اليوم العالمي للغة العربية، هو اليوم: 18 دجمبر. إنها إحدى "تقليعات" الأمم المتحدة وهيئاتها، التي تخصص أياما من السنة رمزا لنشاطات قد تكون مهمة، وكثيرا ما تكون تافهة في الواقع!
إذا كانت موريتانيا الرسمية اليوم ترأس القمة العربية، وتطلب ثأر "المقاومة الوطنية" من "عملاء" الفرنسيس... وتحتفل بذكرى استقلالها الـ56... وسَنتها الثامنة من نظام حاكمها الذي هو ـ كأسلافه ـ صاحب الإنجازات العملاقة والفتوحات العظيمة في كل مجال "وطني"...
فإن موريتانيا الرسمية، تعيش اليوم مُذِلةً لنفسها قامعةً لهُويتها وتاريخها، مستهزئةً بآيات كتابها وأحاديث نبيها (صلى الله عليه وسلم)، خارقةً لدستورها... مُعظِّمةً لمستعمِرها الفرنسي نفسه مُؤازرةً لرغباته ومباركةً لخططه ومستعدةً لإيصال ما عجز هو عن إيصاله...!!
نحتفل اليوم بمرور ست وخمسين سنة أيضا على آخر حادثةِ "ترواغِ" أسرةٍ موريتانية لولدها عن "لَكُولْ" أو "مدرسة" النصارى...!
*
إنها اللغة العربية، لغة الإسلام، ولغة الأمم المتحدة... اللغة التي لا يصل أحدهم إلى كرسي الحكم في هذا البلد إلا كانت خصمَ لسانه، وضحيةَ إدارته وسلطانه!
اللغة العربية رغم "مقاومتها" ودستوريتها وشعبيتها... ما تزال غريبة منبوذة في إدارات الدولة ومؤسساتها الرسمية... ودعكم من القطاع الخاص!
الفرْنَسة الحمقاء والتفرقة الخرقاء في التعليم، أفسدته وجعلته جهالة مقنعة؛ فمستويات المدرسين والتلاميذ من هذه اللغة المسلطة علينا، لا تمكنهم من إيصال ولا استيعاب المعلومات "العلمية" المزعومة... فضاعت اللغة وضاعت العلوم في نفس الوقت!!
لقد أدى الإهمال والتخبط والفساد... إلى تحلل قطاع التعليم العام، وتفاقمت مأساته بسبب نمو التعليم التجاري الذي يقتات على هذا التعليم ويستميل جل وقت وجهد مدرسيه. وقد تكاثر التعليم الخاص كدكاكين، بل "اطوابل"، البضاعة الرديئة، وأصبح كثير منه مظهرا من مظاهر الاحتيال والفوضى والتسيب (أكثر المدارس الخاصة لا تملك مباني ولا هياكل إدارية ولا برامج تربوية ولا مدرسين!!).
وبما أن الأنظمة العسكرية المتعاقبة لا عناية لها إلا بالشأن السياسي، فقد تجنبت كلها مواجهة فساد التعليم، وفضلت "السلامة" من معركة إصلاحه.
وأدى هذا الإهمال و"الجبن" إلى أن تضام اللغة العربية وتقزم؛ سواء بخلق تعليمين منفصلين (فرنسي وعربي) أو بفرض فَرْنَسة الشُّعب العلمية، حتى على الشعب العربية!.
ومن الناحية التربوية والاجتماعية أدى كل ذلك إلى القطيعة بين مكونات الشعب وتكريس الطائفية والطبقية؛ سواء بتدابر الفصول الدراسية وجعلها لطائفتين عنصريتين (العرب والزنوج!)، أو بتمكين الأثرياء والموسرين من إلحاق أبنائهم بالمدارس الأجنبية أو الحرة، الأكثر حظا من الوسائل والنظام، وترك أبناء الطبقات الفقيرة والمعوزة في مدارس التعليم العام المنهار.
لقد أصبح التعليم عموما، واللغة العربية خاصة، في مستوى من الرداءة والركاكة يُدمي القلوب ويُدمع العيون، وفيه يتجلى ضعف الدولة و"هروبها".
ومع ذلك تعمد السلطات إلى تقييد الوصول إلى الوظائف الشحيحة بـ"إجادة" اللغة الفرنسية التي يلامس تدريسها ـ كلغة ـ في المدارس العامة ـ الشعب العربية ـ مستوى الصفر! فتكون النتيجة الحرمان من تلك الوظائف!
المأساة أننا نسبح ضد التيار؛ فاللغة العربية تزداد انتشارا ونفوذا في العالم كله، والفرنسية يخبو نجمها ويتقلص نفوذها، وتَنحني في عقر دارها... والمسئولون في دولتنا يُحشون إضباراتهم، ويشوهون لوحات إعلاناتِ مؤسساتهم، بركيكها!!.
باختصار لقد أصبحت اللغة العربية في نظامنا الحكومي وتوابعه مجرد "طلاء" لصندوق حرز اللغة الفرنسية المنيع!!
ومع ذلك تسَّاقط كل يوم حجج هذا التشتيت والتناقض بابتغاء"العلمية"، باستمرارِ التخلف العام والفشل في هذا القطاع خاصة!
*
إن تقدم اللغة العربية وحيويتها مسألة "تاريخية"، فقد فشل المستعمرون والمستشرقون، في سلب الشعوب العربية لغتها ولم يفلحوا في إحلال لغاتهم محلها. وتساقطت في تلك الأثناء وبعدها دعوات "العامية" التي نادى بها بعض المثقفين والنافذين لدحر الفصحى الصامدة.
وعلى الصعيد العالمي تتقدم اللغة العربية، وتتجاوز بمراحل عدة مستوى اللغة الفرنسية بالذات. بل تقول الإحصاءات الفرنسية اليوم إن 65000 فرنسي يتعلمون اللغة العربية خارج المدارس ومؤسسات التعليم، وإن أكثر من مليون ونصف المليون فرنسي يفهمون ويتكلمون اللغة العربية. وهؤلاء جميعا من غير ذوي الأصول العربية المباشرة (المهاجرين العرب).
وخلافا لمزاعم التخلف وعدم ملاءمة اللغة العربية للعلوم الحديثة، التي يتحجج بها اليوم في بلادنا من فرضوا تدريس المواد العلمية والتقنية بالفرنسية، فإن الإحصاءات العالمية تبين أن اللغة العربية هي الرابعة من حيث عدد الناطقين بها، بعد الإنجليزية والصينية والهندية؛ مما يجعلها في الواقع هي الثانية من حيث الانتشار خارج حدود الناطقين بها أصالة، فضلا عن كونها اللغة الثانية لجميع المسلمين في العالم!
وإذا رجعنا إلى مختبرات التقنية العالية، في شركات عالمية مؤثرة، مثل Microsoft و Apple، وGoogle، وKaspersky وFacebook... فإن كل واحدة منها تستثمر في اللغة العربية أكثر من استثماراتها في اللغة الفرنسية. وقد تكون هذه مسلمة تجارية؛ لكن ذلك لا يقلل من دلالتها السياسية ونتائجها الثقافية في العالم الرقمي الذي يكتسح الحاضر ويحتكر المستقبل.
*
اللغة العربية في بلادنا لا تعاني من تجاهل وتجاوز السلطات العمومية واحتقار المؤسسات الخاصة والسفارات والهيئات الدولية (ولِمَ تحترمها ما دامت الدولة كذلك؟)... وإنما تعاني أيضا من بعض أبنائها "الطبيعيين" وأبنائها "الشرعيين"، وتكاد تكون ضحية لمناكفاتهم الفكرية ومشاكساتهم السياسية.
فقد أدت "عصبية" وعنصرية بعض من يحاولون تسخير هذه اللغة للأيديولوجيات العروبية إلى ردة فعل معاكسة، تؤطرها إرادات خبيثة وإملاءات استعمارية معروفة، تحارب هذه اللغة وتُنَفر منها الذين لم تكن لغتهم الأولى رغم اعترافهم أنها لغة دينهم؛ وكانت عبر التاريخ ـ قبل الاستعمار ـ لغة التأليف والتوثيق لهم؛ وحرفها كان هو أداة كتابة لغاتهم نفسها...
ومن المثير للدهشة أن من يعادون "التعريب" ـ مع التحفظ الشديد على هذا المصطلح ـ ويريدون ربطه باستعمال اللغات الوطنية في بلادنا لا يفعلون ذلك احتراما لهذه اللغات ـ التي رسَّمها الدستور كذلك ـ ولا حرصا على نشرها... بل يفعلون ذلك في الغالب للحفاظ على سيادة اللغة الفرنسية!
ومع ذلك فإن الإعلام الفرنسي، المسوَّد على إفريقيا الغربية، خاصة بواسطة إذاعة RFI ومجلة Jeune Afrique وتلفزيون TV5Monde Afrique مثلا... لا اهتمام له باللغات المحلية وثقافاتها، وإنما هو مكرس لنشر اللغة الفرنسية وثقافتها.
ولطالما تساءلتُ لما ذا لا يحتج أحد من "المتفرنسين" الغيورين على اللغات الوطنية المنادين بالتسامح الفكري والتنوع الثقافي، على الغياب المطلق للغات الوطنية ـ كالبولارية الواسعة الانتشار في إفريقيا الغربية كلها ـ عن لغات البث في إذاعة فرنسا الدولية وصفحاتها، رغم أنها تبث بخمسة عشرة لغة، منها السواحلية والهوسا والماندنيك... وهي لغات إفريقية ولكنها ثانوية في منطقة الساحل؟!
*
إن اللغة العربية التي هي لغة الإسلام بدون نزاع؛ والإسلام بدون نزاع أيضا هو دين جميع مكونات الشعب الموريتاني، يجب أن تسود كلغة رسمية فعلا، لا قولا؛ وذلك تطبيقا للدستور والقوانين، وحرصا على المصلحة الوطنية، بل وتقدم البلاد؛ على الأقل بإنهاء هذا الهدر والعبث بمسألة اللغة، التي يجب أن تظل أداة اتصال ووصال تقنية ودينية بالدرجة الأولى، بعيدا عن السياسة وانتهازيتها.
وعلى الجميع النأي بخطابات التعصب وشعارات الأيديولوجيا عن هذه اللغة، والكف عن حشرها واستغلالها في خدمة ديكتاتوريات عروبية فاشلة.
فاللغة العربية هي أوسع وأشمل وأسمى من أن يحرزها مذهب أو يحتكرها عرق. بل يشهد التاريخ أنها لم يخدمها وينشرها ويسموا بقواعدها أحد بقدر ما فعل ذلك سدنتها من غير العرب... ابتداء بالعلامة سيبويه الفارسي في المشرق، وانتهاء بالعلامة خيار كن بن سليمان تفسير كن البُّولاري الفوتي، شيخ العلامة محمد بن المختار بن الأعمش الشنقيطي الذي هو شيخ العلامة المختار ولد بونا، أبي النحو والصرف حديثا في هذه البلاد (الموريتانية)!