كورونا بعيون الفلاسفة الألمان

هل يُطلِق وباء الكورونا الرصاصة الأخيرة على جسد الحضارة الصناعيّة المُتهاوية؟ وهل نحن أمام مُنعطفٍ خطرٍ يؤدّي إلى تحوّلاتٍ جذريّة على مستوياتٍ متعدّدة من شأنها تغيير صورة العالَم الذي نحن عليه اليوم؟ وما هي التصوّرات الفلسفيّة للعالَم في ظلّ اقتصادٍ ينهار بفعل سياسات لم تكُن على مستوى تحدّيات هذا الوباء؟

من المؤكّد أنّ مشروعيّة هذه الأسئلة تنطلق من المُعطيات الميدانيّة، إذ يجتاح فيروس "كوفيد-19" العالَمَ برمّته مُسبّباً الموت والخوف والركود الاقتصاديّ والفوضى. واقعٌ كارثيّ تحوَّل إلى موضوعِ نقاشٍ فلسفيّ جدّي في العالَم وعلى مستوى ألمانيا كدولة صناعيّة فاعِلة تُواجِه الفيروس بقوّة.

لعلّ أبرز مَن يُمكن أن يتحدّث كفيلسوفٍ مُخضرمٍ عن هذه الظاهرة، هو يورغن هابرماس، المولود في العام 1929 في مدينة دوسلدورف الألمانيّة. إذ يعتبر، وهو أحد أعمدة مدرسة فرانكفورت النقديّة، أنّ جائحة كورونا تُجبرنا أن "نتصرّف واضعين نصب أعيننا محدوديّة مَعرفتنا". وفي حديث نشرته صحيفة "فرانكفورتر روندشاو"، بتاريخ 10 نيسان (إبريل) 2020، يتحدّث عن تفشّي حالة "عدم اليقين الوجودي" على مستوى العالَم وفي وقتٍ واحد، في أذهان الأفراد المُرتبطين بشبكات وسائل الإعلام أنفسهم، ناصحاً خبراء العلوم الاقتصاديّة والاجتماعيّة أن يتراجعوا عن التوقّعات المتهوّرة.

يؤكِّد الفيلسوف المُعاصر، في ما يتعلّق بأزمة انتشار فيروسات "كوفيد-19"، "شيئاً واحداً يُمكن أن يُقال: لم يكُن هناك الكثير من المَعرفة حول جهلنا وإكراهنا على العمل والعيش في ظلّ عدم اليقين". ويرى أنّ في سياق الأزمة حتّى الآن، كان السياسيّون، ويُمكن ملاحظتهم في بعض البلدان، يتردّدون في بناء استراتيجيّتهم على أساس مبدأ أنّ جهود الدولة لإنقاذ حياة كلّ إنسان يجب أن تكون لها أولويّة مُطلقة مع التكاليف الاقتصاديّة غير المرغوب فيها والتي يُمكن أن تؤدّي هذا الهدف.

يُلاحظ صاحب نظريّة الفعل التواصلي، أنّه في حال أَطلقت الدولة العنان للوباء من أجل تحقيق مَناعةٍ كافية بسرعة لدى جميع السكّان، فإنّها ستقبل المُخاطَرة، التي يُمكن تجنّبها، بانهيارٍ متوقَّع للنظام الصحّي، وارتفاع نسبة الوفيّات. ويقول "تسلِّط قصّتي أيضاً الضوء على الخلفيّة الأخلاقيّة والفلسفيّة للاستراتيجيّات الحاليّة في التعامل مع مثل هذه الأزمات"، مشدِّداً على عدم المَساس بالكرامة الإنسانيّة التي يضمنها القانون الأساسي الألماني في مادّته الأولى على مستوى الفقرة 2: "لكلّ شخص الحقّ في الحياة والسلامة الجسديّة".

مَخاطِر الانهيار

مجلّة "فلسفة" الألمانيّة المُتخصّصة فتحت باب النقاش الفكري حول ما يُمكن تسميته بمَخاطر الانهيار في المُستقبل القريب، وقد أسهمت في هذا النقاش الفيلسوفة جول غوفرين، أستاذة الفلسفة الاجتماعيّة في جامعة أوروبا في فلنسبورغ، التي ترى أنّ تخفيف أزمة كورونا، يتطلّب من البلدان في الوقت الحالي أن تتحمّل ديوناً ضخمة. وفي مقالتها التي حملت عنوان "مَن ينبغي أن يدفع؟" تستحضر صاحبة كِتاب "الاقتصاد والرغبة" الفيلسوفَ فريدريش نيتشه، وحديثه "أنّ العلاقة بين الدائنين والمدينين استندت إلى عدم تناسُقٍ شديد، مؤكّدةً الأحداث الاقتصاديّة التي مرّت بها الولايات المتّحدة في العام 2008، إذ إنّه "في الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، غالباً ما كان الإقراض بمثابة رافعة سياسيّة لتنفيذ تدابير التقشّف والخصْخَصة التي عمّقت عدم المساواة الاجتماعيّة"، مشيرة إلى "أنّ التخفيضات في دولة الرفاهيّة تزيد من الآثار المُميتة للفيروس، حيث إنّ الأنظمة الصحيّة المتعثّرة التي تمّ إنقاذها معرّضة لخطر الانهيار. في ضوء ذلك، فإنّ الحكومات التي اتّبعت حتّى الآن مبدأ النيوليبراليّة للخصْخَصة تتعرّض لضغوطٍ لاتّخاذ إجراءات للتدخّل في السوق"، مُتسائلةً "تُمنح القروض الكبيرة لشركاتٍ ودول في حالة مديونيّة لتخفيف حالات الطوارئ الاجتماعيّة والحفاظ على تشغيل الأنظمة الصحيّة، ولكن من سيُسدِّد هذا الدَّين؟".

لهذا تحذِّر غوفرين من "الأبعاد المُدمّرة" لسياسة التقشّف التي تفرضها مؤسّسات الإقراض مثل صندوق النقد الدولي، داعيةً السياسيّين إلى تحرير أنفسهم من اقتصاد الدَّين، الذي يجعل قراراتهم تعتمد على حساب المُقرِض.

والحلّ من أجل التعامل مع هذه الأزمات والأزمات المستقبليّة، كما ترى، هو "ظهور عقلانيّة سياسيّة تتبع المَطالِب الاجتماعيّة أكثر من مصالح ريادة الأعمال، ما يضع الصالح العامّ فوق الرفاهيّة الاقتصاديّة، قد يتمّ ذلك من خلال توزيعٍ عادلٍ للتكاليف اعتماداً على الثروة عبر فرْض ضرائب على أصحاب المَداخيل الخياليّة".

الولادة المُبدِعة

من وجهة نظر سوسيو-فلسفيّة، يشرح عالِم الاجتماع هارتموت روزا أزمة الكورونا في ضوء مفهوم الولادة عند الفيلسوفة حنّة أرندت. يقول أستاذ العلوم الاجتماعيّة في جامعة فريدريش شيلر في مدينة ينا، إنّ التباطؤ أصبح حاليّاً حقيقة اجتماعيّة كليّة، وليس خيالاً، كما يدّعي النقّاد. يفسّر أن سبب هذا التباطؤ العمل السياسي، وفي كثير من الأماكن عمل الحكومات المُنتَخبة ديموقراطيّاً، وليس آليّة عمل الفيروسات، مُشيراً إلى أنّ السياسة اكتسبت قوّة غير مسبوقة للعمل ضدّ منطق الأسواق الماليّة والشركات الكبيرة والمصالح التجاريّة، وأيضاً ضدّ حقوق المُواطنين.

يتحدّث روزا، وهو أيضاً مدير كليّة ماكس فيبر في جامعة إيرفورت، عن وجود قواعد وروتينات ثابتة، شارحاً أنّه كلّما كان المجتمع أكثر تعقيداً، زادت صعوبة وخطورة ترْك المسارات التي تمّ العمل وفْقها. ولكنْ الآن تمَّت مُقاطَعة العديد من سلاسل العمليّات، وتوقّفت الروتينات، وتوقّفت العجلات. هذه نقطة استثنائيّة تاريخيّة نادراً ما يتمّ الوصول إليها. هناك احتمال كبير أن يُحاول المجتمع العودة إلى الروتينات والمَسارات القديمة في أقرب وقتٍ مُمكن بعد أن تهدأ الأزمة، لدفْع العجلات مرّة أخرى. ومع ذلك، نحن في "نقطة تشعّب" حيث يبدو تغيير المَسار الاجتماعي مُمكناً.

لكنّ روزا يقف حائراً أمام صورة المستقبل إذ "لا يوجد نموذج اجتماعي أو اقتصادي أو نموذج آخر مُستقبلي يُمكنه التنبّؤ بما سيحدث الآن، لأنّه لا يعتمد على معرفتنا، بل على أعمالنا.. علينا أن نبدأ من جديد ونكون مُبدعين: وفقاً لحنّة أرندت، هذه هي خصوصيّة القدرة البشريّة على العمل. تسمّيها الولادة".

بداية تحوّلات

من ناحيته، يعتبر رئيس تحرير مجلّة "فلسفة" نيلز ماركوردت، في مقاله، أنّ فيروس كورونا تسبَّب في انهيارٍ اجتماعي لم يكُن موجوداً على الإطلاق تاريخيّاً، وربّما لم يظنّ معظم الناس أنّه مُمكن الحدوث. إغلاق الأعمال والحياة الاجتماعيّة على حدّ سواء. ويتوقّع، على الرّغم من أنّ هذا الانهيار فريد من نَوعه، "أنّه سينتهي في مرحلة ما.. وستكون هناك عودة إلى الوضع الطبيعي. هذا ليس بأيّ حال من الأحوال متهوّراً أو حتّى رومانسيّاً، لأنّ الوباء يُدمّر سُبل عيش لا حصر لها: يكلِّف الناس حياتهم أو أقاربهم أو وظائفهم. هذا هو السبب في أنّ الحياة الطبيعيّة في المستقبل ستكون جديدة ومُختلفة. بالنسبة إلى الكثيرين سيكون ذلك بشكل شخصيّ للغاية، ولكنْ على أيّ حال بطريقة اجتماعيّة، لأنّ انهيار النُّظم الاجتماعيّة لم يُشكِّل تاريخيّاً نهاية، بل هو بداية التحوّلات الاجتماعيّة".

نهاية الرأسماليّة

أمّا استاذ الجماليّات في معهد أوفنباخ أم ماين، مارتن غيسمان، فيتناول المسألة من وجهة نظر بيئيّة مُتفائلة لتحسين العالَم بعد الانتهاء من هذه الأزمة، داعياً إلى "المزيد من الإنسانيّة ونهاية الرأسماليّة".

ويقول استناداً إلى أطروحة كارل ماركس الشهيرة "الأطروحة الحادية عشرة حول فيورباخ"، إنّ الطابع الحالي للأزمات لا يجب تفسيره لفترة طويلة، "نحن نعلم بشكلٍ موثوق به ما الذي يحدث بشكلٍ خاطئ. نحن نعرف ما يتطلّبه الأمر لمنْع الأوبئة ونعلم ما يتعيّن علينا القيام به لحماية المناخ. الشيء الجديد الوحيد هو أنّ الأزمة أيقظت فجأة الرغبة في تحرير تريليونات المبالغ التي تكلّفتها بشكلٍ مُستدام".

يتساءل غيسمان عن سبب إنقاذ شركات الطيران باهظة الثمن إذا كان من المُمكن استخدام الأموال لإنشاء شبكة جديدة من القطارات السريعة؟ مشيراً الى وجوب التفكير مرّة أخرى في وسائل النقل العامّ. ويرى أنّ هذه التجربة المريرة التي يمرّ بها العالَم قد تؤهّلنا لأن نُواصل حياتنا وفْق نمطها بحيث نحوِّل المنازل إلى مَكاتب ونعمل ثلاثة أيّام في الأسبوع.

يحاول أستاذ الثقافة والنظريّات التقنيّة الدخول من هذه الأزمة إلى عالَمٍ أكثر ابتكاراً وأقلّ كلفة ماديّة وبيئيّة، مُقترِحاً بناء أسطولٍ من سيّارات الأجرة الإلكترونيّة، والتي سيتمّ استخدامها بشكلٍ خاصّ من قِبَلِ كِبار السنّ والأشخاص ذوي الإعاقة. يتساءل هنا: "إذا استثمرنا الكثير من المال الآن، فلماذا لا نتبع نهجاً أكثر ذكاءً وإنسانيّة؟ التفكير أكثر من ذلك: لماذا لا نجمع بين العَيش والعمل معاً على الإطلاق، حيث إنّ جميع مجالات العمل التقليديّة قد هوت على أيّ حال؟ وستكون الصناعات الحضريّة هي الكلمة الرئيسة المُناسِبة لذلك. في أحسن الأحوال، تعيش في المبنى نفسه الذي يوجد به مَكتبك أو الإستديو الخاصّ بك".

قد يبدو التفاؤل في كلامه واضحاً بأنّ "الإنسانيّة لا تخلو من القوّة وأنّ التفكير الواضح والمتميّز يجب ألّا يكون متأخّراً دائماً".

معمّر عطوي / كاتِب عربيّ مُقيم في ألمانيا