يمثل عصر النهضة العربية الحديثة عصر تدوين جديد بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة. ذلك أنه منذ أن أطلق الأفغاني وعبده دعوتهما "التنويرية" مستلهمين ما اطلعا عليه من الفكر الغربي، لم يعد ممكنا فهم الظواهر الفكرية في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة إلا بالعودة إلى أصول تلك الظواهر في الفكر الغربي. صحيح أن الرجلين نافحا بصدق عن العقيدة الإسلامية، فوقفا بحزم في وجه التيار التغريبي الذي كان جارفا. لكن المواجهة فرضت عليهما نوع الإشكالية وطريقة معالجتها. فانشغلا برد شبه تعارض الإسلام مع المدنية، التي أطلقها المسيو هانوتو، وتصديا للتيارات الإلحادية الوافدة من الغرب والتي وجدت صدى لدى بعض "متنوري" مصر والشام بتأثير من الإرساليات المسيحية.
كان على الرجلين مواجهة تهمتين رئيستين ركز عليهما دعاة التغريب؛ انغلاق المنظومة الفكرية الإسلامية، وهامشية المنهج العقلاني فيها. فدعا الأفغاني إلى فتح باب الاجتهاد، وفتش عبده عن العقلانية في التراث العربي الإسلامي "فوجدها" عند المعتزلة، فكانت "رسالة التوحيد" ثمرة جهده للبرهنة على عقلانية التراث العربي الإسلامي. وبذلك وقع الرجلان في الفخ الذي لم يفلت منه غالب من جاء بعدهما ونهج نهجهما. فقد سلما لخصومهما بضرورة "انفتاح" المنظومة الإسلامية، واعترفا بمحورية العقل. وبذلك غدا الفكر العربي الإسلامي، في الغالب، انعكاسا للفكر الغربي؛ فأصبح أبا ذر سلفا لسان سيمون، وأوغست كونت تلميذا لابن خلدون، والأزهر الشريف المعادل الوظيفي للكنيسة الكاثوليكية، واعتمر عمّار قبعة غافروش...
ومن ذلك التاريخ 1798 فرض الفكر الغربي نفسه على عقول المسلمين، منهاجا، واصطلاحا، وإشكالية. واختزل النقاش الفكري في خلاف، حاد ومتشنج أحيانا، حول "المحكم والمتشابه" في الفكر الغربي. فساد، في الفكر العربي الإسلامي منهج "الأشباه والنظائر" الذي يسمح، دون عناء، بتأصيل الفكر الغربي في التراث العربي الإسلامي. من تلكم الأشباه والنظائر ذات التأثير الكبير في حياتنا الفكرية اليوم، ظاهرة "المفكر الإسلامي". لا يعود مصطلح "المفكر الإسلامي" إلى الحقل المعرفي البحت، وإنما يعود إلى المجال السياسي مقابلا للمفكر الماركسي. فقد كان التنافس كبيرا بين الحركة الماركسية والحركة الإسلامية، وكان التشابه بينهما لافتا أيضا. فقد طمحت الحركة الإسلامية إلى أن تكون بديلا عن الحركة الماركسية، فتبنت إشكاليتها، واستعارت أساليبها التنظيمية. فقد كتب سيد قطب رحمه الله، غرامشي الحركة الإسلامية، كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" عام 1954، في فترة كان التنظير الماركسي، في بلدان الجنوب يتمحور حول هذا المفهوم. ولم يكن مصطلح "المفكر الماركسي" سوى محاولة لتعويض الماركسيين عن مصطلح "المفكر الحر" الذي يرفض الأطر الجامدة. فقد أراد الماركسيون أن يبرهنوا على أن الالتزام بالمقولات الماركسية، لا يمنع المرء من أن يكون مفكرا. وإلى نفس المعنى قصدت الحركة الإسلامية. لكن المفكر الماركسي، والمفكر الإسلامي لم يستطيعا الفكاك من محددات "المفكر الحر"...
تنسب عبارة "الفكر الحر" إلى فيكتور هوغو الذي أطلقها في خطاب ألقاه عام 1850، وتعرّف بأنها "موقف يرفض الدوغمائيات الدينية والفلسفية، وغيرها، ويركن بشكل رئيس إلى التجارب الشخصية والعقل لممارسة التفكير وإصدار الأحكام." و"الفكر الحر" بطبعه مناهض للعقائد الدينية، ويمكن "للمفكرين الأحرار" أن يكونوا "ملحدين، أو شكاك، أو مؤلهين، أو فوضويين، أو متحررين من القيم الأخلاقية، أو عقلانيين." من كل ذلك يظهر أن الفكر الحر موقف معاد للمنظومات الدوغمائية عموما، والدينية خصوصا. وينطلق "المفكر الحر" من هذا المبدأ لتصدر آراؤه عن تجربته الشخصية وعقله الفردي.
في 21 مارس سنة 1848 أنشئت "الجمعية الديمقراطية للمفكرين الأحرار، في فرنسا برئاسة الفيلسوف والسياسي الشهير جيل سيمون، لتظهر بعد ذلك جمعيات مماثلة في البلدان الأوربية. وفي سنة 1881 عرّف المؤتمر العالمي المنعقد في باريس "التفكير الحر" بأنه "جمعية عقلانية ملحدة". بناء على ذلك فإن المفكرين الأحرار لا يعترفون بأي سلطة يمكن أن تتعارض مع العقل، ويرفضون كل العقائد مهما كان مصدرها.
لقد جرت محاولات لتأصيل "الفكر الحر" في التراث العربي الإسلامي لعل من أهمها على مستوى التنظير، وإن كانت أقلها شهرة، رسالة محمد أركون لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون، تحت عنوان "نزعة الأنسنة في الفكر العربي"، يقول في مقدمتها.."لنحاول الآن أن نقيم مقارنة سريعة بين ما حصل في السياق الأوربي، وبين ما حصل في السياق الإسلامي." طبعة 1997، ص:11، ترجمة هاشم صالح. وهكذا ينطلق أركون من مبدأ "الأشباه والنظائر" في السياق الأوربي، والسياق الإسلامي، فيعد في المفكرين الأحرار مسكويه والتوحيدي، بينما يضيف آخرون، مثل دومنيك أورفوا في كتابه "المفكرون الأحرار في الإسلام"، المعري، وابن الراوندي الملحد وآخرين...
ظلت هذه الدراسات الأكاديمية وغيرها، مثل أعمال حسين مروة، صادق جلال العظمة، حسن حنفي، بعيدة عن متناول الجمهور العريض بفعل نخبويتها وخلفية أصحابها الفلسفية اليسارية غالبا. ولذلك لم يكن لها تأثير يذكر، وإنما نظر إليها متعلمو الطبقة الوسطى المحافظة بكثير من الريبة. لكن الأمر سيتغير جذريا مع "المفكرين الإسلاميين"؛ فهم ينتمون إلى الإسلام بأفكارهم، وتربطهم علاقات وثيقة بالحركة الإسلامية التي ناضلوا في صفوفها في فترة ما من حياتهم. يضمن لهم هذا الانتماء "السياسي" رواجا لآرائهم بصفتهم "مفكرو الإسلام"، كما للماركسية مفكروها، ولليبرالية مفكروها. هم إذن تطبيق مباشر لنظرية "المفكر العضوي" كما صاغها غرامشي "في كراسات السجن"، واستنسخها سيد قطب في مؤلفاته التي كتبها في السجن " في ظلال القرآن، و معالم في الطريق"...
كان سيد قطب أول "مفكر إسلامي" "يركن إلى تجربته الخاصة وعقله الفردي"، ليعيد تأويل المنظومة الإسلامية وفقا لنظرية المثقف العضوي. يقول، في ختام مقدمة "في ظلال القرآن".."هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن. لعل الله ينفع بها ويهدي. وما تشاءون إلا أن يشاء الله." توضح هذه الخلاصة منهج "المفكرين الإسلاميين الأحرار" الذين يركنون إلى تجاربهم الخاصة وعقولهم الفردية..." فسيؤول الإسلام، عقيدة وشريعة، انطلاقا من خواطر وانطباعات!!!
كان سيد قطب يواجه الفكر الماركسي الذي يعد نقيضا للإسلام، وإن اتفق معه في الانتماء إلى "نص مقدس"، والعمل على تحقيق سعادة الإنسان. لذلك سيحرص سيد قطب على ترسيخ "العقيدة والشريعة" اللذين يحاول الفكر الماركسي تقويضهما، اعتمادا على خواطره وانطباعاته. وكما اشتط الفكر الماركسي في محاولته اجتثاث الدين، سيجتهد سيد قطب، وفقا لقوانين الفيزياء، لتوسيع قاعدة "العقيدة والشريعة" حتى تشمل كل أوجه الحياة، وخاصة المجال السياسي بالذات. لكن الماركسية انهارت فجأة، ليصبح التنظير الماركسي من التاريخ، فتغيرت وظيفة "المفكر الإسلامي" تبعا لأولويات الحركة الإسلامية. فقد حل التعاون محل الصراع بين الحركة الإسلامية وشركائها الجدد...
لقد قرر الغرب، الذي هزم الشيوعية، لكنه يواجه خطر "الحركات الإسلامية المتطرفة"، التحالف مع حركة الإخوان المسلمين بشرط نهوضها بإصلاح ديني شبيه بذلك الذي أحدثه لوثر وكالفن في الديانة المسيحية. وبذلك أسندت مهمة جديدة إلى "المفكر الإسلامي" تتمثل في التنظير لإبطال فريضة الجهاد، وفرض إلزامية الشورى، وإحلال الدولة المدنية محل الدولة الإسلامية، وأسبقية حقوق الإنسان على أحكام الشريعة الإسلامية... فألف القرضاوي، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كتابه.. "فقه الجهاد"، الذي يقول في مقدمته.."...إن هذا الكتاب يقدم للقارئ المسلم وغير المسلم ثقافة جديدة عن قضية من أخطر قضايا الإسلام، التي طالما التبس فهم حقيقتها على المسلمين، وعلى غير المسلمين، وهي قضية الجهاد. هذا الكتاب يقدم عنها ثقافة غير الثقافة المتوارثة عند جمهور المسلمين، التي أخذها الخلف عن السلف، والتأخرون عن المتقدمين، يدرسها المسلمون في كتب الفقه المذهبية المختلفة، على ما فيها من قصور وتناقضات،..."، الطبعة الثالثة، مكتبة وهبة، ص:11.
يقع الكتاب في مجلدين كبيرين، وتتلخص "الثقافة الجديدة"، التي يقدمها عن فقه الجهاد، في إبطال فرضية الجهاد "التي أخذها الخلف عن السلف، والمتأخرون عن المتقدمين..."، حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتقذف في قلب القرضاوي "ثقافة جديدة" تبطل فرضية الجهاد... يقول صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد."
وكتب راشد الغنوشي، في نفس الفترة تقريبا، كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، وكان شيخه حسن الترابي قد أصدر ضمن مشروعه الفكري الجزء الأول من "التفسير التوحيدي"، سنة 2004، ثم أتبعه بالطبعة الأولى من كتاب "في الفقه السياسي" سنة 2010، ثم كتاب "السياسة والحكم" سنة 2011. وبذلك يظهر التبدل الجذري في إشكالية "المفكر الإسلامي". فلم تعد إشكالية فصل، "الإنقلاب الإسلامي"، "المستقبل لهذا الدين"، كما كانت مع "المفكر الماركسي"، وإنما غدت إشكالية وصل مع "المفكر الحر"، "فقه الأقليات"، "سماحة الإسلام"...
هذا التلاقي مع "المفكر الحر" سيفرض على "المفكر الإسلامي" اتخاذ مواقف فكرية حرة من المنظومة الإسلامية عقيدة وشريعة. وهكذا ستتم استعادة إشكالية عصر النهضة حول مدى توافق الإسلام مع المدنية الغربية، وسيستعيد "المفكر الإسلامي" نفس الإجابة التي قدمها محمد عبده ردا على مقال وزير خارجية فرنسا. نعم يتوافق الإسلام، في مجمله، مع المدنية الغربية، وسيتكفل "المفكر الإسلامي" بالرد على الشبهات المتعلقة بأحكام الشريعة الإسلامية فيقدها على شرعة حقوق الإنسان فما وافقها منها فهو محكم، وما خالفها فهو ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو من "مصائب الفقه"...
كان بولس الرسول منفتحا، متسامحا، وسطيا، متشبعا بثقافة عصره، مطلعا على الفلسفة اليونانية، يتعاون مع غيره في ما اتفقوا فيه، ويعذرهم في ما اختلفوا فيه، فأراد للديانة المسيحية انتشارا واسعا، فاجتهد بصفته "مفكرا مسيحيا"، فألغى شريعة موسى، وانفتح على الفلسفة اليونانية، فأصبحت المسيحية، كما صاغها عقيدة بلا شريعة... مجرد عظة يسمعها المؤمن يوم الأحد فتطعمه خبزا وتسقيه خمرا... ولعل في الإسلام يظهر بولس جديد.. "مفكر إسلامي" ضليع في التسيير، عالم بمقارنة الأديان، شنقيطي، يستظل بالدوحة...