عندما ألقت الحرب العالمية الثانية أوزارها كان العالم كله يغلي:
* كانت الدول الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا وأمريكا) قد دمرتها وأنهكتها الحرب، وبلغت فيها القوى العمالية والثورية أشدها.
* وكان الاتحاد السوفييتي (أول دولة اشتراكية في العالم) قد حطم جبروت النازية وهزم هتلر ومرغ أنفه في التراب واحتل الرايخ في برلين، وبنى قوة عسكرية جبارة وحلفا يوازي ويناوئ حلف شمال الأطلسي الاستعماري، وصار ظهيرا للشعوب المستعمرة وحركة التحرر العالمية.
* وكانت دول وشعوب في المستعمرات في أوج ثورتها على الاستعمار وهَبَّتها من أجل الحرية والاستقلال (الوطن العربي، إفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية). وكانت منظمات وثورات وحركات وزعامات تمور: هيئة الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، حركة عدم الانحياز (مؤتمر باندونغ) ثورات الصين والهند وفيتنام وإيران في آسيا، ثورات مصر والجزائر والماو ماو وغيرها في الوطن العربي وإفريقيا، ماو تسي تونغ، نهرو جمال عبد الناصر تيتو مصدق سوكارنو كوامي نكروما شيخو توري جومو كينياتا.. الخ.
وفي هذا الخضم العاتي الذي تميز باندلاع صراع مصيري لا هوادة فيه بين الاستعمار الغربي القابض على البسيطة وبين شعوب الأرض الثائرة، حدثت معجزة الثورة الكوبية حين تمردت زمرة من المثقفين على الطغيان والهيمنة والفساد في بلادهم التي حولتها أمريكا إلى مزرعة نموذجية للفساد في حديقتها الخلفية (أمريكا اللاتينية) فحملوا السلاح وهاجروا إلى الريف، أضعف حلقات النظام، فأشعلوا "بؤرة ثورية" وابتدعوا "ثورة في الثورة" ونظموا وعلموا وسلحوا الفلاحين وقادوهم وانتصروا بهم وأقاموا جمهورية الشعب الكوبي على مرمى حجر من مشارف قاعدة وزعيمة الاستعمار والطغيان الصاعدة.
ومن يومها اندلعت عملية كسر عظم لا هوادة فيها استمرت على مدى عهود عشرة رؤساء أمريكيين بين العملاق الأمريكي الجبار والفتى الكوبي الذي لا يقهر: الغزو المسلح (عملية خليج الخنازير) الحصار الاقتصادي والسياسي، الحرب الإعلامية والمخابراتية، وأزيد من 650 محاولة اغتيال.. الخ. ومع ذلك ظلت كوبا صامدة وثائرة وحرة ومستقلة ومزدهرة بفضل شجاعة وصمود وقوة إرادة قيادتها وحكمة وصلابة شعبها!
ولم تصمد كوبا وتبق فحسب؛ بل أشعلت بؤرا ثورية أخرى في السهل الأمريكي وفي العالم أجمع: تشيلي، فنزولا، بوليفيا برازيليا أنغولا والموزنبيق وجنوب إفريقيا وروديسيا وغينيا بيساو والرأس الأخضر.. الخ.
ورغم أن نظرية "البؤرة الثورية" الكوبية كانت وليدة ظروف خاصة سمحت بنجاحها في كوبا دون أن تتوفر في بلداننا العربية والإفريقية، فإننا نحن الذين عشنا هذه الفترة من التاريخ كان لنا شرف لقاء كوبا وثورتها في مناسبات عديدة:
- لقد ألهمت ثورة كوبا وتجربة كوبا وصمود كوبا أجيالنا، وشحذت عزائم شعوبنا، وأمدتنا بما تستطيع من قوة في نضالنا من أجل التحرر والاستقلال.
- وعندما هزمت جيوشنا العربية سنة 1967، كان التحدي والصمود الكوبي نموذجا نحتذي به في حرب الاستنزاف، وفي النضال الفلسطيني ضد الاستعمار والصهيونية، وفي حرب أكتوبر المجيدة كذلك.
- ولما انهار المعسكر السوفييتي في نهاية القرن المنصرم، وانفلت الوحش الامبريالي الحاقد من عقاله في "ظل ذي ثلاث شعب": عولمة الغزو والدمار بجميع أشكاله، هيمنة وطغيان القطب الواحد، إعمال الإرهاب التكفيري المدمر، فغزا دولنا وأوطاننا واستباح حمانا وكسر بيضتنا وأذلنا أيما إذلال، كان تحدي وصمود كوبا وقيادتها رائدنا في الصبر والصمود وزرع بذور النصر ونسج خيوط الفجر رغم اختلال ميزان القوة الصارخ بيننا وبينه؛ وها نحن ننتصر: انتصر لبنان وتحرر، ونهضت موريتانيا من كبوتها، وثارت تونس ومصر، وصمدت سوريا والعراق واليمن وفلسطين رغم جميع كوارث هذا العصر.
فتحية واحتراما لقائد ثورة كوبا وبطل صمودها الأسطوري الذي لا يقهر.
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشد