المفترض، فالمراكز البحثية تبحث في الواقع من خلال منهجيات معينة، وتقدم مخرجات، يفترض أن تكون أوراق سياسات على سبيل المثال". ويشرح الدكتور قائلا: "فقد لاحظنا أنه من خلال التشخيص السريع لمراكز البحث العربية، أنها حٌيدت أو حيدت نفسها عن دورها الأساسي، وهذا راجع إلى مجموعة من المعوقات البنيوية التي تحد من أداء هذه المراكز لدورها، فلو نرجع بشكل عام إلى مساهمة مراكز البحث في اتخاذ القرارات، وإنتاج السياسات التربوية والثقافية والاجتماعية، فهي وظائف هزيلة جدا، باستثناء بعض المراكز في الخليج العربي، لكن بشكل عام، لا يوجد دور حيوي لهذه المراكز، وتكمن المشكلة في أن هناك معوقات بنيوية داخل بنى المراكز في حد ذاتها، وفيه معوقات خارج المراكز، أما ما يتعلق بداخل المركز، فنذكر مثلا، نوعية الباحثين المتواجدين داخل المراكز البحثية، كيف يتم توظيفهم، مع كيفية تسيير مسارهم المهني وغيرها".
تطرق الدكتور بن دريدي، إلى مشكلة التمويل وأهمية المحافظة على الجانب العلمي، مع التوجه نحو إنتاج معرفة من أجل هدف معين. وأضاف قائلا: "كباحثين داخل هذه المجتمعات العربية، فإن السؤال الذي نطرحه على أنفسنا هو؛ هل نبقى نرى ونلحظ هذه المعوقات وهذه اللاوظيفية للمؤسسات والمراكز، خاصة مع تفاقم هذه المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، أم نعمل على تجسير الهوة بين صاحب القرار والمراكز البحثية". وهنا يجيب الدكتور بن دريدي: "يجب أن نتقدم خطوة نحو صاحب القرار، مع المحافظة على الاستقلالية العلمية، بمعنى أننا لا نكون كخبراء تحت تصرف صاحب القرار، لكن بالأحرى، يجب أن نصنع منطقة ما، يلتقي فيها صاحب القرار (بكل مستوياته في التربية والاقتصاد والسياسة وغيرها)، والمؤسسات البحثية العربية التي يجب أن تحدد هدفا لها، على أنها تقدم ما يساعد صاحب القرار العربي على تحسين آدائه، وهذا طبعا، سينعكس آليا على المجتمع، فلما نتحدث على السياسات، فإننا نتحدث عن سياسات تبنى على الاستشراف على معطيات بيانات ميدانية، ولو أخذنا مثالا، يمكن أن نذكر أزمة "كوفيد 19"، وكيفية التعامل معها في العالم العربي، فلما بدأت عملية الحجر، على سبيل المثال، فإنها لم تبن على دراسات ميدانية وأثناء المعاش الاجتماعي داخل الأسرة، لم تقم هناك دراسات ميدانية، وحدث هناك تخبط بين زيادة الحجر والتخلي عن الحجر، فهذا كله دليل على أن الواقع الاجتماعي، لم تتم دراسته من طرف متخصصين ومراكز بحثية" .
في هذا الصدد، يرى الدكتور بن دريدي "أنه من مسؤوليتنا التاريخية، سواء لصاحب القرار العربي أو للمراكز البحثية العربية، وكموقف تاريخي، فإنه يجب التعاون مع بعض من خلال المحافظة على الاستقلالية العلمية للمراكز، لكن كمسؤولية تاريخية، فإن مجتمعاتنا وصلت إلى بروز ظواهر فيها، تهدد بنية المجتمعات، وهذا لا ينطبق فقط على المجتمعات العربية، فحتى المجتمعات الأوروبية تعاني من ظواهر كثيرة، لكن متحكم فيها. لو نعتبر مثلا، أن هذه الظاهر فلتت من أيدينا، فإنها ستصبح خطيرة جدا، بالإمكانيات الموجودة ـ والتي هي قليلة جدا- بالرجوع إلى الإحصائيات المتعلقة بتمويل البحث العلمي في الوطن العربي، لكن أيضا يجب أن نركز هنا على نقطة مهمة، وهي دور القطاع الخاص العربي، فلديه أيضا مسؤولية تاريخية، وهو ما يوجب عليه دعم البحث العلمي انطلاقا من مسؤولياتهم الاجتماعية، من خلال دعم المراكز الخاصة التي أصبحت تؤسس من طرف شباب، أو من خلال تمويل المراكز الموجودة دن انتظار التمويلات الأوروبية".
الدكتور ديدي ولد السالك: الإنسانية رأس مال حقيقي للتنمية
انطلق الدكتور ديدي ولد السالك، خلال مداخلته الموسومة بـ"مراكز الدراسات في الوطن العربي بين الغياب والدور المطلوب"، من اعتبار قضية مراكز الدراسات أنها ترتبط بجانب المعرفة، وحاجة بلداننا إلى المعرفة، لأن تجربة القرن العشرين أثبتت ثلاثة أمور هي: أهمية المعرفة والبحث العلمي في التنمية، وأهمية الحكامة، وأن البشر هو رأس المال باعتبار البشر قادر على التنمية "البشر هو الثروة الحقيقة"، وتطرق الدكتور إلى إشكالية مراكز الدراسات في المنطقة العربية، والمتعلقة بإشكالية كبيرة، لأنها مرتبطة بثلاث عوامل رئيسية تتمثل في: إشكالية الحرية وإشكالية إنتاجية المعرفة وإشكالية التأثير على صانع القرار. أما ما هو مطلوب من هذه المراكز، حسب الدكتور ولد السالك، هو أن تنتج معرفة تشخص الواقع، أي أن تنطلق من الواقع ولا تبقى في التنظير البعيد على الواقع. وطرح النظريات، ففي مراكز الدراسات، هناك أهمية في الربط بن الطرح النظري والواقع بتشخيص علمي، كما أن هذه المراكز هي مطالبة اليوم بأن ترتبط بهذا الواقع، وتقدم دراسات عن هذا الواقع بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعوقات، التي مازالت تكبل المجتمعات العربية عن الحركية والتقدم، لأنها ظلت مجتمعات متخلفة، بالتالي نحتاج إلى دراسات تمس هذا الواقع وتعالجه وتلامسه.
أما الدور الثاني لهذه المراكز، والذي سيخلق لها مساحة، هو إنشاء قنوات لربط علاقة مع صانع القرار، فحاليا في أغلب الدول العربية، لا توجد علاقة أو قنوات لربط التواصل بين مراكز الدراسات والبحوث وبين صانع القرار. وصانع القرار مهما كانت درجته، سواء كان رئيس سلطة عليا، كالرئيس أو الوزراء أو مؤسسات حكومية، فإنه يتخوف من الباحث. لذلك وجب خلق قنوات للتأثير والتأصل. أما الدور الثالث، وهو بعد أن نخلق هذه القناة، نحاول أن نؤثر على السياسات العمومية، على صناعة القرار، من خلال التأثير على السياسات العمومية، ولكي نؤثر على السياسات العمومية، فلابد من ثلاث شروط: لابد أولا أن نتابع هذه السياسات، ونقدم عنها تقييما صحيحا، مع طرح بدائل ومقترحات جدية، نقدم استشرافا يقنع صاحب القرار أو من يدير هذه السياسات العمومية بأن ما نقدمه هو الأفضل. المسألة الأخرى، يقول ولد السالك، هي أن تركز مراكز الأبحاث والسياسات على مشاكل المجتمعات الحقيقة، سواء تعلقت بالصحة أو التعليم أو العدالة أو البيئة أو المياه، التي لابد أن تكون مدخل لدراسات تقدم تفسيرا علميا لهذه الظواهر.
الدكتورة فرقاني فتيحة من جامعة الجزائر: جسر التواصل ضرورة
أكدت الدكتورة فرقاني، أن مراكز البحوث والدراسات تعد خلايا تفكير عملية، تعمل على إنضاج المشاريع العلمية، وبلورة الإشكالات القائمة، ودراستها وفق تكامل علمي ومعرفي منسجم، مما يجعلها من الضروريات المجتمعية الملحة في الوقت الراهن، وتشترك في إنتاج الأفكار وصنعها، وتساهم في إعادة توظيف واستخدام ما هو متاح من المعلومات، لخدمة المؤسسات ورسم طريقها المستقبلي. تضيف قائلة: "لا تعد مراكز الأبحاث من المؤسسات العلمية المانحة، لأنها لا تمنح أو لا تعطي تمويلا للبحث العلمي، وبدلا من ذلك، هي تبحث عن جذب التمويل لدراساتها من المؤسسات المانحة، وغيرها من المصادر. على اعتبار أن مراكز الأبحاث ليست مؤسسات للربح المالي، كما أنها ليست مشابهة لجماعات المصالح، حيث أن هدفها الأساسي هو البحث والدراسة، أي إنتاج المعرفة وليس ممارسة الضغط والنفوذ، رغم أن هناك بعض مراكز الأبحاث التي تمارس ذلك أحيانا. وتعد قضية التمويل على رأس المعوقات التي تواجه عمل مراكز البحوث والدراسات العربية، وهي مشكلة متعددة الأبعاد".
أشارت إلى أن تجاوز العائق المالي، وغيرها من العوائق السياسية والبيروقراطية، أمام تفعيل دور مراكز البحوث والدراسات في الوطن العربي، لن يتأتى إلا من خلال إحداث جسر من التواصل، يربط بين هذه المراكز من جهة، وبينها وبين مؤسسات صنع القرار، من جهة أخرى، وهنا يتأتى دور المؤسسات الإعلامية من خلال خلق شراكة حقيقية بينها وبين مراكز الدراسات والبحوث، للتعريف بها وبأهميتها، وعرض نتائجها وما تقوم به من نشاطات، وإحاطة الرأي العام بنتائج الأبحاث ووجهات النظر المختلفة".