لطالما قامت روح الفنون الحية على أن العرض يجب أن يستمر على الرغم من أي واقعة أو حادثة أو خلل. وبالنسبة إلى هذه الفنون، وعلى رأسها المسرح، فإنها تعيش في لحظة مظلمة من تاريخها، ولا مبالغة في القول إنه فصل غير مسبوق في سيرة المسرح العالمي، حيث الخشبات في أكثر من نصف مدن العالم مقفرة ولم تشهد عرضاً واحداً منذ أشهر.
تبدو حالة الإغلاق العالمي تراجيديا يظهر معها أن "أبا الفنون" في عالم ما بعد الوباء لن يكون نفسه... المساحة التي كانت قائمةً على القرب وتلاصق المقاعد سوف تناقض ما عاش عليه الجمهور في شهور الصدمة والتباعد الاجتماعي والخوف من الاقتراب والتلامس.
المسرحيون اليوم أمام السؤال الذي يواجه كل شيء، يمكنهم العودة إلى الطرق القديمة أو تحديد مسارات جديدة، أو ربما يتقدمون نحو عمل جماعي أكثر إنصافاً وحباً ممّا فعلته المؤسّسات والفرق المسرحية من قبل. على سبيل المثال، طرح فتح الأرشيفات الرقمية للمسارح العالمية التاريخية وإتاحتها للجمهور في كل مكان سؤالاً: لمَ لم يكن ذلك ممكناً من قبل؟
وفي نيويورك أخذت بعض الفرق المسرحية عهداً على نفسها بأنّ أول شيء ستفعله عندما يُسمح بالتجمّع مرّة أُخرى، أن تجوب الأحياء وتؤدّي للناس في كل زقاق وبلدة ومدينة، لأن الحاجة إلى إظهار أهمية المسرح الحيّ أصبحت أكثر ضرورة من أي وقت مضى. ولكن لماذا لم يكن هذا التفاني في إيصال العرض إلى الأحياء المهمشة مطروحاً هكذا من قبل؟
في حديثها إلى "العربي الجديد"، تقول الكاتبة المسرحية والمخرجة الأردنية المقيمة في برلين آمال خوري: "في رأيي، قوّة المسرح تكمن في وجودنا معاً بأجسادنا، المسرح هو جسد ومكان، وحتّى حين يكون العرض افتراضياً مباشراً، فهو في الحقيقة مجرّد تسجيل. إنّ فعل المسرح بلا حضور للجسد يبدو لي فعلاً في غاية العنف، ولا أحاول أن أكون مشتائمة، لكن قوّة المسرح تكمن في المجازفة التي نخوضها ونحن نقدّم عرضاً حيّاً أمام أشخاص حاضرين بأجسادهم. هنا تكمن خطورة المسرح، وفي هذه الخطورة يظهر معدن العمل إن كان جيّداً جدّاً أو سيّئاً جدّاً".
نسألها عن تجربتها كمتلقية للمسرح الافتراضي، فتوضّح: "تابعتُ عرضاً من المسرح الوطني البريطاني، وكانت هناك كاميرا من زاوية معيّنة تتغيّر كلّ فترة، وهذه فرضت عليَّ تجربة مشاهدة مختلفة جدّاً، ويجري التدخّل فيها باستمرار، أضف إلى ذلك الفذلكة في تبديل زوايا الكاميرا بحيث تصبح زاوية المشاهدة هي وجهة نظر المصوّر واللقطة المأخوذة، وليست زاويتي أنا كمتفرّج، وأنّ وسيطاً جديداً، أقرب إلى السينما، دخل على تجربة تلقّينا للمسرح حين تحوّل إلى تجربة افتراضية".
تعلق مخرجة "هي هو أنا"، وعلى نحو ساخر بقولها: "أحسّ أنّني هذه الأيام anti- theater، والسبب شعوري أنّ لا أحد يفتقد المسرح سوى نحن أهل المسرح نفسه، وربما أكون مرتاحة على نحوٍ تهكّمي وفارق لكون المسرح الذي أعشقه ليس موجوداً. كان من المفترض أن تُعرض مسرحيتي في حزيران/ يونيو الجاري في نيويورك، وقد ألغي العرض، ونحاول الآن تقديمه افتراضياً، وخياراتنا كفريق هي تقديمه كسرد رقمي قائم على قراءات الممثّلين، ذلك أن العرض وثائقي ويحتمل فكرة الشهادات، لكنّني أفكر بعرض المسرحية على منصة (زووم) المخصّصة للاجتماعات للإبقاء على التفاعل المباشر والمشاهدة الأقرب إلى جو المسرح الحيّ".
أما المخرجة المسرحية الفلسطينية اللبنانية علية الخالدي، فتقول لـ"العربي الجديد"، إن "المسرح في أيام الأوبئة في القرن التاسع عشر مثلاً وأوائل القرن العشرين تضرّر أيضاً، وكُتُب التاريخ تذكر أحوال المسارح وإغلاقها في تلك الفترة، ولكنّ ما حدث للمسرح في 2020 يشمل عدّة أمور؛ أوّلها أننا لجأنا إلى مشاهدة المسرحيات الغربية أونلاين، وهذا أتاح لنا متابعة عروض خلّاقة من (الناشونال ثياتر) و(الرويال كورت) في لندن، وعروض (برودواي) أيضاً. ومنها ما أُتيح لوقت قصير فقط ثم رفعت، ولكنها منحتنا نوعاً من الدفء وتذكيراً بأن المسرح ما زال حياً". تكمل: "كما أننا عرفنا أن هناك مسارح أزالت الكراسي بشكلها المألوف في برلين، ووضعت المقاعد متباعدة وقليلة، أمّا أنا فكنت قد وصلت إلى حالة من اليأس قبل أن أبدأ في متابعة العروض الافتراضية والمسجّلة".
"
بات المسرح الحيُّ اليوم أكثر ضرورة من أي وقت مضى
"
تُلفت مخرجة مسرحية "عنبرة" إلى أنّ العروض الافتراضية "جعلتنا نعيد التفكير اليوم في تمسّكنا بأن المسرح لا بد أن يكون عرضاً حياً وأن العلاقة المباشرة بين الممثّل والجمهور أساسية والتمسّك بأهمية وجود ممثّلين على الخشبة، ولم نكن قبل هذه اللحظة نعطي أهمية لتصوير أعمالنا بطريقة محترفة، وهذا شيء لا بد أن نعيد النظر فيه كمسرحيين".
تكمل: "ما رأيناه أونلاين هي عروض مسجّلة وكان فيها جمهور، لذلك جاء العرض طبيعياً حين شاهدنا نسخة منه، ورأينا عروضاً فيها على الأقل خمس كاميرات من زوايا مختلفة ولقطات كلوز آب، وهذا زاد من واقعيتها"، وهذه مسألة تشير الخالدي إلى أنّ المسرحيّين العرب لم ينتبهوا إلى أهميتها، لافتةً إلى أعمال ربيع مروة ومعظمها - بحسب المخرجة - محاضرات أدائية وتصويرها جزء منها، ولا مشكلة لدى المتلقّي في حضورها أونلاين.
المسرح الافتراضي، في رأي الخالدي، يمكن أن يكون مسرحاً بديلاً، مؤكّدة أنها لم تقم أبداً بأي تجربة إخراجية افتراضية، ولكنها خلال هذا الفصل كأستاذة مسرح في الجامعة اللبنانية الأميركية حثت طلابها خلال فترة الحجر على تجربة هذا الشكل، إلى جانب أنهم أعدوا مسرحياتهم من منازلهم فاضطرّوا إلى ابتكار خشبة وسينوغرافيا بشكل خلّاق في غرفة من البيت ومن الصفر.
بالنسبة إلى المسرح ما بعد كورونا في لبنان، دون أن ننسى أنه فنّ متوقّف في البلاد منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بسبب المظاهرات والأوضاع السياسية، تقول الخالدي: "لا بد أن نفكر بطرق جديدة للتعبير، دون أن أستثني المسرح التقليدي الذي أنتمي إليه"، وتكمل: "أكيد سيتغيّر المسرح بعد كورونا، لأنه في الأصل فنّ يتطوّر ويتغيّر باستمرار، ولأننا مررنا بظرف استثنائي، ولكني أعتقد أنه سوف يتغيّر إلى الأفضل، والأهمّ أن يكون المسرح متاحاً للجميع، فنحن نعرف أنّ العروض التي شاهدناها من بريطانيا مثلاً تذاكرها في الواقع لا تقلّ عن خمسين باوندا، وأنها للنخبة فقط".
يجد المسرحيون أنفسهم اليوم أمام شرط يفرض عليهم اكتشاف طريقة أخرى للقيام بما اعتادوا على فعله دائماً، في يومياته خلال فترة الحجر يكتب المخرج المسرحي الكندي كين شوارتز، الذي قدم العديد من التجارب خلال الثلاثين سنة الماضية: "أنا لست فناناً رقمياً... عملي كان مع الفنانين الذين يسافرون مسافات طويلة لتجربة شيء جميل وحميم (...) أشعر أنني إسكافي في عالم الناس فيه لم تعد ترتدي الأحذية".