بحي الزعتر وفي السابع من يناير... توقفت عقارب الساعة عند العاشرة صباحا... كان الكوخ يرتجف من هول المفاجأة التي تنتظر سكانه... أخيرا تقيأت مريم مافي بطنها وياليتها مافعلت!!!! كانت هذه الأخيرة تعبر عن مايجول في خاطر قاسم(الأب)... والخيبة والحزن باديان على قسمات وجهه... وكأن القدر وعده بصبي فأخلف وعده... بعد صمت رهيب، يشبه الهدوء ماقبل العاصفة... صعدت روح مريم للأعلى... دوى صوت فاطمة ولأول مرة خارج رحم أمها... وتصاعدت أنفاسها حاملة للعالم الخارجي لغة التمرد ومنهج التحدي... حملت الأم الكبرى(الجدة) فاطمة بين ذراعاها ولسان حالها:أعلى نفسك جنيت ياابنتي أم جنت عليك الحياة!!!! كان قاسم في تلك اللحظة يشتاط غضبا، ويموت كمدا، ويعاتب قدره بصمت مخيف... بعد لحظات غادر المكان معلنا الهجران!!!! تزوج أخرى!!!! ربت الأم الكبرى فاطمة علمتها: معنى الأمل رغم الجراح... مبدأ أن تثور على كل ماقد يكبل طاقاتها... يحرمها من نشوة الطموح والسير في طريق مفروش بالأشواك... علمتها أن تكون متماسكة كالجبل لاتهدها الظروف ولاتغيرات البشر... لاصروف الدهر ولاصفعات الحياة... لكن نسيت أن تخبرها أن والدها على قيد الحياة!!!! وتمر السنين... وبعد ثمانية عشر عاما... عمر بكامله تهتز له الجبال!!!! طرق الفرح حياة فاطمة الطامحة... كانت شاشة التلفاز الهرم ابن التسعة عشر عاما تصارع الشيخوخة وهي تعرض خبر حلولها الأولى في شعبة العلوم في الباكلوريا... كانت تجاعيد وجه الأم الكبرى تشع نورا، أما فاطمة فكانت تخطط لما بعد الباكلوريا... تحصل على منحة دراسية لتونس وتقرر أخذ الجدة معها... لكن إرادة الله سبقت موعد السفر؟!!! إنه الموت عاد مجددا ليسرق منها أغلى ماتملك... كان آخر مانطقت به الأم الكبرى قبل الشهادتين:والدك على قيد الحياة يا فاطمة!!!
وتركتها وحيدة تصارع الحياة!!! نعم!!! إنها حربها، وهذا طريقها!!!! وقد قررت اقتحام ميدان التحدي!!! سافرت فاطمة، تاركة خلفها ترابا تحتضن أمها وجدتها... ووطنا يفترشه أبوها... وتمر السنين!!!! الممرضة:دكتورة انخفض ضغط المريض في الغرفة رقم 5!!! الدكتورة:نادي على الطاقم الطبي!!! أحضري الأدوات، مادام هناك نبض فهناك حياة... بعد ساعتان... تخرج الدكتورة وهي تبتسم... نجحت العملية... نعم يافاطمة مادام هناك نبض... فلاشك هناك حياة... في كل ليلة وقبل أن يغازل النوم عيناها تتذكر تلك الكلمات: أبوك على قيد الحياة يا فاطمة!!! حزمت حقائبها معلنة العودة... والبحث عن ذلك الأب الأناني!!! ه عادت محملة بشوق وحزن دفين!!!! عادت لتلملم ماتبقى من شتاتها القديم... رأت ملامح حيها مختلفة تماما عن ماعهدته... تذكرت سنين المعاناة وتذكرت منزلها العتيق... لقد أتت عليه جرافات الزمن... أجل لقد خان الوعد... حتى عيون المارة تغيرت... حتى نظرات مجتمعها التي تحمل نوعا من الإحتقار التي كانت مصوبة نحوها سهاما تخترق عمق القلب وتوقظ الجرح الذي مااندمل يوما... وهي تحمل دفاترها محلية الصنع!!! نعم!!! هي من صنعتها من علبة الكرتون... تلك النظرة تغيرت!!! نسيت أنها حتى هي تغيرت!!! صاروا يرونها زهرة عصرها ووردة زمانها وهي التي وزعوا عليها نظرات الإحتقار 18 عاما... في يوم ميلادها وفي السابع من يناير!!! قررت أن تهديه لمرضاها!!! ذاك الشيخ الذي اجهده المرض الذي يرقد في الغرفة 27 من الطابق الثاني... كان يشبهها إلى حد كبير!!! حتى أنه بقسمات وجهه حزن ينتمي لحزنها... لماذا تحسه كذلك!!! أخذها الفضول لمعرفة الإسم!!! نظرت في أوراقه!!! بعد برهة.. أفاقت على نفسها وهي بغرفة أخرى تتلقى العلاج!!! لقد أغمي عليها من هول مارأت... صاحت:إنه أبي... إنه أبي!!! هرولت مسرعة للغرفة وجدت قلبه ينبض ببخل!!! صارت تلعن سنين عمرها كلها التي أمضتها في دراسة الطب وهي عاجزة عن انقاذ أبيها... لكنها تذكرت مقولتها تلك:مادام هنالك نبض... فهنالك حياة بالتأكيد... همست في أذنه:أنا هنا يا أبتاه!!! هذه المرة ليس مريضا عاديا إنه كل ماتبقى لفاطمة بالحياة!!! إنها حرب جديدة عليها أن تخوضها بأمل كعادتها!!! وهناك من غرفة العمليات تطل فاطمة بإبتسامة عريضة تختزل كل معاني الفرح... نجحت العملية!!! بعد ست ساعات أفاق قاسم وبجانبه زوجته... أما فاطمة فكانت شاردة الذهن في زاوية من الغرفة... قالت الزوجة:دكتورة لقد أفاق... أفاق... اقتربت ورجلاها ترتجفان وقالت بصوت حزين يضم بين حنايا حروفه شوقا دفينا من ولادتها وحتى يومها هذا:أبتاه.. قالها الأب أخيرا والفخر باد على محياه: ابنتي... ابنتي... قصة قصيرة بعنوان:عودة الروح.
أم الفضل منت مامينه