ليس هذا المقال تأريخا للديموقراطية في موريتانيا، ولا يطمح أن يقدم قصة ديموقراطية لم توجد إلا في أذهان ساسة أرادوا ديمقراطية على مقاس بدلاتهم ، ولم يقم عليها دليل في الواقع، إنما هو نقد يركز اليوم على الجانب السلبي من تطورنا الديموقراطي إغفالا وعن وعي للمكتسبات الهامة عبر الأنظمة من لدن الاستقلال إلى اليوم وخاصة الآن، ليس إيمانا بالروح العدمية، ولكن الوخز يمثل علاجا، والصدمة توقظ من الغيبوبة أحيانا.
عرفت موريتانيا نظام حكم مدني إبان استقلالها على طريقة بعض دول جوارها الإفريقي والعربي، ولو قرأنا بأثر رجعي ونقدي تلك التجربة التاريخية وفرص تحولها لتأملنا -ربما- أن تسفر عن نظام ديموقراطي تداولي في الحكم كما حدث في السنغال، ولكن تهذيب الحكم المدني وتطويره من نسخته المدنية "ذات الطبيعة الخاصة" على نحو ما هو سائد في أنظمة حكم الستينات والسبعينيات سيتعرض للانكسار والالتواء على يد أول انقلاب في موريتانيا 10 يوليو 1978، وبدت الديموقراطية والتنمية وعداً للشعب ليستسيغ الانقلاب.
فقد وعدت اللجان العسكرية "بتمدين الحكم وبناء الرخاء"، ولكن النظام العسكري والذي امتد منذ تلك الفترة وحتى 1992، وشهد خلالها صراعات النخب العسكرية (على شكل انقلابات)،مدفوعة بالمؤامرات الداخلية والخارجية، ومدعومة بالتناقضات الاجتماعية الإثنية والقبلية والجهوية، وبالتخندقات الإيديولوجية وسياسات إصلاح اقتصادي قاسية ومنصاعة لشروط بريتون وودز، وسن مواثيق حكم ودساتير وتجارب انتخابية جزئية شكلية (بلديات 1986)، لم يستطع أن يفي بوعده الذي رفعه من خلال ذلك الشعار البراق (تمدين الحكم وبناء الرخاء).
لكن التحول الشكلي الأهم سميثله إعلان الحكم العسكري نزولا وانصياعا للتوجيهات والضغوطات الغربية - والتي مثل خطاب ميتران في لابول نموذجا عليها - التحول نحو النظام الديموقراطي، واصدار دستور 1991، وهو ما فتح أملاً متجدداً لدى الحركات والطبقة السياسة والنخب التي أكملت تعليمها في ذلك الوقت: بأن الاقتراب من الوفاء بالشعار أصبح ممكناً بعد ما يقارب عقداً ونصفاً من حكم العسكر. غير أن هذا الحماس الذي أظهره الخاصة والعامة لهذا التحول الدستوري الذي يرسم على الورق دولة مدنية متكاملة الأركان (مؤسسات وحريات)، لم يكن يعي مستوى الإعداد في الواقع لاستدامة الحكم العسكري بلبوس ديمقراطي، والذي سيتذرع بلعبة محابية تتخذ من الولاءات الجهوية والقبلية - بعد أن ندد بها- مطية للبقاء.
ومنذ يومئذ أصبحت الإدارة والمال العمومي والإعلام خدماً أوفياء لما يراه قائد التصحيح سابقاً، وقائد المسيرة الديموقراطية لاحقاً، وقد تم تفريغ كل الأدوات التي يمكن أن تساعد في تشكّل الوعي أو تراكمه من فاعليتها، فقامت الأحزاب وتشكلت الجمعيات والنقابات والمؤسسات الدستورية -خصوصاً البرلمان-، ولكن ظلت هياكل فارغة تحكي شكل مؤسسات وهيئات ولكن لا روح فيها، حيث فشلت الأحزاب لعوامل داخلية (ضعف التنظيم،وتقادم الخطاب، والانسداد،وعدم تجدد القيادات)، وخارجية عن إرادتها (التدخلية الأمنية،وتصفية الكوادر من الإدارة، وعرقلتها في المبادرة الإقتصادية الخاصة، والإشاعات)، عن تمثل أدوات حقيقية للتعبئة والتكوين والتوعية، قادرة على صناعة أو فرض تحول ديموقراطي جوهري، يؤدي لتداول سلمي على السلطة.
وانحصر دورها في صيانة وتشريع وتحسين صورة اللعبة السياسية، التي حددت حدودها وقواعدها، بشكل لا يمس جوهر وتوازنات النظام "المتحول" شكلياً نحو ديموقراطية، يؤمن بها إجرائياً ويرفضها، بل يحارب قيمها الجوهرية.
أما عن المؤسسات الديموقراطية المدنية، سواء المجلس الدستوري والسلطة القضائية والبرلمان بغرفتيه،أو المجالس المختلفة، فلم تكن إلا ظلاً للحاكم. وبالرغم من هذه السيطرة الاحترافية إلا أن سياسات النظام وقصوره، خاصة في إدارة علاقاته بالقوى الخارجية النافذة والممولة،وطبيعة تحالفاته حليفة عدم التوفيق آنذاك،وإدارة الملف السياسي مع خصومه في مجال الحريات وفي الملف الاقتصادي والمالي والتنموي عموماً، حيث استفحل الفساد في الإدارة العمومية وفي أوساط السياسيين ورجال الأعمال والقوى الاجتماعية والجهوية، التي تمثل مسنداً للنظام وقبضة يجول بها في الخصوم، مما جعل المال دولة بينهم واستفحل التناقض داخل المؤسسة العسكرية خصوصاً؛ لطول مدة حكم الرئيس وما تعرض له من محاولات انقلابية من الصفوف الثانية والخلفية، كادت تودي بمصالح ضباط الصف الأول، جعلت المتنفذين في الدائرة العسكرية يرون بأن هذا النظام لم يعد يمثل مصالحهم وأنه لا بقاء له بدونهم، وهو ما جعلهم يفتكون رأس النظام، ويعملون على تجديد جسده وساعدهم في ذلك درجة الاحتقان العالية جداً حينها.
غير أن التحولات ستبرهن على صعوبة -بل استحالة- تركيب رأس مدني على جسد عسكري وأنه لا بد من تحولات كبيرة وعميقة ومحسوبة لاستعادة الرأس. هذه العبارات تلخص بشكل غير مباشر ما حدث منذ انقلاب 3 أغشت/أغسطس 2005 حتى انقلاب 6 أغشت/أغسطس 2008، حيث اعتقد النظام العسكري الحاكم (بالقوة والفعل)، أن عملية استعادة الرأس أصبحت ناضجة، وأن لحظة الاستغناء عن الخديم المدني أصبحت واردة. لكن المضاعفات الجانبية لم تكن محسوبة، خاصة مع تطور الممارسة الحزبية والحركية في موريتانيا، وتطور الوعي المدني العام،وعدم الاستشراف (الحراك الثوري العربي)،والذي سيتطلب من حكامنا الجدد القدماء إطلاق سردية جديدة ومحكمة،تغازل الناس وتبثها الوعود في إصلاح معاشها اليومي، من خلال مكافحة الفساد ومغازلة أحلام الأغلبية الديموغرافية "الشباب والمرأة"، من خلال إطلاق دينامية سياسية جديدة تتوخى تجديد الطبقة السياسية.
غير أن الممارسة المتناقضة تدريجيا مع الشعارات المعلنة والتحولات المحيطة خارجياً، ستفشل سياسياً كل الطموحات والآمال التي انعقدت في قلوب الكثيرين سواء حسني النية والذين رأوا امكانية التأسيس على الخطاب الجديد للسطة أو السذج والبرآء والانتهازيين الحزبيين من المدنيين، وذلك بعد ما طوّر النظام الجديد أسلحته بحسب تطور الأوضاع، فانتهج مسلكيات تتراوح بين الوعود بالتغيير والغموض في التسيير، مع خطة منهجية تتعلق بإفراغ المكتسبات الديموقراطية المحدودة من فاعليتها، فقد تم تعويم بل اغراق سوق التعبير وفتحت المنصات الإعلامية أمام كل من هب ودب، وانفلت التعبير من عقال القانون والمسؤولية على نحو جعل التعبير الرديء يطرد التعبير الجيد، وهو ما أدى إلى احتقار المعلومات، وأشاع خطاباً من التجهيل والتسفيه والسفسطة والسخف والإساءة يشكك في كثير من الثوابت والمكتسبات التاريخية (انجازات وأشخاصا)، وهو ما اغتال الثقة داخل المجتمع والدولة.
بل وصل هذا التعويم والانفلات إلى الخطاب السياسي والمؤسسات السياسية والشخصيات السياسية، فسادت قيم التخوين والتضليل والافتراء والشتيمة، وفتح الباب واسعاً أمام الخطابات العنصرية وما دون الوطنية، فتكلم من شاء بالانفصال ومن شاء بشتم الدين ومن شاء بشتم الناس ومن شاء ومن شاء، دون أن يطاله قانون أو جزاء. كما فتح الباب واسعاً أمام آحاد محددة من الناس، لبناء ثروة غير معلومة المصادر، ويشوبها دخن كبير جداً في علاقتها بأشخاص في السلطة، واتخذت الإجراءات والتدابير لإحكام السيطرة على الاقتصاد الوطني والتصرف في الثروات، وكأنها ملك خاص وموروث، فاصبح -طبقاًللقانون- من صلاحيات الحكومة أن تبت في العقود مع الشركات العالمية ومع الدول، وتصادق عليها، وتنفذها، دون علم البرلمان مثلاً.
كما تم القضاء تماماً على قيم التنظيم الإداري الموريتاني، ونبتت طبقة جديدة من المتسلقين لأعلى المستويات في مجال القضاء وفي مجال الحكومة، وكفاءتهم الوحيدة هي الاعتماد على شبكات الظل والإشادة بالأفكار والمصطلحات التي لا تدل على شيء في الحقيقة، وتنحو السلطة التنفيذية اليوم لإفراغ الدستور الموريتاني من قيمته الرمزية والفعلية، بعد التعدي عليه بالطرق غير القانونية،وإعلانها أنه لا يزال معرضاً لتعديلات أخرى، وهي تعديلات ستكون كارثية في حالة رامت تغيير المواد المتعلقة بالفترات الرئاسية، أو حاولت تغيير نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني ؛ في هذه المرحلة التي تتسم بالتراجع في الثقافة الديموقراطية وضعف الأحزاب وسيطرة المال السياسي الفاسد .
وخاصة أنه وإثر التغيير الأخير، والذي ألغي بموجبه مجلس الشيوخ -كعامل توازن-، أصبح لا حدود أمام قدرة السلطة التنفيذية على المبادرة التشريعية، بحكم تبعية البرلمان لها، وبحكم ضعف المعارضة وسيادة قيم الوصولية والانتهازية والمغنمية لدى السواد الأعظم من الموالاة -الدائمة- لكل نظام حكم يركب موريتانيا. وتمتاز هذه الأغلبية المتنقلة بأنها غذيت بفاعلين جدد لا سقف ولا تحفظات لديهم فيما يتعلق بموقفهم السياسي، فكل شيء ممكن وبأسخف الحجج؛ لأنهم غير قادرين على إنتاج خطاب سياسي معرفي ومصلحي واضح وعقلاني وهادف.
لقد تم تعويم السخف أيضاً، فأحد الخطابات الإعلامية يتحدث عن المخالفين بأنهم مجرمون وآخر يتحدث عنهم "بالطلقاء"، وهو مصطلح مخطوف من سياقه يحمل دلالة التكفير والامتنان.
اليوم يفتح المشهد الموريتاني على المجهول بسبب تحولات قصرية ومستعجلة غير مفهومة المآلات، وإن فهمت الدوافع، وستكرس ولا شك حالة من الانقسام ومن السلطوية لم يكن هو المتوقع والمأمول.
لتكون الأسئلة الحقيقية المطروحة أمامنا اليوم، هي:
من أجل موريتانيا كيف نصوغ وضعاً جديداً يعتبر الواقع ويأخذ الدروس من هذه الخيبات المتواصلة؟
كيف يمكننا أن نفيض المجالس بين تلك النخب لتتحالف من أجل موريتانيا مسالمة ومتطورة؟
وكيف نطور -كنخب مدنية ترفض التبعية وتؤمن بالتعاون- خطاباً نحو عقلاء السلطة ومؤسستنا العسكرية والتي لها مكانتها ومكانها في واقع وقلوب ودستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟
ثم كيف يمكننا أن نعزز من الوعي، لنحمي ما تبقى من المكتسبات القليلة في الدستور الموريتاني أمام أغلبيات الانتجاع الدائمة؟
وأخيراً، كيف لنا أن نأسس لخطاب جديد ومتجاوز للموالاة من أجل السلطة والمعارضة لأجلها؟
هذه في نظري هي الأسئلة الأولية التي يجب الجواب عليها، لتحديد نقطة انطلاق متفق بشأنها لرسم خطة تحول تدريجي وعقلاني نحتاجها اليوم ، تبقى الإشارة والتأكيد مرة أخرى أن ماتقدم دافعه هو مخافة الوقوع في الشر ، ونكتبه بنفس مطمئنة لا تتراجع ضرورة عن التنبيه على مكامن الخلل والإشادة بمكامن الإحسان إن وجدت .