
في زمنٍ أصبحَ فيه "الزَّغِيق" مُحتوىً، وتصدَّرَت التفاهةُ المشهدَ، يَتَجَلَّى أمامنا مشهدان متناقضان يُصوِّران حقيقةَ مجتمعنا وقِيَمَنا. في زاويةٍ، نجدُ صخبَ الشهرة الزائفةِ، وفي الزاوية الأخرى، يقفُ شامخاً بطلٌ قليلُ الكلامِ، عظيمُ الأثرِ. هنا، يتَّضحُ الفرقُ الشاسعُ بين الجوهرِ الذي يبني الأوطانَ والقشرةِ التي تُضيِّعُ الأزمانَ.
إنّ الحديث هنا عن محمد سي: أُسطورةُ النخبةِ وعِمادُ الصاعقةِ؛ الاسمُ الذي لا يَعرفهُ سوى صفوةُ العسكريين، ولكنّ أثرهُ يمتدُّ ليُغطِّي سماءَ الوطنِ بأكمله. هو الرجل القوي (l'homme fort)، وقوامُ العَمودِ الفقريِّ والذَّاكرةُ الحيَّةُ لقواتِ النخبةِ في الجيش الوطني، وتحديداً في الفيلقِ الأولِ للمظليينَ الصاعقةِ. لقد أضاءَ هذا البطلُ المِغْوارُ سماءَ خدمةِ الوطنِ لِـثلاثةٍ وأربعين عاماً! ثلاثةٌ وأربعونَ عاماً من البذلِ الصامتِ، من التضحيةِ والتدريبِ الذي يصنعُ صقوراً مُجَوِّلقة لا تعرفُ الهزيمةَ. هو ليس مشهوراً في وسائل التواصل، لكنه ذو شُهرةٍ واسعةٍ ومكانةٍ مُقدَّسةٍ في صفوفِ القواتِ الخاصةِ؛ فهو مُكَوِّنُ الأجيالِ، وصانعُ عِزِّ الجيشِ الوطنيِّ! هذا هو الإرثُ الحقيقيُّ: إرثُ رجلٍ أهدى عُمرَهُ لتطويرِ وحدةِ الصاعقةِ على مرِّ العقودِ، ليجعلها وحدةً ضاربةً، لا تهابُ الصِّعابَ، ولا تلينُ أمامَ التحدِّياتِ. قِيَمُهُ راسخةٌ، وتأثيرهُ عميقٌ، وبصمتُهُ خالدةٌ في سجلِّ الشرفِ العسكريِّ.
وفي المقابل، نجدُ ضجيجُ التفاهةِ: صَخَبٌ بلا صدىً ولا قيمة، حيث يقفُ التيكتوكرُ المشهورُ، الذي لا يملكُ سوى فقاعةٍ من الشهرةِ الزائلةِ، ومحتوىً لا يُضيفُ للوعيِ سوى الضَّبابِ، ولا للوطنِ سوى الفراغِ. إنه مُتصَدِّرُ المشهدِ بالصَّوتِ العالي الفارغِ، بينما بطلُنا يتوارى خلفَ إنجازاتهِ العظيمةِ الصامتةِ. شتَّانَ بينَ منْ يُقَدِّمُ قيمةً مُضافةً تحمي الأرضَ والعرضَ، وبينَ من يُقَدِّمُ الضَّجِيجَ والتسليةَ السطحيةَ! إنها لمفارقةٌ مُؤلمةٌ في عصرنا، حيثُ تُبجَّلُ المُهَرِّجُونَ، ويُغفَلُ المُضحِّي!
لذا، لا بُدَّ من نداءٌ بالوَفاءِ والتكريمِ: محمد سي يستحق. إنَّ محمد سي، وهو يُشَارِفُ على التقاعدِ، يستحقُّ منَّا أن نَرُدَّ لهُ الجَمِيلَ كاملاً غيرَ منقوصٍ. الوطنُ مدينٌ له! إنَّ أقلَّ ما يمكنُ أن نقدِّمَهُ لهُ ولأمثاله هو التكريمُ اللَّائِقُ والتَّوشِيحُ الوطنيُّ الذي يُخلِّدُ سيرتَهُ، ويضَعُهُ في مكانتهِ التي يستحقُّها كرمزٍ للعطاءِ والإخلاصِ والاحترافيةِ العسكريةِ. أَيُّها الموريتانيونَ الكرامُ: ابحثوا عن محمد سي، وتعرَّفوا على القيمةِ المُضافةِ الحقيقيةِ لوطننا. دعوا صوتَ الوَفَاءِ يعلو فوقَ ضجيجِ التفاهةِ، ولنجعلْ من قصتِهِ درساً في أنَّ العَظَمةَ لا تحتاجُ إلى الأضواءِ، فـهي تصنعُ مجدها في صمتِ الإنجازِ.
محمد علوش القلقمي
