تنعقد بعد يومين في بيروت، وفي الذكرى 59 لميلاد الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، ندوة التواصل الفكري الشبابي العربي السابعة تحت عنوان “وحدة الأمة في مواجهة الغزاة”
وهو عنوان يحمل في طياته الإجابة على السؤال الذي تطرحه ندوتنا اليوم في طرابلس “الوحدة وآفاق نضالنا القومي”.
فالتلازم بين “وحدة الأمة ومواجهة الغزاة” قائم منذ قرون وهو الطريق اليوم لكي نفتح بالوحدة آفاق العمل القومي،
ولكي نجسد عبر مواجهة الغزاة الطريق إلى الوحدة…. وحين نتحدث عن وحدة الأمة لا نقصد شكلاً دستورياً محدداً أو صيغة اندماجية كاملة، كما قد يظن البعض،
بقدر ما نتحدث عن وحدة الكلمة، ووحدة الموقف، ووحدة الهدف، ووحدة الصف سواء أخذت هذه الوحدة صيغة التعاون أو التضامن أو التنسيق أو الاتحاد كونفدرالياً أم فدرالياً،
المهم أن تقوم هذه الوحدة بإرادة أبناء المنطقة وان تراعي خصوصيات الأقطار والجماعات المكونة للأمة. وحين نتحدث عن الغزاة لا نتحدث عن الغزو العسكري فقط الذي شهدت الأمة، من محيطها إلى الخليج، نماذج متعددة معه على شكل استعمار أو انتداب أو حماية، وكان أكثرها فجاجة ووحشية هو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل نتحدث أيضا عن غزو اقتصادي يتمثل في مصادرة ثرواتنا ومواردنا وربط اقتصاداتنا بالاقتصاد الاستعماري، كما يتمثل أيضاً بالسعي الحثيث من قبل الغزاة لمنع قيام أي تكامل اقتصادي عربي أو تنمية عربية مستقلة أو سوق عربية مشتركة او سكة حديدية واحدة من اقصى المغرب إلى اقصى المشرق…. كما نتحدث كذلك عن غزو ثقافي استعماري يتمثل في الانقضاض على تراثنا الروحي والعقائدي والحضاري بهدف تشويهه أو قطع صلتنا به،
كما يتمثل بشكل خاص بهذا الهجوم المتعدد الأشكال والوسائل والأدوات على الاسلام كروح للعروبة وعلى دور المسيحيين العرب في النهضة القومية وعلى لغتنا الأم، اللغة العربية، لغة القرآن التي حفظتها، فيمن حفظتها، أديرة الرهبان في جبل لبنان. وكالغزو العسكري والاقتصادي والثقافي يأتي الغزو السياسي، متوجاً لهذه الغزوات كلها، عبر مصادرة القرار السياسي للأمة أو الهيمنة عليه لمنع اتخاذ أي خطوة على طريق التضامن والتكامل بين أقطار الأمة، أو على طريق مواجهة المشروع الصهيوني وكل ما يتفرع عنه من أحلاف ومشاريع استعمارية شهدنا الكثير منها في الماضي، ونشهد الكثير منها اليوم. وما اجتمع ترامب مع نتنيناهو قبل ايام في واشنطن الا محاولة لتأسيس حلف استعماري صهيوني جديد لتصفية القضية الفلسطينية. نجاح الغزو السياسي، هذا لا يتم دون غزو من نوع آخر هو الغزو الاجتماعي أي غزو المجتمع من اجل تفكيكه إلى مجتمعات، وتفتيته إلى عصبيات متناحرة ومتحاربة تارة باسم الدين أو المذهب أو العرق فيتم تدمير مجتمعات وكيانات من داخلها، وهذا ما أتفق عليه باسم “مشروع الشرق الأوسط” بصيغه المتعددة… ولا يقل الغزو التربوي خطورة عن أشكال الغزوات الكبرى الأخرى، بل هو يشكل الممر الإلزامي لتلك الغزوات لأنه يستهدف الأمة في أطفالها وشبابها ويخّرجهم مشوهي الشخصية، فاقدي الإرادة، منبهرين بالغرب إلى درجة الاستسلام لسياساته وقيمه ومثله وأفكاره…. لمواجهة هؤلاء الغزاة والغزوات لا طريق للأمة سوى الوحدة، كما كان الأمر مع العديد من الغزاة والغزوات الزاحفة إلينا من الغرب كما حروب الفرنجة والاستعمار، ومن الشرق عبر المغول والتتار، حيث لم يكن ممكناً مواجهتهم إلا بالوحدة التي ترتكز دوماً على قطبين رئيسيين هما مصر من جهة وبلاد الشام والرافدين من جهة ثانية ويتمحور حولهم أبناء الأمة كلها من المحيط إلى الخليج حيث روى شهداء من كل الأقطار بدمائهم وحدة الأمة في مواجهة الغزاة…. والوحدة بالمقابل لم يكن ممكناً تحقيقها دون انخراط الأمة في مواجهة الغزاة، فمكتب المغرب العربي، الذي أطلق فكرته المجاهد الكبير الأمير محمد عبد الكريم الخطابي من القاهرة، كان تأكيداً على فكرة وحدة النضال في أقطار المغرب ضد الاستعمار والحماية الفرنسية وعلى وحدة الأمة كلها من خلال احتضان كبير من جمال عبد الناصر ذاته وهو احتضان كان وراء انخراط الحكومة الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.. لا بل يمكن القول إن ميلاد الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا نفسها في مثل هذا اليوم من عام 1958، قد حصل فعلا أبان العدوان البريطاني – الفرنسي- الإسرائيلي على مصر بعد تأميم قناة السويس، وذلك حين هب الشعب السوري منتصراً لمصر في مواجهة العدوان فنسف أبناؤه الأبطال خط أنابيب النفط لشركة الأي بي سي الممتد من كركوك العراقية إلى بانياس السورية، كما قام احد ضباطه الأحرار جول جمال بتفجير نفسه في زوق طوربيد في البارجة الفرنسية جان دارك مقابل بورسعيد مجسداً بذلك وحدة الأمة بكل أقطارها ورسالتها السماوية حول مصر وقائدها جمال عبد الناصر… صحيح إن مؤسس البعث المفكر الراحل ميشيل عفلق قد دعا في 17 نيسان 1956 إلى اتحاد بين مصر وسوريا في مواجهة الأحلاف والمشاريع الاستعمارية والصهيونية ضد مصر وسوريا والأمة كلها، لكن مفاعيل هذه الدعوة لم يكن ممكنا ترجمتها إلى صيغ سياسية ودستورية وعملية لولا تنامي الحركة القومية العربية في مواجهة العدوان على مصر والحصار على سوريا مما جعل مراسل صحيفة اللوموند الفرنسية يقول :” إذا أردت أن تتعرف على حدود القومية العربية، فما عليك إلا أن تعرف من هي الشعوب والأقطار التي لبت دعوة السياسي الماروني حميد فرنجية (حين كان رئيساً لمؤتمر التضامن الافرو أسيوي) إلى إضراب عام في آب/أغسطس 1956 يوم بدأت لندن وباريس وتل أبيب تخطط للعدوان على مصر وإسقاط جمال عبد الناصر”,,, في ضوء هذا الالتزام بين الوحدة ومواجهة الغزاة نستطيع أن نتلمس آفاق العمل القومي في مستقبل امتنا، وان نرسم مشروعاً نهضوياً للأمة يدرك عمق التلازم بين تطلعاتها نحو الوحدة العربية وبين أهدافها في “الاستقلال الوطني والقومي والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة والتجدد الحضاري”…. في ضوء هذا المشروع الجامع الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية في مثل هذه الأيام عام 2010، وتبناه المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي والعديد من القوى والهيئات والأحزاب العربية ممن ينتمون إلى خلفيات فكرية وعقائدية وسياسية متعددة انطلاقاً من الإيمان بأن الأمة تحتاج إلى حركة نهضوية جامعة تنطلق من مشروع واحد لم يكن مقتصراً على الأجيال والأحزاب الحالية بل يكون أيضاً متوجهاً إلى الأجيال الجديدة من خلال مبادرات شبابية عربية أبرزها دون شك مخيمات الشباب القومي العربي التي استضافتها عام 1993 “دار الزهراء” وعلى رأسها الرائد الصديق احمد المعماري، والتي كان من ابرز مؤسسيها والمشرفين على رعايتها المحافظين على استقلاليتها واستمراريتها ابن طرابلس المناضل فيصل درنيقة رئيس المنتدى القومي العربي في الشمال…. إن الحديث عن “الوحدة وآفاق العمل القومي” لا يستقيم دون الدعوة إلى مراجعة موضوعية نقدية هادئة لتجارب العمل القومي، حركات وأحزاباً وأنظمة ومبادرات، مراجعة لا تشهير فيها ولا تبرير، بل تحدد الايجابيات لتطويرها والسلبيات لتجاوزها مدركة إن تمتين الوحدة الوطنية بالمصالحات الداخلية في المشاركة السياسية هو الطريق الأمثل للوحدة القومية، تماماً كما إن تعزيز روح الوحدة العربية وصيغها التكاملية التفاعلية هو اسلم الطرق لصون الوحدة الوطنية التي علينا أن نعترف انه منذ انهيار وحدة مصر وسوريا عام 1961، وتعذر قيام وحدة بين مصر والعراق وسوريا عام 1963، وتعثر كل صيغ التكامل والتعاون والوحدة بين عدة أقطار في المشرق والمغرب، انتقل الهجوم من منع قيام الوحدة العربية إلى ضرب الوحدة الوطنية في كل قطر وكأن الانفصال جاء عام 1961 “ليحقق التجزئة أي ليجعلها حقيقة وحقاً” بل وكأن انتكاسة الحركة القومية العربية جاءت “لتجزئة المجزئ وتقسم المقسّم”…. من هنا رفعت عام 2003، وبعد أشهر من الاحتلال الأمريكي في العراق، وبعد انتخابي أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي (حزيران/يونيو 2003)، رباعية “المقاومة ، المراجعة، المصالحة، المشاركة” للرد عل العدوان وإفشال مخططاته، وهي رباعية ما زالت – في تقديري – صالحة اليوم للعراق، كما لأقطار عربية عديدة تعاني شرور التمزق والغلو والتوحش والتدمير الممنهج لكياناتها ودولها وجيوشها وبناها التحتية ومعالمها الثقافية والحضارية…. فهل نجتمع جميعاً على هذه الرباعية التي نفتح بها آفاق العمل القومي بكل مستوياتها ومجالاتها….
معن بشور