“الشعب يعاني من مجلس الشيوخ” قالها السيد الرئيس في مهرجانه الافتتاحي بحي “ملح” . سبحان الله ! أنا واحد من الشعب ، وأعتقد كواحد من أنصاف المثقفين أحس هموم الشعب وألامس هواجسه ، استشرفها وأنقب عنها في مختلف الوسائل الإعلامية وآخذها من أفواه الرجال والنساء ، ولم يلامس سمعي يوما أن الشعب يكابد الآلام بسبب مجلس الشيوخ ، فبدأت أتساءل عن مصدر تلك المكابدة والمعاناة ، فقلت لعله السبب في انتشار البطالة المفرطة بين صفوف الشباب ؟ أو هو الذي تسبب في ارتفاع الأسعار بما يزيد على 200 % بالنسبة إلى بعض المواد ابتداء من 2008 ؟ أم هو العامل الرئيسي في مشاكل العطش التي تقض مضاجع المواطنين في الكثير من المناطق شرقا وغربا ؟ بل ربما هو الذي جعل الطرق تهترئ إلى درجة أنها أصبحت أهم عامل في أسباب الوفيات ؟ أو كان وراء التدهور في مستوى التعليم حتى أن كبريات الثانويات في مختلف المقاطعات تحصل على صفر في امتحان الباكلوريا ؟ أو هو السبب المباشر في تدني النظام الصحي الذي اعتبر السيد الرئيس في روصو أنه “من أجود الأنظمة الصحية في المنطقة” ؟ أم يا ترى هو المحرك للعصابات الإجرامية التي تروع المواطنين في العاصمة وتنشر القتل والاغتصاب ؟
إذا لم يكن مجلس الشيوخ في ما ذكر ، فإنني أستطيع أن أجزم أن الشعب لم يعان منه إلا إذا كان ينظر إليه من بعيد كأداة من أدواة الرئيس التي ينفذ بها سياسته .
إذا كان هناك من “عانى” فعلا من وجود مجلس الشيوخ فهو السيد الرئيس ، عندما يتضايق من وجود هيئة يسمح لها الدستور بأن تقول “لا” أحيانا وتقف ولو قليلا في وجه رغبات الرئيس كي لا أقول نزوات الرئيس ، لهذا فقد كان الرئيس يبحث عن العلاج الناجع لإنهاء هذه المعاناة ، وأي سبب وأي مبرر للوصول إلى الهدف يكون معقولا ومنطقيا ومشروعا ، أي شيء يلغي هذه الغرفة التي لا يستطيع الرئيس أن يجلس وراء مكتبه ويلغيها بجرة قلم . ذلك الشعور بالضيق والمعاناة هو ما عبر عنه الهجوم الشرس الذي تعرضت له الغرفة على لسان الرئيس في خطاب النعمة المشهور ، وما تلا ذلك من تبرير فج جادت به قرائح الوزراء والسياسيين الموالين الذين تقطعت أنفاسهم جريا وراء شرح الخطاب المشروح حتى العظم ، فلغته لا تتضمن أي نوع من الكثافة ، بل هي لغة صفرية كما يقول الأسلوبيون.
ولنتأكد من أن التبرير كان واهيا والمساق كان غريبا “بْلاموجبْ” نلاحظ الربط بين مجلس الشيوخ والمجالس الجهوية ، هذا مجلس تشريعي وتلك مجالس تنموية لا علاقة كما لا تعارض بينهما ، لا علاقة ولا تعارض بين المبدل والمبدل منه.
ويمكن أن نصل من هذا إلى نتيجة مفادها أن معاناة الشعب من هذا المجلس هي وجود الحد الأدنى من التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، وهو ما ليس مقبولا ومعرقلا في “موريتانيا الجديدة” مع أنه من البديهي جدا أن اعتماد الديمقراطية على فرصة واحدة “غرفة واحدة” هو أكبر خطر على الديمقراطية ، ولعل تجربتنا الحالية أثبتت ذلك. وبما أن السيد الرئيس ناصب مجلس الشيوخ العداء ، فقد يظل يبحث عن مثالبه فيقول إنه يعرقل مشاريع القوانين (ولعله يقصد بعض مشاريع القوانين)، ولكن ما فائدة هذه الغرفة إذا كانت تبتلع كل ما عرض عليها ولو كان أمر من الحنظل.
بكل تأكيد كان رفض مجلس الشيوخ لبعض المشاريع وتعطيلها قليل ، ولكن ذلك القليل على ما يبدو كان السبب في معاناة الشعب !! إلا أننا نحن الشعب – ربما بسبب بساطتنا وقلة وعينا – نرى هذه “السيئة” حسنة ، خاصة بعرض مشروع شاذ ، يبتعد عن الذوق والثقافة الموريتانية الذي يحد من تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية ، كذلك هذا هو السبب في إلغاء محكمة العدل السامية التي تؤشر إلى هذا الاتجاه.
وليزداد اقتناعك أخي القارئ بأن المستهدف هو مجلس الشيوخ ومحكمة العدل السامية فاعلم أن المجالس الجهوية لا تحتاج إلى تعديل الدستور ، إذ تنص المادة 98 من الدستور على أنها تدار تحت نظام القوانين والمراسيم ، وهذه المجالس التي ترفع في وجه كل من يشكك في أن التعديلات هي إصلاحات تنموية ومن يقف ضدها ، يقف ضد التنمية !!
سيدي الرئيس ، أيها المواطنون الذين يغرر بكم ، إن هذه المجالس لا تحتاج إلى أن ينص عليها في الدستور ، بل يكفيها مرسوم لا تستغرق كتابته أكثر من دقيقتين وورقات معدودة ، فنتجنب الجهد البشري الهائل ونوفر المليارات التي نحن بحاجة إلى إنفاقها في ما هو في غاية الاستعجال والإلحاح . ومع ذلك أتوقع – انطلاقا من تجربة البلديات – ألا تحصل هذه المجالس في سنوات عديدة مقدار ما سينفق على دسترتها في أيام معدودات.
وما يجري على المجالس البلدية ينطبق على المجالس الاسلامية ووسيط الجمهورية ، فلا حاجة أبدا لتعديل دستوري ولا هم يحزنون.
أما العلم فإنه لم يذكر في خطاب النعمة ، ولا يزيد على أنه عنصر من عناصر التنميق للحفلة والتغطية على الهدف الحقيقي ، ولعل إفراده بصندوق انتخابي وحده ، من دلائل ذلك . فإذا رفض لا بأس أما الهدف الحقيقي (التوازن النسبي في السلطة) فلا مساومة فيه ، يجب أن يلغى مجلس الشيوخ ومحكمة العدل السامية.
ولعل كل هذا ليس إلا مقدمة للوصول إلى المواد المحصنة والعمل على البقاء الأبدي المستحيل والذي كان الناس يقرؤونه من وراء السطور ، إن هذا التعديل ما هو إلا بداية لتعديلات أخرى ، وهذا ما أكده الرئيس عزيز في مهرجان روصو بشكل صريح وجميع الموريتانيين شهود ، لكن ليعلم الكل أنها “لو دامت لغيرك ما وصلت إليها” .