أكاديميون عرب يناقشون كتاب "ثورات غير مكتملة

في إطار سلسلة سيمنارات مشروع "التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية"، الذي أطلقه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وتستهدف استعراض أبرز الطروحات الفكرية التي عنت بتحولات الربيع العربي، وخصوصًا ما تناول مسألة الانتقال الديمقراطي، وضمن خطة السيمنارات الأكاديمية للمركز لعام 2016-2017، استعرضت الحلقة الثانية من هذه السلسلة عمل الدكتور إبراهيم فريحات الأستاذ في"مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني في معهد الدوحة للدراسات العليا"، المعنون: "ثورات غير مكتملة" Unfinished Revolutions: Yemen, Libya, and Tunisia after the Arab Spring والصادر عن مطابع جامعة يال الأميركية مطلع 20166.

وقد طرحت في خلال السيمنار ثلاثة من العروض والمداخلات النقدية، قدمها الدكتور عز الدين عبد المولى، مدير إدارة البحوث بمركز الجزيرة للدراسات، والدكتور مروة فكري، مدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعبده موسى، الباحث بالمركز.

تأسيس سردية وطنية
 

في البداية، قدم الدكتور حيدر سعيد، رئيس تحرير مجلة سياسات عربية الكتاب، منوهًا إلى موقعه ضمن الاهتمامات الخاصة بالمشروع، وما يضيفه بتناوله لحالات أساسية إلى محاولتنا تقديم مساهمة عربية في مجال الانتقال الديمقراطي استفادةً من تجربة الربيع العربي.

وقد بين الدكتور إبراهيم فريحات أنه ينطلق من حقل دراسة النزاعات الدولية متقاطعًا مع مسألة الانتقال. وأشار إلى أن خطر انزلاق دول مثل اليمن وليبيا وسورية في حروب أهلية قاسية كان باعثًا من ورائه. ولخص فرضية كتابه الأساسية في أن نجاح هذه الدول في تحقيق انتقال سلمي يبتعد عن الصراعات الأهلية يظل مرهونًا بالدخول في عملية مصالحة وطنية شاملة وممثلة لأطياف اللون السياسي. وقد عالج الحالات الثلاث على نحو مقارن، معتمدًا على عمل ميداني واسع، شمل أكثر من مئتي مقابلة رسمية في الدول الثلاث مع ممثلين عن حكومات وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني وقيادات ثورية ومجالس عسكرية ولاجئين وقيادات قبلية وطلابية وحتى أفراد من أنظمة الحكم السابقة.

شملت خارطة الطريق للمصالحة الوطنية في المجتمعات التي تشهد تحولًا سياسيًا محاور أبرزها المسائل التي تهدد عملية المصالحة وتتعلق بالماضي والكشف عن مظالم الاستبداد، وجبر الضرر لضحايا الانتهاكات، والإصلاح المؤسسي، واعتماد الحوار الوطني. واعتبر فريحات أن قيادة منظمات المجتمع المدني والمرأة والقبائل هذه العملية، عوضًا عن انفراد الدولة الرسمي والأحزاب السياسية بها، هو أمر بالغ الأهمية.

وأكد فريحات أهمية أن يستبدل النزوع للانتقام في عملية المصالحة بهدف مغاير وهو تأسيس سردية وطنية تبقي ذاكرة ما حدث في الماضي من انتهاكات، مع وقف الاستقطاب والعودة للتحول السياسي عبر حوار وطني شامل لمختلف أطراف الانقسام. فالحوار الوطني يحد من التشرذم وتعميق الاستقطاب. وقد بين الكاتب أن مما يهدد عملية التحول السياسي في بلدان الربيع العربي هو غياب منظور للمستقبل منذ بداية الثورات وحتى الآن؛ فما زالت الثورات العربية حتى هذه اللحظة لا تعي إن كانت تريد التأسيس لأنظمة حكم ديمقراطية غربية، ديمقراطية عربية، ديمقراطية إسلامية، أو لاديمقراطية من الأساس. ولهذا يبقى هذا الغموض هو سيد الموقف وتبقى التحولات تراوح في مكانها.

دراسة تجارب الانتقال

أما الدكتور عز الدين عبد المولى فقد تناول "نظريات فض النزاعات ودراسة تجارب الانتقال"، منطلقًا من مسألة بروز ظواهر الانقسام والاستقطاب إلى السطح، وكيف استنزفت التناقضات إمكانية عقد مصالحات وطنية شاملة. وفي نقده ثقافة الغالب، ونهج نزع السلاح، والتورط في الحرب الأهلية، نوه إلى الحضور الطاغي للعامل الخارجي، في بعديه الإقليمي والدولي، وما حمله من تناقضات ساهمت في تغذية الصراع. وبين في مقابل أمثلة فشل عملية المصالحة في ليبيا واليمن، إلى نقيض ذلك في حالة تونس حيث تشكلت "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" بعد سقوط نظام بن علي، لتؤدي دورًا أساسيًا في رسم خارطة طريق تلاقى عليها أغلب الأطراف الفاعلة؛ ما مهّد الطريق لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وكتابة الدستور وانتخابات تشريعية ورئاسية. وقد ظلت تجربتا ليبيا واليمن تراوحان مكانهما. فالحوار الوطني اليمني، الذي جرى على أساس المبادرة الخليجية وبدعم من الأمم المتحدة، كان يُفترض أن يضع خارطة طريق لما بعد نظام صالح ويقدم حلولًا لمشكلات اليمن المعقدة وعلى رأسها قضية الجنوب. والموقف المتشدد للحوثيين الذين استخدموا السلاح وبسطوا سيطرتهم على أغلب المناطق بما في ذلك العاصمة صنعاء. أما ليبيا، ففشلت الحوارات في أغلبها وكانت نتائجها على الأرض محدودة جدًا؛ فلا هي أفلحت في وقف دائرة العنف، ولا استطاعت نزع سلاح المليشيات المتقاتلة فضلًا عن إقامة مؤسسات وطنية يعترف الجميع بشرعيتها وتمثيليتها.

وناقش عبد المولى بعض اختيارات المؤلف المنهاجية. وبعض ما تعلق بدور الفاعلين في دعم الانتقال السياسي وتحقيق المصالحة الوطنية، مثل المجتمع المدني والقبيلة. وتساءل إلى أي مدى يمكن فهم ثورات الربيع العربي من خلال تطبيق النموذج والإطار النظري لفض النزاعات، واستخدام المقولات والمفاهيم المرتبطة بذلك النموذج؟ وهل أن الوضع الراهن الذي تعيشه مصر يبرر غيابها من الكتاب ويحصر المقارنة بين تجارب الثلاثي: ليبيا واليمن وتونس؟

تعقيدات المصالحة 

وأبرزت الدكتورة مروة فكري الحالات الثلاث على اعتبار الكاتب أنها قد نجحت بالفعل في إزاحة حكامها الأوتوقراطيين، ولا تزال تحاول الانتقال من السلطوية إلى نظم أكثر شمولًا وتمثيلًا، متسائلة أنه باستثناء تونس، تبقى هناك علامة استفهام كبيرة حول انطباق ذلك التوصيف على حالة مثل اليمن كان الوضع فيها أقرب إلى تجديد للنظام وليس تغييره. وتناولت تحديات المصالحة والسلم والاستقرار مع اختلاف درجاتها من حالة إلى أخرى في مسائل نزع السلاح، والحد من قوة الدولة العميقة، وقدرة النظم القديمة على شن الثورة المضادة.  وتساءلت فكري عن أسباب شيوع ثقافة المنتصر، وهل تلك الحالة متعلقة بطبيعة القوى السياسية الموجودة، أم بميراث النظام القديم أم بطبيعة نمط التحول الذي حدث في ليبيا؟ أم هي جزء من الثقافة السياسية السائدة بشكل عام؟

 وشددت فكري على أنه في حال أردنا الدفع بالمصالحة، فقد وجب فهم الأسباب التحتية لدعوات الانفصال أو التمرد. هذه الأسباب التحتية هي التحديات الأساسية. وعرجت على ما يعتبره فريحات تحديًا للمصالحة والسلم على اختلاف درجاتها في الحالات الثلاث وهي: نزع السلاح، وقوة الدولة العميقة، وقدرة النظم القديمة على شن ثورة مضادة. وعلى الرغم من أن التحديين الأخيرين لا يختلفان بحسب ما تذهب فكري، فإنه كان من الممكن تناول الحالات الثلاث من خلال إطار مقارن يعتمد هذه التحديات كأساس للمقارنة ويبين اختلاف تجلياتها أو حدتها من حالة إلى أخرى. وأبرزت أن الخبرات التاريخية تبين انخراط أطراف أخرى خارجية في الصراع، كلما تعقدت عملية المصالحة. كما نوهت بمسألة الإرادة السياسية ومحورية دورها في قضية المصالحة، معتبرة أنها تحتاج إلى زعامة سياسية، وهو الأمر الذي افتقدته الثورات العربية. وأشارت إلى أنه في حالة جنوب أفريقيا استندت عملية المصالحة إلى قيادة سياسية مثّلها نيلسون مانديلا وفريدريك دي كليرك، واستطاعت خوض خيارات صعبة مع حشد التأييد الشعبي لها.

وقد راجعت فكري طرح فريحات المتعلق بمسألة " الارتباط بين الانتقال الديمقراطي الناجح واستخدام الحوار الوطني" واعتباره ليس صدفة يمكن تجاوزها، طارحة أن الاقترابات المختلفة للحوار الوطني لم تكن في ذاتها عاملًا مستقلًا بل كانت متغيرًا تابعًا ينبع من السياق والظروف المحيطة بكل حالة؛ أي أن محك النجاح والفشل لا يكمن في الاقتراب من الحوار الوطني ذاته ولكن في عوامل أخرى، سهلت أو عوقت إتمام الحوار الوطني.

وناقشت فكري أدوار وكلاء المصالحة، الذين حدّدهم الكاتب في ثلاثة أساسيين: المجتمع المدني والنساء والقبيلة. وأكدت أنه لا يمكن إغفال دور المؤسسات الدينية ومنظمات الأعمال والإعلام والشباب. وأن من مقومات نجاح المصالحة خلق روابط أخرى بين المجموعات غير خط التقسيم الأساسي سواء أكان إثنيًا أم جهويًا أم فكريًا. وراهنت على أن الشباب ربما هم الأقدر على تجاوز خطوط التقسيم هذه المثيرة للصراعات. وبشأن دور القبيلة طرحت التساؤل عن احتمال تسييس القبائل وأن تبرز كمصدر للصراع بالقدر نفسه الذي تظهر فيه عاملًا مساعدًا في عملية المصالحة.

وفي النهاية أوصت فكري بضرورة طرح المزيد من التشريح لمفهوم المصالحة كعملية تهدف إلى بناء أو إعادة بناء العلاقة بين الجماعات والأفراد في المجتمع، وأيضًا بين الدولة، ليتم إعادة بناء هذه العلاقات وفق معايير ومبادئ محددة، وأن يتم إفراد مساحة أكبر لبيان العلاقة بين المصالحة وعملية الانتقال الديمقراطي بوصفها الإطار الأوسع. كما أكدت على ضرورة الاهتمام بالسياق الاقتصادي والاجتماعي، وكذا بنظرة المجتمع لعملية المصالحة ومدى القبول بها، وفهمها على وجه صحيح، وبما يساعد في تقليل سقف التوقعات لدى الضحايا وعائلاتهم. 

ثورة المخاوف

أما الباحث عبده موسى، فقد نوه إلى أهمية هذا الكتاب، بوصفه مدونة تحليلية وتوثيقية يتوافر فيها كمٌ كبير من المعلومات والشهادات، بما يولد جملة من الأسئلة عن طبيعة الانتقال في منطقتنا، وبما يغوي بطرح نمذجة للتفاوض في المراحل الانتقالية. يبدأ موسى من تعيين سمات اللايقين التي تربك حركة الفاعلين في لحظة الانتقال، طارحًا مدخل النخبة وأدوارها في النفاذ والتأثير وتحصيل الحصص المؤثرة في عملية توزيع القيم؛ مكانة، وسلطة، وثروة. وطرح فرضًا بأن النخبة تبرز في لحظة الانتقال بوصفها "مفوضة/ مفاوضة"؛ تتمتع بكفاءة تمثيل الجماهير التي توكلها إدارة التفاوض باسمها، وتمنحها سلطة محددة للقيام بهذه المهمة.  وقد بين جملة من القدرات تستعرضها النخب في هذه اللحظة التفاوضية: قدرة على فهم السياق في لحظة سقوط المستبد، وخلخلة حلفه الاجتماعي، وتعطل مؤسسات القوة التي استند إليها تسلطه، وقدرة على إقناع قواعدها الجماهيرية بجدوى العمل الثوري وتعيين تكتيكات ذلك، والقدرة على تعيين نقطة في المستقبل ينطلق إليها هذا العمل وفق تصور يعكس إرادة الجماهير، وقدرة على تقييم التوازنات الجديدة وفهم حسابات القوة، وقدرة على إدارة عناصر القوة بنوعيها الناعم والخشن. وبيّن أن النخب تبقى مشدودة بين حالتين ضاغطتين هما: الحالة الجماهيرية الضاغطة الناشئة عن ثورة التوقعات والإثارة المتبادلة والمزايدة بين القوى، والحالة العكسية التي تُحدثها ثورة المخاوف والإحباطات على جانب الحلف الاجتماعي للنظام القديم في صيغة تنبؤ عنفي محقق لذاته.

ونسب موسى خمسة من الأخطاء الإستراتيجية إلى النخب: التعجل وعدم الوضوح لدى إسناد المغانم والمغارم، والخطأ في تعيين حزم الفوز الصحيحة التي تطرح في خلال التفاوض، والفشل في إدارة الغضب الجماهيري وتوجيهه من دون فض الحالة التعبوية للثورة وميزتها في ضمان التوازن في مواجهة قوى النظام القديم، والعجز عن بناء التحالفات على قاعدة الحد الأدنى الديمقراطي، وإهمال تحييد القدرة القهرية للنظام القديم وموازنة أجهزة حمايته المادية والفكرية.

واقترح من أجل فهم سلوك المفاوضين نموذجًا يستعين بنظرية المباريات، وما طرحه روبرت بوتنام، ضمن ما أسماه بنموذج مباراة موائد التفاوض المتعددة كمدخل لفهم السلوك التفاوضي الانتقالي؛ إذ يتسيّد عامل اللايقين، فالحاضر يبدو خارج قدرة المفاوض، ولايقين بالمستقبل أيضًا، أما مواقف الفاعلين وقدراتهم وتكتيكاتهم التعبوية فغامضة. ويتشكك المفاوض في جدارة تمثيله مجموعته، ويخشى من تحولات المناصرين، وخفوت الدعم الخارجي، فضلًا عن اللايقين بخرائط التفاوض وشروطه وحدود طاولاته ومخططاته والقائمين عليه.