لطالما أنتجت هذه البلاد فنون السيبة وأمرعت ووجدت بها المجال والمتسع بأتساع الصحاري والربوع, ولقرون متطاولة ...
ولقد استطاع الفرنسيون أخيرا وضع حد للسيبة عندما لم تعد تخدم في ذلك الوقت بإقامة مستعمرتهم "موريتانيا" وبالقوة ترغيبا وترهيبا,
كان ذلك على يد إكزافي كوبولاني Xavier Coppolani المتعرب الكورسيكي الأصل والمولد والجزائري التنشئة والتعليم,
وكان ذلك بدايات القرن الماضي, تلك المستعمرة الفرنسية الصحراوية التي قامت على إنقاض إمارات ومشيخات مهلهلة مأزومة غالبا ومهزومة, عاشت طيلة عمرها على الإغارة والتصفيات الجسدية البينية الموتورة والنهب المتبادل, وهي التي ستستأنس لاحقا وشيئا فشيئا من قبل الاحتلال القادم الجديد من وراء البحار، ولتكون فيما بعد الأداة الطيعة لتنفيذ التعليمات والأوامر.
وسيستمر الحال على ذلك النحو وحتى نهاية الخمسينات من القرن المنصرم, إذ سيعرف العالم تغيرات كبرى نهاية الحرب العالمية الثانية, فيما ستتصاعد موجات الثورة ضد الاستعمار وأشكاله القديمة وما تمثله, في ظل تضعضع قوتيه الرئيسيتين المثخنتان بالجراح, إنكلترا وفرنسا, تلك التي خرجت للتو من احتلال ألماني مهين ...
وكان لابد لفرنسا القوى الاستعمارية الائلة للسقوط من مخرج " مقبول" للتعاطي والحالة هذه مع تطلعات شعوب المستعمرات في ظل وضع غير مواتي دوليا واوار الحرب الباردة على أشده بين المعسكرين في ذلك الوقت الرأسمالي والشيوعى. وطبقا لما تمليه مصالح الإدارة الاستعمارية نظم الاستفتاء 1958 في مستعمرة موريتانيا, الذي سيعرف محليا " بزرك وي ونون Oui et Non" أي الاستفتاء على القبول بإستقلال منقوص أو الرفض بنعم أو لا, الذي قال فيه أحد الشعراء في ذلك الوقت:
زر ك وي أو نون ألا خيارات والمخير ماه مغبون
وي امحالي فالحسنات وامحالي فالفظ نون !
وما أشبه الليلة بالبارحة, ولأن التصويت بالرفض أي نون "خسر" وبحسب ماهو مقرر وربح أهل وي وكما جرت السنن فيما بعد وطبعا كانت النتيجة تلك في ذلك الوقت بعناية الإدارة الاستعمارية بسان لوسي Sain Louis وسعي أمراء المشخات الحثيث نزولا عند رغبة بيت الطاعة الفرنسي, وأعلن وتبعا لذلك استقلال "صوري" لموريتانيا بالتحالف الوثيق مع المحتل السابق يراعي مصالحه الاقتصادية والثقافية والأمنية ...
طبقا للقانون الإطاري الفرنسي المفصل على مقاس قوة الاحتلال والمعد على عجل والجمهورية الفرنسية الرابعة تلفظ أنفاسها 1954. ولم يشذ عن القاعدة "الذهبية" سوى غينيا كوناكري في عموم المستعمرات الفرنسية المعنية إذ صوت الغينيون ب "لا" ليوجه بذلك شيخوا تورى صفعة لديكول اعتبرتها فرنسا إهانة لها سيما وفرنسا تخوض جحافلها الآثمة آخر وأفظع حملاتها الإستعمارية اليائسة في مواجهة ثورة الشعب الجزائري وفي وقت أنهارت فيه الإمبراطورية في اديان ابيان فو تحت ضربات المقاومة الفيتنامية بالهند الصينية.
وغداة ذلك التصويت بموريتانيا والذي كانت نتائجه محسومة مسبقا لما أسلفناه سيتقلد ( الزاوي) المختار ولد داداه أحد التراجم المغمورين السابقين المعروفون ب " آماليز" سلطة الإستقلال الناقص الجديدة ورغم أن الرئيس المختار سيواجه داخليا معارضيه الكثر ومن خلفيات ومشارب مختلفة فإنه ستلقى دولته الجديدة عداءا محكما ورفضا من الجوار الأدنى شمالا وجنوبا وصل إلى درجة الحرب المعلنة وتحت يافطات متعددة ... إلا أن رجل الدولة الجديدة المطلة من أعماق الصحراء بعلمها الأخضر المسالم ونشيدها الوطني "المحظري" خريج المحماة الشاب والمتزوج حديثا من زميلة جامعية خريجة حقوق فرنسية إستطاع الصمود في وجه العواصف مكتسبا في نفس الوقت ثقة واحترام فريقه وقبل ذلك وبعده ثقة الحليف الأهم والسند الرئيس الحكومة الفرنسية بالمتروبول إذ لا ننسى أن باريس لم ولن تقبل ولأسبابها الخاصة التي تعود لحسابات إستراتجية ثابتة تخصها لا بدولة علوية تمتد حدودها من جبل طارق وحتي نهر السنيغال وهي التي أجهضت ولنفس الأسباب دولة "السودان" الكبرى التي أريد لها أن تضم مالي الحالية بالإضافة إلى السنيغال وربما موريتانيا.
ولم يأل الرئيس ورجل الدولة المختار جهدا في إرساء دعايم الدولة الوطنية الحديثة في موريتانيا بمعالمها الأساسية المعاشة وحتي عشية الإنقلاب عليه 1978 إنقلاب أطاح به أثناء دوامة الحرب الضروس, وظل ديدنه ماعرف عنه من وطنية وصرامة ونظافة يد رحمه الله. ومنذئذ وأرض السيبة هذه وقد عادت اوتكاد فيما يبدو إلى سابق عهدها في قبضة زمرها العسكرية المتربص بعضها ببعض وكأن حليمة تحن إلى عاداتها القديمة. وربما من قبيل المفارقات أن الممسكين اليوم بزمام الأمور في موريتانيا يباكروننا وصباحا ومساءا وهم يجترون كأجترار جمالهم في مراعيها بالضبط أقدس مايملكه وطن من وثائق ورموز .... مثل الدستور والعلم والنشيد إلخ وكل ذلك ليعيدوا صياغة أمور الحكم وما يتعلق به على مقاس زعيم الوقت على غرار ما يجري في "مطبخ" ولد ابيليل رئيس مجلس النواب و"حطا بيه", المجلس المحاصر هذه الأيام بالمتاريس و الشرط في ما تشتم منه روائح "الشيطة" على الأقل في أحسن الأحوال أو الإنقلاب.
وكأن العلة في النشيد والدستور والعلم, في ما كان من الأولى والأجدر بالنواب إذا كانوا حقا نواب الشعب وبرئيس الجمهورية نفسه وقبل غيره وبكل تلك الأبواق المدفوعة الثمن سلفا قليلة الحياء والوطنية قصيرة النظر وإن إدعت العكس أن يغيروا مابأنفسهم وأن يعتبروا بما يجري من حولهم في العالم القريب والبعيد, من بشار إلى كان باورى ومعرة العبث بمصائر الشعوب واتباع نزوات الحكم التي لا تعرف حدودا وأوامر الحكام, إذ كان عليهم أن يقولوا للحاكم كفى وقد إستنفد رصيده في الحكم وزاد ... وتغول نفوذ العائلة والفصيل والعشير والزمرة رغم شعارات الحكم الرشيد التي لم تعد تخدع أحدا بعدما بان من أمر الإثراء غير المشروع للحاكم ومن حوله. وقد صرنا إلى قول الشاعر:
- فليت جور بني مروان عاد لنا**وليت عدل بني " العباس " في النار
- أليس الله يعلم أن قلبي**يحب بني أمية ما استطاعا
وما بي لأن يكونوا أهل عدل**ولكني رأيت الأمر ضاعا
وما يجدر بنا التذكير به ها هنا وحسب علمي أنه قبل 5 أغسطس 2005 لم تعرف موريتانيا في رؤسائها مطلقا من ولد دداه الرئيس المدني المؤسس إلى معاوية ولد الطايع والمذكورين حكما لعقدين لكل منهما أو أقل أو أكثر ممن إهتم بجمع الثروة شخصيا ولا يعرف لأي منهم قبل أغسطس 2005 عقار تجاري أو سوق أو ما شابه أو ثروة مهربة في مصارف العالم, أو تعاط مع عصابات أو مافيا بالحق أو بالباطل ولعل هذا ما يجب التنويه به إلى أن " ينضج" أو يشيط ما تعالجه توابل مطبخ رئيس المجلس الموقر.
محمد ولد أماه