لكل مقام مقال..
تقول العرب.."لكل مقام مقال"، ويقصدون بها أن بعض الألفاظ، وأساليب الخطاب تناسب مقاما دون آخر.
فمجالس الحكم لا يناسبها من اللغة والأساليب ما يناسب الصخب في الأسواق، كما أن التقعر فيها مستهجن،
والإسفاف مستقبح. فقد سأل هارون الرشيد ابنه المأمون يمتحنه عن حزمة مساويك في يده، فقال:"ضد محاسن أمير المؤمنين".
لقد تحاشى المأمون لفظ "مساويك" في إجابة سؤال أمير المؤمنين لاشتراك المعنى في اللفظ، وكان حريا بالصحفية، وهي تخاطب رئيس الجمهورية أن تتخير من لغة العرب الغنية ما يناسب المقام بدل لفظ متنافر الحروف تشترك فيه معاني يعافها السوقة أن تسند إليهم..."تنتشل". فاللفظ مشتق من الثلاثي "نشل" الذي يحيل إلى معاني منها.." نَشَلَ الحيوانُ : قلَّ لحمُهُ فهو ناشِلٌ ، وهي ناشِلةٌ، فخِذٌ ناشِلةٌ : قليلةُ اللحم، نَشَلَ الشيءَ نَشْلاً : أَسرع نزْعَه، نَشَلَ اللحمَ من القِدْر، ونشَلَ الخاتَمَ من يده، ونشَلَ الغريقَ من الماء، نَشَلَ الحيَّةُ فلانًا : لدَغَتْه... ناهيك بالمعنى الذي تواضع الناس عليه اليوم...
ولا يبدو لفظ "انتشل" أكثر أناقة من جذره..." انتشلَ ينتشل ، انتشالاً ، فهو مُنتشِل ، والمفعول مُنتشَل، إنْتَشَلُوهُ مِنَ الماءِ قَبْلَ أَنْ يَلْفَظَ أَنْفاسَهُ : اِنْتَزَعُوهُ ، سَحَبوهُ ، أَنْقَذُوهُ ، أَخْرَجوهُ، جاءَ رِجالُ الإِنْقاذِ لِيَنْتَشِلوا جُثَّةً مِنَ البَحْرِ،ِ إنْتَشَلَ خَنْجَراً مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ : سَلَّهُ، اِنْتَشَلَ ما في العَظْمِ بِفَمِهِ : اِنْتَهَشَهُ
انْتَشَلَ الشيءَ : نَشَلَه، ..." لا غرابة إذن إذا استوحشت أذن الرئيس من لفظ لا يتداول إلا في أوساط خاصة، وليس في المقام ما يهيئه لسماعه. أما لفظ أنقذ الذي ارتقى إليه أسلوب الصحفية فقد وعاه الرئيس فور سماعه... ثم تبارى "الرجال الزرق" ينشلون من الألفاظ حوشيها يصفون بها رئيسهم!!! وانحدر بعضهم إلى وادي عبقر يقرض الشعر في أسوء أغراضه... وتحزبوا ضد ولي الأمر يقعون في عرضه، وقد أمروا بالنصح له، يتهمونه زورا بالعداء للغته الأم، وقد بدأ حديثه بالترحم على الشهداء الذين دافعوا عنها، وصانوا هويتنا، ومن يعرفه عن قرب يعلم مدى تعلقه بها، وإن كان تكوينه قد تم بلغة أخرى فرضها المستعمرون. فقد كان الرئيس الوحيد الذي ألقى خطابه بالعربية في باماكو عند توقيع اتفاق السلام، ونهر المهندس أمام الجميع عند إطلاق الحملة الزراعية في لقوارب، حين مال إلى الرطانة عند تقديمه الشروح، آمرا إياه بالتحدث باللغة العربية. وهو الذي أمر بتعريب المعاملات داخل المؤسسة العسكرية...
أما قصة عدائه للشعراء وخريجي العلوم الانسانية فشواهدها كثر منها أمره بمنحة سخية لاتحاد الأدباء والكتاب بعد أن عانى الفاقة عقودا عديدة، وأمره بتجهيز طائرة خاصة لنقل الشاعر محمد ولد عبدي رحمه الله، لتلقي العلاج غير أن الأجل كان أسرع، وأمره بالتكفل بعلاج المرحوم أحمد بابه أحمد مسكه... لكنه كان صادقا مع شعبه.. فالدول لا تبنى بالعواطف، والشعر شعور لا يحركه إلا الواحد بعد الواحد، فإذا بلغوا المليون فقد غصت بهم عكاظ...