د. محمد عمر غرس الله
أثر سقوط ليبيا – الدولة والعقد الإجتماعي والسلم الأهلي – على الحركة الفكرية من نقد وإنتاج فكري ثقافي، بمعنى اثر الأحداث على المجال الفكري بإتجاهاته وشخوصه، بما فيها الإنتاج الأدبي وإتجاهاته ومواضيعه، من رواية وقصة وشعر ونثر ونشر والمطبوعات بتنوعاتها، بسبب ظنك الحياة اليومية وإزدياد الأخطار المحدقة بحياة المثقف من كاتب وناشر وأكاديمي، فمأساوية الواقع ضربت كل قطاعات المجتمع، بما فيه حياة النخب الفكرية، هذه النخب سقط واقعها المعيشي – كباقي الناس – في يد متنفذون منفلتون عابرون على جسد الوطن بكل أنواع الأسلحة،لم ولا يتوانوا في إيذاء حتى عابري السبيل، علاوة على تشكيلهم خطر على حياة هذا المثقف والأكاديمي والمفكر الليبي، بسبب أرائه، وإنتاجه الفكري، وخاصة الناقد منه، وما يقدمه من وجبات فكرية، هي من صُلب مهمته.
هذا الأثر يشمل حتى المثقفين والمفكرين والكتاب الذين تمترسوا لأسباب عديدة على أحد ضفاف الصراع، حيث يعانوا من تبعات إنحيازهم، فالمثقف والمفكر وخاصة الناقد منهم، تظهر له مشكلات حتى داخل ضفته التي تمترس عليها، نتيجة لسطوة الغلبة وإنغلاق المواقف، وسطوة حملة السلاح، وشيوع حالة الإنفعال والهيجان والأذى بأنواعه، وشمل الأثر أيضاً الذين نأوا بأنفسهم على تشجيع أطراف هذا الصراع وتنوعاته، والذين إعتقدوا بإمكانية ممارسة الحياد (سوى كان توقياً للأضرار، او كان عن قناعة)، ونأياً بالنفس، عن الخوض في تقاطعات المعارك البينية، التي لا تبدو تنتهي في الواقع الليبي.
وهذا ويقصد بأثر الواقع، وطأة الظروف وما يجري من عدم إستقرار، وأخطار تهدد الحياة، وقمع معنوي ومادي، تتعرض له الحركة الفكرية عموماً، فالمثقف والكاتب لا يملك غير رأئه ورؤيته وقلمه، أو فنه وشعره، بينما السلاح والتهديد والقتل والإختطاف، يواجهه بالسلاح والخطف والقتل أحياناً، كل كلمة أومقال او دراسة، او رأي يبديه هذا المثقف، او المفكر، او الاديب والشاعر، وهذا الواقع له أثر أيضاً على تجليات الإنتاج الفكري والنقدي خصوصاً، بل له أثره على نسق الفكرة نفسها، سوى في المقالة، او الدراسة، أو الرواية او القصة او الشعر بكل تنوعاته، بما فيها إنتاج الكتاب، ونشر الصحيفة، أو إقامة الأُمسية الأدبية، ولعل هذا يحتاج السبر وتتبع ما يمكن تسميته، أدب الحروب الأهلية، والفكر اوقات الفتن، والثقافة في أتون الصراع المسلح، وإنتشار الجماعات المسلحة، التي تمارس سلطة على الأرض، لا يعرف أحد او يمكن له أن يحدد لها ماتفعل، او ماتقوم به، في حياة وواقع المجتمع، بما فيه حياة النخب والمثقفين والمفكرين والأدباء والشعراء.
أن رصد الحالة الفكرية الليبية يحتاج مساحة اوسع، وتتبع على ارض الواقع، غير أنه يمكننا الحديث عما يظهر من أخبارها عبر وسائل التواصل الحديثة، من اذاعات مرئية، او مواقع التواصل الإجتماعي وما ينشر عبر شبكة الأنترنت، وهو يشمل الكتب التي صدرت بعد عام 2011م، وهي تراوحت بين كتب التمجيد القبلي، وكتب القدح ونقد النظام السابق، ونوع أخر من الكتب التي نزعت نحو سيرة ذاتية لما حصل منذ فبراير 2011م، بما فيها الكتب التي أصدرها بعض العرب، والتي دخلت السوق الليبي، ويقع من ضمن هذا الإصدارات الفكرية، المجلات، التي تنشر الإنتاج الفكري، وليس القصد هنا، المجال الأكاديمي فهو يحتاج لرصد على أرض الواقع بما يحصل في الجامعات، وإنما القصد هو ما نشر على فضاء العام فيما يتعلق بالفكر، وأيضاً الكتب الأُخرى التي أرخت للوقائع، وخاصة فيما يخص التدخل الدولي وفضح مراميه ومساراته، سردت المقاومة الليبية لغزو الناتو، وتفاصيل ومجريات تلك المقاومة الباسلة، وأيضاً بعضها سرد طريق الهجرة للخارج، مع نزوح الكثير من النخب الفكرية والثقافية خارج ليبيا، فراراً من سطوة الجماعات المسلحة، والخطف والسجن والتعذيب، وحتى القتل.
وبالنظر لكل ذلك، يلاحظ من جهة أخرى، أن المشترك الفكري يعاني من إشكاليات الحذر والتقوقع، بما فيه المثقف المهاجر طوعاً أو قسراً، وضعف ترابط أطر الواقع الفكري، فتقسمت الحياة الفكرية، على جزر معزولة، فالتيارات العروبية، لا تلتفت للواقع المحلية وتترفع عليه، وتمارس الهروب من الإهتمام بالواقع، وبالمقابل التيارات المحلية القبلية والمناطقية، غارقة في تفاصيل هذا الواقع وتدس أنفها في إنفاعالاته، ولا ترى أبعد من إطرها المحلية قبلياً ومناطقياً، بينما بقايا اليسار الليبي وكتبته، يعتقدون بملكيتهم الحصرية للفكر والثقافة والفهم في ليبيا، فهذه البقايا لا تًطرق فيما بينه – بالنظر للواقع – أي قيمة من قيم اليسار العالمي المعروفة تاريخياً ونظرياً، والمتعلقة بالمساواة، والعدالة الإجتماعية بمعناها الإقتصادي والإجتماعي، ومحاربة الإمبريالية وذراعها الرأسمالية، وبقى هذا التيار اليساري يحصر إنتاجه في هاجس إختلافات أرائه مع النظام السابق، ويجعل من ذلك مادته الأولى والأخيرة والدائمة والمزمنة، دون إلتفات للواقع اليوم وهو لا يرى مأساويته، او هو يبدو عاجز عن التعاطي معه فكرياً، ومع التقدير للبعض منه – في دعوته للنظر للمستقبل – يكرس بقايا هذا التيار أغلب نصوصه وإنتاجه الفكري والثقافي حول معاناته السابقة في السجون ما قبل 2011م، ويجتر تقريع الماضي وجعله خبز نصوصه، بالمقابل لا يلتفت اليوم لسجون الجماعات المسلحة التي جرفت قطاعات عريضة داخل سجونها وأذاقتهم الويل، حيث تنتشر السجون الغير شرعية، والتي إمتلأت بقطاعات عريضة من الناس تحت مبرر أزلام، او تحت مبررات قبلية او مناطقية ..الخ.
وبالمقابل التيارات الفكرية اليمينية بتنوعاتها بما فيه الإسلاموية، فهي مشغولة بالإنتقام من الماضي، منها التي تعمل مذهبياً سلفياً، واخوانياً، على أخونة البلاد والعباد، دون أي إعتبار للحالة الفكرية الوطنية ومسيرتها التاريخية، وتقوم بتهميش الإسلام المحلي (المالكية)، وهي لها مشاغلها العقدية، والإسلاموية السياسية، والجماعاتية المقاتلة، التي تهلل لما يأتي من الرياض، والدوحة، وإسطنبول من فتاوي وأراء، وهي تسيطر على عدد كبير من الإذاعات المحلية (الراديو) تتوزع على الخريطة الليبية)، بينما بقى القطاع العريض من الكُتاب المستقلين او المتأرجحين بين هذا وذلك، تتجاذبهم الأحداث هنا وهناك، حتى لم يشاركوا في تتبع الوقائع اليومية فكرياً، ولم يستطيعوا تقديم رؤية فكرية او وطنية (رغم المحاولات المحدودة للبعض)، تجمع بين تنوعات الواقع المحلي وإطاره الوطني، وعلاقاته العربية العربية، فلم تتاح لهم الفرصة، والظروف لا توفر لهم الأمان النفسي للنشر والإدلاء بالرأي والمجاهرة به.
لقد أعاقت ظروف الواقع الليبي، أي دور للمفكر والمثقف والأديب الليبي، ومنعته من ممارسة دوره المأمول، والمطلوب في وقته وزمانه نفس اليوم واللحظة والمرحلة، بسبب ماساوية هذا الواقع وتسارع الأحداث فيه، ووبسبب سطوة قوى الجذب المحلية، والإقليمية، والدولية المتدخلة في الشأن الليبي، ويستثنى من هذا الوصف، محاولات ومحتشمة تجاهد من أجل تقديم شيء مفيد، لكنها على أية حال لا زالت محدودة وضعيفة، رغم جديتها وجسارة القائمين بها وعليها، سوى في مؤسسات الثقافة والإعلام الرسمية، او في النوادي الثقافية المحلية، والمسرح، والأدباء والشعراء، والناشرين، والكتاب، او على الإذاعات المسموعة المحلية والوطنية، وبعض القنوات التلفزيونية.
أن الحالة الفكرية، الليبية ليست فقيرة، والمفكر الليبي أكاديمي او مجتهد فكري – سوى صحفي او كاتب – يقدم إنتاج معتبر للمكتبة والقاريئ العربي، في المجلات الثقافية، محلياً ووطنيا وعربياً، وثمة عدد لابأس به من المواقع الثقافية على شبكة الإنترنت، وإصدارات دورية من صحف ومجلات، وأيضاً تقام ندوات فكرية وثقافية وأُمسيات شعرية ومهرجانات ومعارض للكتاب، وملتقيات حول الأدب والسرد، والترجمة، تناقش قضايا الثقافة المحلية والعربية، والمجال الفكري والأدبي وتنوعاته، وتقوم بعض الإذاعات المحلية المسموعة بدور ثقافي مهم، لازال يشكل شيئاً من روح المجتمع الليبي، المعبرة عن جثوة الحياة والمقاومة والبقاء.
ورغم كل هذه الجهود، وبسبب سقوط العقد الإجتماعي (قوة جهاز الدولة المركزي)، وتوالد المعاركة المتتالية، ودخانها وغبارها، فأن الشأن الثقافي مُبعد عن التداول الذي يجدر به، والمثقف الليبي رغم قدرته وإمكاناته الذاتية، لايزال ضعيف التأثير سياسياً، ويعاني من حالة تهميش حتى الأن، وهو بعيد عن أي أثر فيما يجري في ليبيا، والإنتاج الفكري متأثر جداً، ويعيش تحت وطأة ظروف ومأساوية الواقع، بسبب الفقر والفاقة وضنك الحياة، وبسبب غبار ودخان المعارك، وما يجري في الواقع اليومي ومأساويته ودمويته، وإنفلاته على بعضه البعض، ففي الحقيقة أن المفكرين والأدباء والمثقفين والشعراء الليبيين – برغم مكانتهم على الخارطة الفكرية العربية – هم في مواجهة واقع صعب، مليئة بالمخاطر وتنوعها في الواقع اليومي، سوى في الجامعات، او قاعات البحث او مراكز البحوث، او في الإعلام والصحافة والمجلات، او حتى على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، بالإظافة لمأساوية الواقع المعيشي، والظروف المادية السيئة، وضنك الحياة اليومية، ويرافق ويوازي هذه الحالة، التعدي اللفظي، وشيوع التطاول على المجتهد الفكري – في ليبيا – علاوة على تهميشه وتخويفه، حيث سببت مثلاً مواقع التواصل الإجتماعي، حالة إنعدام التناسب الإخلاقي بين المتصفحين، إلا في إستثناءات قليلة محترمة، لا تكاد ترى لها فعل بسبب حدة الواقع والتعدي اللفظي، الذي صار سمة غالبة يتعرض لها، المجهد الفكري في ليبيا، بغض النظر عن تقييم إتجاهه، او الزاوية التي يطرح من خلالها الفكرة، وبالتالي هذا المثقف والمفكر والأديب، عرضة للتتبع والملاحقة والإيذاء.
أن تأثر الحالة الفكرية بالأوضاع في ليبيا، واضح وجلي، رغم كل المجهود الذي يقوم به بعض المسؤولين والجهات الحكومية، وبعض المثقفين في الدواخل، وأيضاً المجهود الشخصي والجماعي المحدود، من المثقفين والمفكرين الليبيين، للبقاء على خارطة الفكر العربي، بما فيه من إنتاج ثقافي، وفكري وأدبي، هذا التأثر متعلق بضعف المشاركة والمساهمة في رسم واقع ومستقبل البلاد، فما يجري من سجال وحروب وحتى حوارات، لا تأثير للمفكر والمثقف الليبي فيها، بحكم أهمية الدور، وتأثير غيابه، بل أن هذا المفكر والمثقف هو الغائب الأبرز عن الفعل، فالنخب الفكرية هي صمام أمان الشعوب تقود الوعي الوطني وتوجهه، وهي التي تشكل أحدأهم عناصر ضميره، فبقدرتها تتمكن من فهم وتلمس طرائق العبور، بما لها من قدرة على فهم السياقات، والمنهجيات، ولها القدرة على الرؤية الأوضح للقضايا، والمشاريع، وهذه النُخب هي التي تمكن المجتمع من النجاة من الوقوع في حبائل المخططات، بما فيها المنهجيات القاتلة للشعوب والمجتمعات، التي يصعب على العامة والبعيدين عن مجال الفكر، فهم ما يحاك وما يجري وابعاده، علاوة على أن المفكر والمثقف هو الأقدر على فهم، سياقات الألعيب الدولية، وحيلها، وأبعادها، وطرائق عملها، والأهم أن المجال الفكري والثقافي والأدبي، يشكل البراح المسالم للتنافس والإنتخاب الطبيعي للتميز، فلا مغالبة في الفكر، بل الأقناع، الذي له براح المداولة في إطار الرأي والرأي الأخر.
والله من وراء القصد
كاتب ليبي مقيم ببريطانيا