محمد غلام ولد محمدو / صحفي أول في شبكة الجزيرة الإعلامية

كان ذلك منذ نحو خمس سنوات. عنوان صادم يعترضني في أحد مواقعنا الوطنية: ولد البخاري يزوج ابنته نصرانيا (أو نحو ذلك). وبالضغط على العنوان تبين أن المعنيّ هو “محمد بخاري” رئيس نيجيريا الحالي!

كانت تلك حيلة ماكرة لجلب الفضوليين مثلي إلى مواد لا تقع ضمن نطاق اهتماماتهم زيادةً في نسبة مقروئية مواقعهم الصفراء، وهي حيلة أعترف بأني طالما وقعت فريسة لها!

ولا يقتصر انعدام المهنية هنا على تلك الحيل، وإنما على سيل جارف من الأخطاء تحاول هذه المقالة رصد بعضها وتقديم حلول للمشاكل التي أفرزتها، لتجاوزها أو الحد من غلوائها. ومن تلك الأخطاء بل الخطايا: 

-أذكر صورة رجل أعمال موريتاني بارز مقلوبة مع منتج يستورده، في ابتزاز للدفع –دون مقابل- والركون “للصلح”.

– اعتماد الشائعات والأخبار الكاذبة (fake News) في تغذيتها. فبتصفح عابر لقائمة مواقعنا الطويلة ستجد أخبارا طازجة عن فضيحة لوزير هنا أو مدير هناك، مما تنعدم فيه أدنى القيم الإخبارية من دقة ومصداقية وموضوعية، بل ويخلو حتى من المقومات التقليدية للخبر: (Five Ws The)، فلن تعرف الوزير، ولا القصة، ولا زمانها، ولا مكانها، ولا لماذا حدثت.. وإنما هي خزعبلات صيغت بطريقة ركيكة للإثارة وجلب القراء.

-الأخطاء اللغوية والتحريرية الفاضحة.

– ظاهرة القص واللصق، دون تحرير أو إسناد.

-التركيز المبالغ فيه على الأخبار السياسية، وغياب عناصر التميز الأساسية، التي تتجلى أحيانا في التحقيقات والقصة الإنسانية (feature story).

-في الشكل، لم يبذل أصحابها أي جهد في تصميمها، وبدت كما لو كانت مجرد مدونات شخصية. وخلا أغلبها من تصميم خاص للهواتف الذكية.

وحتى الموقع الرسمي للوكالة الموريتانية للأنباء، فلا يبدو مختلفا عنها تصميما وتحريرا وثقلا. بل إن بعض المواقع الوطنية تسبقه في ذلك.

 

أما المشهد الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي، ففوضى عارمة من إثارة للكراهية والنعرات العنصرية والقبلية والجهوية والفئوية.

أخطاء مزمنة
وبإطلالة سريعة على قنواتنا، حتى الحكومية منها، ستجد الأخطاء في كل اتجاه:

*صور باهتة مهتزة.

*تكرار للمشهد الواحد وإعادة الصورة ذاتها مرارا في تقرير من ثلاث دقائق!

*طرح الأسئلة بشكل ببغائي وقراءتها قراءة، وتكرارها بنفس الصيغ.

* خلفيات سيئة تضيع معها صورة الأشخاص أحيانا.

* وضع خاطئ للمذيعين في الشاشة. ودأبت القناة الرسمية على وضع مذيعيها المنفردين على يمينها دون داع إخراجي لذلك كوجود نوافذ أو نحو ذلك. وفي القنوات الخاصة كثيرا ما طالعتنا صور مذيعيها في مواقع خاطئة.

*تقارير إخبارية لقصص مكررة أعيدت عشرات المرات.

*برامج تافهة لا تحمل رسالة، ولا تقدم فائدة، ولا تتضمن متعة.

صور غير احترافية

وحتى في الخطابات الرسمية لرئيس الجمهورية، يجري توليفها (مونتاجها) بشكل سيئ للغاية، وتتضمن -عادة- العديد من الأخطاء الفنية والإخراجية.

وفي تلك الخطابات يظهر من خلفه العلم الوطني في قماش رديء متغضن، وكأننا عاجزون عن توفير قطعة قماش حريري فاخر لعلم ينتصب خلف رئيس الجمهورية في خطبه، وإزاءه في استقبالاته الرسمية.

هذا إضافة إلى الصور غير الاحترافية التي تلتقط لفخامته أحيانا. وسنرى من المسؤول عن ذلك؟ وكيف يجري التغلب عليه؟

مشاكل بنيوية
ولا تقتصر تلك المشاكل على الأخطاء “الذاتية” لتلك المواقع، والقنوات، والمؤسسات؛ وإنما إلى مشاكل بنيوية لصيقة بطبيعة النظام السياسي وانفتاحه، وبالتنظيم الإعلامي ككل وبمؤسساته الرقابية. ومن هذه المشاكل:

– تقييد، بل انعدام، حرية الوصول إلى المعلومة؛ مما يقود إلى الركون للشائعة والخلط بين الخبر والتحليل.

-من المشاكل التي يعاني منها إعلامنا الرسمي بشكل خاص، تلك المرتبطة بالهياكل التنظيمية ومدى فاعليتها. وتكشف “التعيينات” الأخيرة في مؤسستي التلفزة والإذاعة عن ذلك الكم الهائل من الإدارات والمصالح والأقسام المتداخلة مهامُّها بطريقة عجيبة، مما ينعكس لا محالة على الأداء.

– الفساد المستشري في مؤسساتنا الإعلامية، حتى بات البعض يسميها أوكار المحسوبية والزبونية. وليس ببعيد عنا ما كشف مؤخرا من “أعطيات” ومنح لـ”متعاونين” و”مدونين” وغيرهم، من قبل الإذاعة الوطنية. ويستتبع ذلك بالضرورة هدر موارد كان مفترضا أن تنعكس إيجابا على أدائها الإعلامي.     

-الفشل الذريع للسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية (HAPA) في ضبط الإعلام الخصوصي ولجمه، وإلزام العمومي منه على الانفتاح أكثر على أطياف المعارضة، ليكون إعلاما جمهوريا، لا إعلام حكومة.

-غياب ميثاق شرف إعلامي موريتاني جامع ينتظم فيه كل الصحفيين ويمثل مرجعية لهم، ولو أخلاقية، بها يسترشدون وإليها يحتكمون.  

-إضافة إلى ما تقدم، فإن واحدة من أهم مشاكل إعلامنا وفشله هو غياب معاهد للتكوين المهني في المجال الصحافي، حيث إن أغلب ممارسي العمل الإعلامي في بلادنا لم يمتهنوا الصحافة ولم يبذلوا جهدا ذاتيا لتطوير أنفسهم.

هل من حل؟

بعد استعراض بعض تلك العلل، هذه مقترحات أولية، بعضها كليّ وبعضها جزئي أردت الإشارة إليه -تخصيصا- لرمزيته وأهميته، من وجهة نظري. على أني أغفلت ما فُهم من مفهوم المخالفة فيما ورد من رصد للمشاكل أعلاه.

ولعل المدخل الرئيس لعلاج أغلب تلك الإشكالات ذات الطبيعة العامة هو:

إعطاء سلطة حقيقية للسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية تخولها أداء عملها، خصوصا ما يتعلق برصد “انتهاكات القوانين والتنظيمات والأخلاقيات المهنية”، وهو ما تحدده المادة 52 من نظامها الداخلي، أو ما يتعلق برقابة البرامج (المادة 53)، وهما مجالان متشعبان.

اطلاعها هي نفسها بالمهام الموكلة إليها، وعدم تركها الحبل على الغارب لوسائل الإعلام.

توسيع مجالات تدخلها، تنظيما ورقابة وضبطا.

إنشاء معاهد للتكوين المهني في المجال الصحفي، لصقل مواهب الصحفيين وتزويدهم بمبادئ العمل الصحفي وأسس الصحافة الأخلاقية (Ethical Journalism).

إنشاء أقسام لضبط الجودة داخل مؤسساتنا الإعلامية، الخاصة أو العامة، حتى لو كانت من أشخاص محدودين.

وفي مجالات أكثر تخصيصا:

بالنسبة لنقاء صور التلفزيونات وجودتها، على قواتنا إدراك أن البث وفق تقنية SD لم تعد مناسبة اليوم، صحيح أن ترقيته إلىHD يتطلب موارد مالية قد لا تكون متوفرة لها، خصوصا بالنسبة للقنوات الخاصة، إذ يستدعي ذلك تغيير البنية التحتية للقناة من كاميرات وإضاءة وصوت ونحو ذلك. لكن أعتقد أنه يمكن التغلب على ذلك جزئيا، تخفيفا للكلفة المالية، عبر الدخول في شراكات إعلانية مع الشركات المزودة بها مثل Blackmagic وSony وCanon ونحوها، خصوصا مع قرب تصدير الغاز واهتمام بعض الشركات بالسوق الوطنية..

وبالنسبة لقناة “الموريتانية”، فرغم توفرها على تقنية High Definition كما تعلن، فمع افتراض سلامة الأجهزة وكفاءتها ومواءمتها، يبدو أنها لم تغير بعدُ سعة البث الخاصة بالتقنية، وهو ما يقتضي المعالجة. كما يتطلب الأمر ترقية موادها الأرشيفية التي تبثها بين الفينة والأخرى إلى التقنية ذاتها.

وبالنسبة لتغذية القنوات بمادة إعلامية غير مكلفة، هناك حلول بسيطة مثل استخدام الموبايل في التصوير والمونتاج، ضمن متطلبات بسيطة في الثبات والإضاءة وتنزيل تطبيقات رخيصة للمونتاج ببضع دولارات، وذلك في اتجاه جديد أصبح معروفا بصحافة الموبايل (Mobile journalism).

وقد أعدت بها الجزيرة بعض التقارير الإخبارية الجيدة، بل إن أفلاما عالمية جرى إنتاجها بالكامل -عبرها- من تصوير ومونتاج.

ظهور الرئيس

أما بالنسبة لصورة الرئيس في الإعلام فإن المسؤول عنها ليس التلفزيون الرسمي ووكالة الأنباء وحدهما، وإنما بشكل أساس المستشار الإعلامي للرئيس، وهو المسؤول عن تقديم صورة ناصعة ومؤثرة له.

إن مسألة صورة الرئيس ليس مسألة خاصة بشخصه الكريم، وإنما هي صورتنا جميعا. وعلى الفريق الإعلامي أن يحضّر ظهوره في استقبالاته الرسمية، وفي لقاءاته مع نظرائه الأجانب، وتصريحاتها الصحفية، وكيف يتعاطى مع وسائل الإعلام. و”التعاطي مع وسائل الإعلام” (Dealing with the Media) دورة ينصح بتلقيها كبار المسؤولين، بمن فيهم وزراء الخارجية والناطقون الرسميون. وعلى المستشار الإعلامي للرئيس أن يزوده بمبادئها العامة.

وعلى الفريق الإعلامي للرئيس أن يشرف على تصويره وتحديد زوايا صوره، إذ إن لكل زاوية دلالتها الفنية وبالتالي تأثيرها الذي تعكسه، وأن ينبهوه -كذلك- إلى ضرورة تلوين خطابه بتغيير نبرات صوته والتشديد على بعض الكلمات، ومتى يجب أن يسترسل أو يلجأ إلى الوقف والسكتات، وكيف يستخدم لغة الجسد.

وليعلم أولئك المسؤولون الإعلاميون أن ذلك كله ليس تجاوزا في حق الرئيس ولا سوءَ أدب معه ولا يتنافى مع التوقير اللازم له، وإنما هو من ضرورات وصميم عملهم.

وعلى المستشار الإعلامي أن يتأكد أيضا من أن الخطاب الرئاسي، في كل حال، مكتوب في فقرات قصيرة واضحة المعالم، وهو ما يقود إلى قراءة فعّالة منسابة، لا تتلاحق فيها أنفاس القارئ ولا يتيه فيها المتابع.

مع التأكيد الدائم على الأهمية البالغة لظهور الرئيس إعلاميا، في مؤتمرات صحفية أو خطب أو كلمات قصيرة، كأداة أساسية لممارسة السلطة. وقد كان مناسبا ظهوره مثلا وهو يقرأ خطاب التكليف الموجه للحكومة.

وبالنسبة لعزوف الجمهور عن وسائل الإعلام التقليدية -لأسباب مرتبطة بظاهرة الفردانية والتطور التقني- لا بد لتلك الوسائل من ملاحقة ذلك الجمهور على هواتفه وألواحه الإلكترونية، وذلك عن طريق بناء منصات إلكترونية جذابة على وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر استخداما، وتغذيتها بمواد مناسبة لها، رشاقة وسرعة؛ ومن تقطيع برامجها وموادها الإخبارية ورفعها على منصاتها الرقمية تلك، وهو ما ينبغي كذلك على كل المؤسسات الرسمية من رئاسة ووزارات، أن تنحوَه.

الآفاق 

أعطت المقاربات الحكومية الأخيرة لعلاج مسألة الإعلام الموريتاني انطباعا برغبة واضحة لإصلاح القطاع، سواء من خلال تمكين صحفيين مهنيين من إدارة مؤسسات إعلامية كبرى، أو من خلال تشكيل لجنة وازنة لإصلاح الإعلام.

وإذا كانت المقاربة الأولى جيدة وهي موضع ترحيب، فإن الثانية -في شقها المتعلق باختيار الأعضاء- تبدو قاصرة، بالنظر إلى أن تلك اللجنة منفصلة، بحكم الزمان وتغير الأحوال، عن الواقع الصحفي.

فلقد شهدت الأعوام العشرة الماضية، وحدها، تغييرات جذرية هائلة في عالم الصحافة، من آليات وتقنيات، وأشكال وأنماط، وجمهور، وحتى على مستوى الكتابة الصحفية نفسها؛ مما يستدعى التساؤل عن إمكانية مواكبة تلك اللجنة المكلفة بإصلاح الإعلام، لتلك التطورات، واستيعابها لها، وبعضهم ممن لم يمارس هذه المهنة منذ عقود!