
د. محمد عمر غرس الله
باحث أكاديمي، ودبلوماسي ليبي سابق – طرابلس ليبيا
بدعوة من "المعهد الموريتاني للدراسات الإستراتيجية"، زرت إنواكشوط للمشاركة في ندوة حول الدفع بأليات تنشيط إتحاد المغرب العربي، والتي كانت فرصة ثمينة للإلتقاء بشخصيات ونُخب مغاربية معتبرة من بلدان المغرب العربي الخمسة، وأيضاً كانت فرصة للإلتقاء ببعض إخوتي في إنواكشوط من الشخصيات الموريتانية الوازنة والمعتبرة، كفاءات مقتدرة من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية والدبلوماسية، والذين تعج بهم موريتانيا، فبلاد شنقيط منجم حقيقي لكفاءات الثقافة العربية في كل المجالات.
جئت إنواكشوط بعد غياب عشر سنوات، وقد كنت عملت فيها لما يقارب من سنتين ونصف مستشاراً ثقافيا بمكتب الأُخوة العربي الليبي 2007 – 2009م، وعدت لها في 2014م في زيارة خاصة، كانت فرصة ثمينة لإلقاء محاضرة في المركز العربي الإفريقي حول "نقد مسيرة التيار القومي على ضوء التحديات التي يواجهها المغرب العربي وصحرائه الكبرى"، في زيارتي بين 23 – 28 نوفمبر 2025م، وجدت إنواكشوط قد تطورت بشكل لافت، وإنتقلت لعصر جديد من العمران والتخطيط والإنجاز الحثيث، حيث تأثثت المدينة بالمباني الجديدة الجميلة والعصرية، وتطورت البنية التحتية لمؤسسات الدولة، بدء من المطار الجديد، والمركب الجامعي لجامعة إنواكشوط الذي يعد نقلة نوعية كبرى في عصرنة التعليم العالي وتحديثه، بمكتبتها التي تعج بألاف الكتب والمراجع، وظهرت في المدينة الطرق الحديثة، ويبدو واضحاً تطور المستوى المعيشي للسكان، في ظهور المتاجر الحديثة، وتغير ملحوظ في نوع وماركات السيارات التي تراها في الطرقات والشوارع، والفنادق الحديثة، وظهرت في المدينة حافلات النقل العام الحديثة، وبرزت المدينة بتخطيط الشوارع الواسعة بمحافظة على جمال الرصيف وإتساعه، وهو ما يشير إلى تطور إقتصادي وتنموي كبير إنتقلت فيه العاصمة إنواكشوط – وهي التجمع السكاني الأكبر في الجمهورية الموريتانية – إلى عصر جديد من التطور والتحديث الكبير والواسع، والذي يشير إلى حسن الإدارة السياسية، ومنظومة الإدارة البلدية، ويشير إلى وضوح رؤية التطوير والتحديث التي إعتمدتها الدولة الموريتانية بتعاقب رؤسائها، وتسير بها بشكل ملفت ومبهر للغاية.
إن من يعرف الكفاءات الموريتانية في السياسية والإدارة، وأيضا في الحكم، يعرف كيف ولماذا تطورت موريتانيا بشكل قياسي في فترة زمنية قصيرة، فالدولة الموريتانية – بتنوع قيادتها السياسية وتعاقبها – تعتمد سياسة محسوبة، تعرف إمكانيات البلاد، وتستثمرها بأفضل طريقة ممكنة ولأحسن حال، ورغم ما نراه من نقد طبيعي للحكومات المتعاقبة في موريتانيا، فإن المحصلة الموريتانية مبهرة ولافتة، وتستحق منا الإشادة الموضوعية، في القدرة والتمكن من تطوير البلاد ونقلها من مرحلة لمرحلة أفضل، تبارك الله، ما شاء الله.
أن ما يميز السياسة والسياسي الموريتاني، إنها قادمة من الشخصية الموريتانية بتنوع خواصها وسماتها الغنية جداً بالمهارة والتمكن وحسن التدبير، حتى جعلت منها صورة رائعة وقوية، غنية بالمهارات اللازمة للعمل ثقافة وذكاء ودماثة خلق الشخصية، والتي أهمها الهدؤ والرصانة والقدرة على الرؤية الثاقبة، وحسن إختيار الكلمات والألفاظ والخطاب، حيث تخلو العامية الموريتانية من السوقية والبذائة حتى في الخصومة، وتحمل الكثير من الإحترام والتوقير حتى لخصومها، فقد حبا الله هذه البلاد بحلاوة اللسان والترحاب والفاظ الود في تعابير المجتمع، والتي يستقبلونك بها، ويخاطبون بها بعضهم البعض، مهما كان الإختلاف أو تنوع الأراء السياسية والفكرية، ومن هذا جاءت في العمل السياسي طبيعة الهدوء الكبير والرصانة، وإنعكس على أداء الحكومات سوى في الشأن السياسي الداخلي، أو في العلاقات بالجوار والإقليم، وفي العالم، حيث يشكل "التريث والهدوء السياسي" الموريتاني خاصية ذهبية في السلوك السياسي للدولة بتنوع وتعدد قياداتها في مراحلها وحقبها، وهذا قادم من طبيعة الشخصية الموريتانية وسماتها، وصار سمة من سمات التفاعل السياسي الموريتاني مع الأحداث في المنطقة والإقليم. وهو ما مكن موريتانيا من تنفيذ سياسات رصينة وواثقة غير إنفعالية، فالمحيط الموريتاني في الساحل الإفريقي يعاني من تمكن الجماعات المسلحة التي تسوح في فضاء الساحل وتخترق الحدود، وفي هذا حافظت موريتانيا على صرامة المراقبة وممارسة الحماية الوطنية للحدود وضبطها، بلا ضجيج، وبصرامة عالية، وضبط من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية الموريتانية.
وفي هذا فإن موريتانيا - في فضائها العربي المغاربي - تُعد أيقونة ومؤهلة بفاعلية إدارتها السياسية ومثقفيها وسياسييها، حيث يمكن لها دفع قاطرة "إتحاد المغرب العربي" لزيادة التنسيق وتفعيل العمل معاً، وتحفيزه لإنجاز أكثر وأوسع خطوات في إطار التكامل المغاربي، وهو ما بادر به بتميز عالي "المعهد الموريتاني للدراسات الإستراتيجية"، ونجح في إطلاق "بيان إنواكشوط" التاريخي 28 نوفمبر 2025م، موجهاً للرأي العام المغاربي، ومؤسسات العمل السياسي والنقابي والمهني والأكاديمي والإعلامي، والفاعلين المنطقة، لإستعجال التصدي للتحديات، للحيلولة دون تهميش بالغ الخطورة للمنطقة دولاً وشعوباً، حيث دعى البيان كل الفاعلين المغاربيين حكومات ونخب عالمة وأحزاباً سياسية ونساء وشباب ورجال أعمال ونقابات وجميع منظمات المجتمع المدني، إلى إستنهاض الضمير المغاربي وإستحضار المشتركات في الدول الخمس، نصرة لحلم الملايين في الوحدة والتكامل، الذي لن يأتي إلا بتضافر قوى وجهود الجميع، لتحقيق التكامل والتعاون والإندماج، وفي هذا فوض الحاضرون من دول المغرب العربي الخمس، "المعهد الموريتاني للدراسات الإستراتيجية" لتسلم المساهمات الفكرية فيما تضمنه البيان، وترتيب الخطوات التالية في هذا الإطار.
أن موريتانيا الدولة بكوادرها المتمكنة والواعية، تتميز بقدرة فائقة في إدارة "حارس بنية الدولة" (المؤسسة العسكرية) المنضبطة، التي مكنت مؤسسات الدولة من الثبات والبقاء والعمل بشكل مريح، حتى إثناء حدوث التغيير السياسي، الذي يحصل أحياناً في قيادة البلاد في بعض من المرات، والأهم في التعامل مع المحيط والجوار وما يطراء فيه من مشاكل وإنفلات، فبقدرات ذاتية محسوبة الخطوات تخلصت موريتانيا بهدؤ وبعيداً عن الضجيج من أي أثار للعمليات الإرهابية التي بقت بعيد عنها، بفعل خطاب سياسي محسوب، ووعي فكري ديني ثاقب وواثق، إمتزجت فيه النباهة السياسية والعسكرية الموريتانية، وحققت للبلاد قدرة عالية على الإستقرار المدني والسياسي، وهو الذي وفر الأجواء لتحقيق تنمية وتطور ملحوظ نراه اليوم في موريتانيا.
لقد حققت موريتانيا توازناً ملحوظاً بين مصالحها وظروفها وبرامجها، والواقع المحلي والإقليمي، ونسجت في ذلك سجادتها السياسية المحفوظة والمصانة من الإنفلات، والقادرة في نفس الوقت على تحقيق الإنجاز، بكل الإمكانيات الممكنة والمتوفرة، والمستجيبة لتطورات العصر تدريجياً، ومتطلبات المجتمع النامي، ومهما بدا للناظر أن موريتانيا لازالت تحتاج لعمليات التطوير، أو مهما وجه البعض النقد السياسي للواقع الموريتاني، فهو طبيعي ولا يعيب الوضع العام في موريتانيا، بقدرة ما يعبر عن الرغبة في تطوير الأوضاع بشكل أفضل ومتزايد، وهو حق مشروع ومصان في واقع السياسة الموريتانية ومجتمعها، وهو محفوظ ومصان في إطار إستقرار الأوضاع والحفاظ على بنية الدولة عسكرياً وأمنياً، وليس على حسابها، حيث تحافظ المعزوفة السياسية الموريتانية - دائماً - على الخط الفاصل بين أحقية المطالب في تطوير الأوضاع، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وهو تعبير عن نباهة وقدرة عالية على ضبط الأوضاع الوطنية بما يخدم البلاد، بما لا يأخذها لنفق الفوضى، والفساد، والنزيف الداخلي كما حصل ويحصل في بلدان عربية وأفريقية أخرى.
إنها نظرة عامة للأوضاع الموريتانية في زيارة أربعة أيام، وقراءة شخصية مني كمتابع دائم ومحب لموريتانيا والموريتانيين، ومعجب بالتجربة السياسية الموريتانية، في الحفاظ على البلاد وحمايتها وصيانتها من الأخطار الجارفة، الأمر الذي يُنسب للكفاءات الموريتانية، أولها "حارس بُنية الدولة" المؤسسة العسكرية، والمؤسسة الأمنية، والمنظمات السياسية، والبنية الإجتماعية، وبجدارة النخب الفكرية والثقافية والسياسية في البلاد، والتي تزخر بالكفاءات العالية، القادرة على ضبط الإيقاع الوطني بما يخدم البلاد، ولا تنجر ولا تسمح له بأن ينزلق لهاوية تؤدي لتخريب وتخريد الدولة وفقدان وحدتها ومركزية قراراها.
حفظ الله موريتانيا، وزاد أهلنا من خيراته، والتحية الخالصة للمجمع الفكري والثقافي والسياسي الموريتاني المميز الواعي
الدكتور محمد غرس الله..كاتب ليبى
