ليس هناك ما يدعو للغرابة، في أن ترى طفلاً يلف ساعديه حول عنق مجاهد في الحشد الشعبي، فإندفاعه اليه نتيجة شعوره العاطفي الصادق، تجاه ذلك المقاتل، لإحساسه المتيقن بالأمان بين ذراعيه. ولا شيء يدفعك للعُجب
عندما ترى إمرأة تمسح دموعها بالزغاريت، وهي تستقبل رجال الله المحررين لهم من سطوة الإرهاب، الذي لم يترك لهم لا غالي ولا نفيس، فهي متيقنةٌ إنهم أهلها وذووها، وإنهم سيدفعون دماءهم من أجلها.
ولا تندهش عندما ترى شيخاً كبيراً، يمسح وجهه عن التراب بِكُمّيه، قبل ان يقبل يد مجاهد في سبيل الله، مجاهد في سبيل الوطن والأرض والعرض، فهذا الرجل المسن الذي يتكئ على عصا من الخيزان، نقشت قبضته الضعيفة اثرها على مقبضها، يميز جيداً بين الصادقين والكاذبين، بين من جلبهم دواعش السياسة، لإستباحة ارضهم وعرضهم وأموالهم، من اجل سلطةٍ ضاعت منهم، سلطةٍ كانوا يتنعمون بها على مدى مائة عام من الحكم، فجاؤوا بهم من اجل حفنةٍ من المال القيت في جيوبهم، يُمَتِعون بها مَلَذاتِهم, ويملأون بها أكراشهم, بمسكرٍ يُذهِب به عُقولَهم في سبيل نَشوةٍ مَكذوبةٍ, ومن اجل مُتعَة فراش في لَيلةٍ ظلماء, التبس بها الحق بالباطل, كان نورها ناراً تلتَهِمُ بيوت من لا حول ولا قوة لهم, وهو ثمن إطاعتهم لأسيادهم الذين يبحثون عن مَصالِحَهم, في بلادِ غيرِهمُ وهم يقطنون خلف حدود أوطانهم.
وبين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا, يتسابقون الخطى حفاةً لمناياهُمُ, عسى ان يلحقوا بقوافلَ هَبَتْ مُسرُِعةً, لتلبي دعوة من دعاهُمُ, ليجودوا بأنفُسِهم في سبيل الله والوطن, لينظموا اليها قبل فوات الآوان, لأن لا يكتفوا بمن قَدِم باكراً قبل غيره, فيحرموا النصيب ولا ينالوا تلك البركة, ويكتفوا بمن أسرج ظلام الليل فوق صهوة جواده, ليحضى بفتوى الجهاد الكفائي طاعةً لقائدهم ذي الشيبة البيضاء, الذي يسكن بين ازقة النجف, في دارٍ لا تبلغ مساحتها المائة متر.
تلك الدار اضحت محطاً للوفود من كل البقاع, الدار التي يسترشد بها كل من أظل الطريق، يتسابق عليها سياسيّو الداخل والخارج، عسى ان يتشرف برؤية الطلعة البهيه لذلك القائد، الذي استهوته القلوب والعقول قبل ان تبصره العيون، ليخرج فيقف على منصة الإعلام، فيتباهى ويترنح من على تلك المنصة، ويقول لقد نلت شرف المقابلة، لذلك القائد العاكف عن كامرات الإعلام، ذلك القائد الذي حيّر عقول الكثير, بما يمتلك من حكمة قل نظيرها, حكمة جعلت الإمور في نِصابها، حكمة غيرت الموازين في المنطقة بأسرها.
اما الإعلاميون: فيبحثون لأيام طويلة بل تتعدى الشهور، عمن يكون وسيطاً بينهم وبين ذلك الأب المسن، عسى أن يهبهم الربّ دقائق قليلة, تكون لهم سبقاً صحفياً لن يحظى به غيرهم، انه إلتقى بذلك المرجع, ذلك الأب ذي الذقن الأبيض، ذلك القائد الذي جنّد مئات الآلاف من المقاتلين، بلا ثمناً مادياً ولا مغانمَ يعدهم بها بعد النصر, ولا سلطةٍ باليةٍ يحظون بها بعد التحرير, لمجرد كلمات اخترقت القلوب فأحرقتها, ودخلت العقول فأنارتها, فكانت كفيلةً بهؤلاء المتطوعين ان يضعوا ارواحهم رهن إشارته.
كلمات كان أثرها في نفوس الآباء والأمهات، اكثر من نفوس الأبناء، فأخذوا يزفونهم الى مناياهم، كما يُزف العريس في ليلته الى عروسه، فسطروا من القصص الخيالية ما لم يستطع اي كاتب ان يتخيلها، فمنهم من كان الولد الوحيد لأبوين مسنين، لا معين لهم على دنياهم غيره، فزهدوا به من اجل دينهم ومقدساتهم، ومنهم من خرج من ليلته الأولى مع زوجته، ليهب روحه لذلك الوطن الذي لم يملك به شبراً، ومنهم من هو اخٌ لخمس بنات قاصرات، لا حامي لهنَّ غيره إلا الله, فكان مصداقاً للتضحية, ومنهم من عكفت امه عشرين سنة على تربية يتيمها الوحيد، فضاع كل عمرها من اجله، ليأتي اليوم الذي تلبسه لامة حربه لتزفه بعدها لمنيته، و و و... الكثير من القصص التي لا تخطر على بال أحد.
نعم هؤلاء من ذكرهم الله في محكم كتابه الكريم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب[23]، نعم منهم من التحق بالرفيق الأعلى, ومنهم من قطعت ساقه, ومنهم من بترت يده, ومنهم من فقد الإثنتين معاً, ومنهم من غارت عينه في محجرها, بعد أن أطفأتها شضية من سيارةٍ مفخخةٍ كان يحاول تفجيرها، لكي يحمي رفاقه من شظاياها المتطايرة، فهنيئاً
لمن نال ذلك الشرف، نعم سيكتب التاريخ ذلك الشرف بمداد من نور على صفحاته البيض، لتتغنى بهم الأجيال جيلاً بعد جيل.
رضوان العسكري