الولي سيدي هيبه
هي أزمات ثلاثة تقض المضاجع، تحير الأذهان، تنفطر لها القلوب و تربك أهل هذا البلد الذين لا يهتدون إلى كيف ينهضون من ركام البنية الهشة التي انهارت كبيت من الورق بعيد قيامها بسنوات قليلة بعد أن ابتدعها الفرنسيون - و قد أرهقتهم الحرب العالمية الثانية و صمت آذانهم نداءات التحرر تصدر من حناجر أحياها الوعي - و خططوا في عجالة من أمرهم لتسليمها لجيل الرواد المنحوت من صلب فكرها السياسي التمديني التهذيبي للآخر المحلي .(Indigène)
و لما أن هذا المستعمر ما كان ليترك مستعمرة من دون أن يغرس في عقول ساكنتها أو من يحسبون فيها على النخبة المتحضرة (civilisée) حب لغته و منهج تعاطي السياسة بمنطقه عوض فوضى النظام المجتمعي الطبقي ألاقتتالي المتخلف في دائرة البقاء للأقوى (La raison du plus fort) و المهانة و الدونية للأضعف (Infériorité de la race ou du statut).
و أيضا لما أن النجاح كان نسبيا حيث عشعشت المفاهيم التقليدية السائدة بكل سلبياتها في الإطار الحزبي المستحدث فقد اتخذت الأمور مسالك جديدة تتسم في ظاهرها بالعقلانية و لكنها أشد ضراوة في جوهرها لتُبقي الأحزاب التي تأسست في الخمسينات الوضعَ على ما هو عليه من التجاذبات القبلية و الاثنية الجهوية حتى انصهرت سلبا و قسرا في حزب الشعب الواحد، حزب النظام و الدولة؛ حزب شعب لم تزعزعه الحركات الأيديولوجية ـ التي ظهرت بقوة بداية السبعينات من صدى الخارج في أوساط الشبيبة المتعلمة و المتخرجة في عديد جامعات العالم الغربي و العربي و الإقليمي الإفريقي ـ حتى وقع فريسة حرب الصحراء و الجفاف لتحل محله الأحكام العسكرية متقمصة ذاته و روح الحركات بزيت العقلية المجتمعية. إرث لم تثن عنه كل التحولات التي طرأت في قوالب مسايرة العالم حيث أن السياسة في انفصام تام مع المصلحة العليا للوطن و المواطن.
و أما أزمة الإعلام فإنها لم تكن يوما بأقل حدة لأنها من صميم الأزمة السياسية الحادة. و إن لإعلام على عكس ما يقول البعض ظل دائما موجودا يواكب كل التطورات التي ظلت ناقصة و في مجملها متعثرة ناقص بنقصها و متعثر بتعثرها منذ ما قبل الاستقلال إلى يوم الناس هذا و عليه فإن مستواه أبدا لم يبرح دائرة و مستوى تلك الحركية القاصرة عن واقع التحولات من حول البلد إفريقيا و مغاربيا. صحيح أن الوسائل تطورت و أن مستويات الأداء المهني تحسنت و أن الفضاء السمعي البصري (تلفزيونات، مواقع الكترونية، إذاعات) حرر و لكن غير صحيح أن الرسالة الإعلامية تحررت بالمقابل و في مجملها من تأثيرات و ضغوطات التبعية الإنتمائية الضيقة بكل أوجهها و الانتهازية المادية المخزية.
يعاني المواطن الموريتاني من أزمة جذرية حادة ذات أوجه ثلاثة تنخر كيانه، تغيب عطاءه و تشنج طباعه. فهو بما نال من فوائد الاستقرار و غياب أكثر أوجه السيبة بشاعة مع حضور الدولة المركزية وعلى ما يجد قد تأصل في نفسه من علامات هذه المدنية و ما تفرضه عليه من حالات الاستقرار هو لا يزال مكبلا :
· بقيود الماضوية في كل أوجهها و اعتباراتها التراتبية و انعكاسات النفسية السلبية،
· و عقلية استسهال التحصيل المادي بواسطة النهب المباح و الفساد المعلن و باتباع كل المسلكيات المؤدية إلى ذلك في ابتعاد سلوكي مرضي عن العمل و الإبداع و الخلق و الابتكار،
· و غياب الوطن في عقله و ضميره و عن روح البذل لأجله و رفع شأنه و الرص على الاستظلال به سقفا آمنا و سورا واقيا و حياضا جامعة مانعة حافظة لتميزه و خصوصيته المنفتحة الوهاجة البناءة.
هي إذا أزمات ثلاثة تكبل المسار الحتمي، و بقدر ما لا تحتاج مجتمعة إلى كاشف من شدة وضوحها، بقدر ما تستدعي محاربتها تضافر جهود القوى السياسية الحية النزيهة و المثقفة المتنورة و الإعلامية الحرة المتبصرة و الجماهيرية الرافضة الوقوف متصلبة في مستنقع التلاعب بالوطن و التغاضي عن هدم المفسدين و إغراقهم البلد، و باعة الكرامة في سوق نخاسة النفاق السياسي الهابطة و انتكاس المثقفين المستسلمين لدغدغة المادة و قد نسوا أن المنتج الفكري و العلمي و الثقافي بمختلف تجلياته الإبداعية والفكرية في حقول العلوم و الآداب والفنون بشكل عام لن يحقق قيمته المضافة أو يصل غاياته التثقيفية و التوعوية والترفيهية و أعلى المستوى الرمزي والمعنوي والتراكمي بمعزل عن الوسائط التواصلية الإعلامية و النأي عن الالتحام المضموني العملي بالسياسيين أصحاب الخطابات الرصينة و الفلسفات المتنورة و البرامج البناءة.