اعتذرت المغرب في أزمة تصريحات شباط لموريتانيا وتفاعلت مختلف القوى المغربية مع ذلك معبرة عن استيائها من تصريحات شباط ، ليس لأن المغرب ستكون الحلقة الأضعف في الدخول في صراع من هذا القبيل مع الجارة والشقيقة موريتانيا ، بل لأن المغرب على ما اعتقد تعتبر أمن موريتانيا
من أمنها وليست مستعدة للمجازفة كي لا تتشكل ثغرة أمنية زيادة على الصحراء حتى لا تتعدى مطامع القوى الأجنبية حدودها وتفتح لها آفاق أخرى تمكنها من تفتيت المنطقة واستنزاف خيراتها ، لذلك صورت لنا التخيلات أننا الحلقة القوية أو أن كارزمية القيادة الوطنية هي صاحبة ذلك والسبب فيه ، كذلك اعتذرت السنغال عن كل الدعاوي التي قيلت في مؤسسة إعلامية خصوصية سنغالية وتعهدت على لسان الناطق باسم حكومتها بمحاسبة كل الدعايات التي تبرأت منها ضد موريتانيا ، لكن اعتذارها ذلك لم يأتي إلا بعد أن ضمنت خروج "جامع" من غامبيا وحققت لها موريتانيا ـ التي كانت تلعب على الحبل من زاوية خاصة جدا من أجل تدارك مصالح لها ضاعت من أيديها دون أن تعي ذلك أو تنتبه له ـ ما تصبوا إليه بأبسط التكاليف .
فخروج "يحي جامع" أمر كانت تدعمه السنغال التي لا مانع عندها في التدخل العسكري من أجل ذلك ، ومجيء "بارو" الذي نصبته على أرضها في السفارة الغامبية بدكار ، وهيأت له الظروف لدخول دولته التي سيترأس بالمشاركة من قوات "الإكواس" الإفريقية ، كانت تدعمه وتسعى إليه كذلك ولا مانع عندها من دخول حرب في سبيل ذلك على ما يبدو ، لكن هناك نقطة تجدر الإشارة إليها وهي أن السنغال التي دعمت هذه القضية بهذا المعنى مستحيل أن تتحرك على هذا النحو إلا إذا كانت في خلفها فرنسا ، ففرنسا تعني بلغة أخرى السنغال ، وعندما نتذكر قصة خطاب ذكرى المسيرة الخضراء التي ألقى العاهل المغرب من داكار وسط ترحيب كبير من السنغال وتطور ملفت للنظر في العلاقات بين البلدين بعدما كانت مجمل ما في الروابط الحسنة بينهم يندرج في إطار العلاقات الروحية فقط ، ندخل مباشرة في جوي صراع وتنافس دبلوماسي مستمر من نوع خاص .
المغرب يريد الوصول إلى إفريقيا ولا بد أن يستدرج من دولها ما يمكن أن يستدرج لكي يتغلب على الحرج الذي تسببه له البوليساريو ، والسنغال ذهبت في ذلك المنحى عندما قررت المؤسسة المغربية إلقاء خطاب المسيرة الخضراء من أرضها ، وتشكل بذلك ثنائي له أهداف معينة ومحددة خاصة أن المغرب تسعى منذ شهور إلى الرجوع إلى الاتحاد الإفريقي ، لكن مصالح موريتانيا وعلاقتها الحسنة وموقفها من البوليساريو حتم عليها تشكيل حلف مناوئ مع الجزائر ، لتتضارب الأهواء والخيارات وتكون مناورات المصالح على قدر كبير من الشراسة والهدوء والتباين في ذات الوقت.
لكن ما أحبُ أن أصل إليه في هذه النقاط هو تدخل الرئيس في الشأن الغامبي من أجل حل أزمتها التي كادت تعصف بها ، فلماذا تدخل ؟ ولماذا الحرص على حل الأزمة الغامبية بالطرق السلمية؟ ، وأي درس يمكن أن يستخلص من قصة المشكل الغامبي الذي يبدو أن تأثيره على موريتانيا كان له وقع كبير نظرا لأبعاده متعددة؟.
صحيح أن أطماع السنغال في جارتها غامبيا أمر بيّن ولا يخفى على كائن من كان ، رغم اختلاف القوتين الاستعماريتين للبلدين ورغم اختلاف اللغتين المعتمدتين في كلا البلدين ، وهذه ربما تكون نقطة مهمة في إشكاليتنا ، وصحيح كذلك أن السنغال تحفُّ الجارة "غامبيا" من ثلاث جهات مما يحتم أهميتها عندها رغم كل اختلاف .
لكن البلد الذي لا يتعدى تعداد سكانه مليوني نسمة شكل نقطة مهمة من نقاط التوتر في المنطقة ومركزا صعبا للتجاذب ربما جردت في سبيل استقطابه وحصول أي قطب عليه الأسلحة وكل شيء متاح أو غير متاح.
فلا يعقل أن يكون ترسيخ الديمقراطية واحترام خيار الشعب الغامبي هو المحرك الوحيد لدول "الإكواس" وليس ثمة ما يبرر ذلك سوى موقف السنغال الحساس من القضية ، وضم صوت إفريقي للحلف المناوئ الجديد ، وذلك ما حصل على ما يبدو ، لكن هل ستحاول السنغال ضم غامبيا وإحياء مرحلة مشتركة من تاريخ البلدين ومحاولة سابقة بينهما عفت عليها السنين ؟ الله أعلم ، لكن تفاني الجارة المحيطة ب"غامبيا" في قضيتها هذه وسعيها بكل الطرق لإزاحة "جامع" أمر سيكون له ما بعده بكل تأكيد ...
ولنعد الآن إلى شأن موريتانيا وموقفها من القضية ، صحيح أنه بين الرئيس المغادر "يحيى جامع" علاقة حسنة وجد طيبة بالرئيس الموريتاني ، لكن علاقته به الطيبة لم تحل دون اعترافه بنتائج الانتخابات الأخيرة التي أطاحت به ، وربما لم يكن ذلك واردا ، لأن "جامع" نفسه اعترف بها ، لكن ما يجهله الكثير أو تجاهله أن الرئيس الموريتاني لم يأتي بجديد في تلك الأزمة ولم ينجح في حلها إلا بالقدر الذي جنّب صديقه الخسارة أو المحاكمة والسجن وربما الإعدام .
فبعد أن اعترف "جامع" بالانتخابات وأخذ يستعد لتسليم السلطة علت أصوات مطالبة بمحاكمته وهو لم يسلم السلطة بعد ، فلم يكن أمامه إلا الاحتراز ، والتمسك بالسلطة ريثما يأتي الفرج من جانب ما ، وقد تم بالفعل مع ولد عبد العزيز ووساطته ، ففي الوقت الذي تدق فيه الحرب طبولها وتستعد كل الجهات المعنية وحتى تلك التي دخلت فيها بإرادتها ، يأتي عزيز مفاوضا من أجل سلامة صديقه "جامع" ويُأمن له مخرجا معينا يضمن له في سلامة النفس والأهل والممتلكات ، وهذا شي ، إذا نظرنا إلى موقفه الأول من الانتخابات وقصة قبوله لها نعرف أنه كان في حسبانه ـ أي "جامع ـ ، لكن كان يريد طريقة ما للخروج سالما ، وهو ما جاء مع وساطة رئيسنا "محمد ولد عبد العزيز".
لكن ونحن نودع رئيسا حتمت عليه ظروف معينة التمسك بالسلطة من أجل أن يخرج خرجة كهذه ، وقبل صاحبنا ولا أظن أن قبوله أن يكون مفاوضا لتلك القضية والضامن لها إلا عن وعي بما سبق، ألا يحق لنا التساؤل عن ما بعد 2019؟ دون أن يتهمنا أحد في ذلك باستباق الأحداث ، فالأحداث التاريخية تكون متتالية في العادة وتتشابه في بعض الأحيان.
أعرف أن موريتانيا قد خرجت حلف دول "الإكواس" سنة 2000 ، وأعرف أن المعين الذي شرب منه "جامع" قد يرتشف ولد عبد العزيز رحيقه كله ، لكن عوضا عن الرفض الداخلي في موريتانيا للمأمورية الثالثة هل سيكون هناك رفض خارجي ، اعتقد أن ناحيتين يكفي النظر إليهما للخروج بانطباعات سيئة عن القادم القريب
الأول: تواصل المطالب بترشيح الرئيس لمأمورية ثالثة من سياسيين وبرلمانين معروفين ، ومن غير الوارد أن يكون ما تكلموا عنه من وحي ضمائرهم ولا يصدر من أصل أو مصدر أعلى منهم ، فلو أنهم لم يلتمسوا قبولا من نوع ما من الرئيس نفسه لما تجرأوا على طلب ذلك ، فصاحب الطمع محال عليه أن يتكلم على غير بينة.
الثاني: الوضع الإقليمي المتأزم دبلوماسيا بما فيه من تحالف وتدابر وتقاطع ، فهذا يجعل من كون بعض دول الجوار في أتم الاستعداد انتظارا لأي طارئ يبرر تدخلها في الشؤون الداخلية.