
هذا العُنوانُ لا يُحيلُ فَقَط إلى ظاهِرَةٍ إعلاميَّةٍ أو سُلوكٍ اِجتِماعِيٍّ مُنْفَلِت، بَلْ إلى تَحَوُّلٍ حَضارِيٍّ يُعِيدُ تَشكِيلَ عَلاقتِنا بالمَعْنَى وَبالقِيمَةِ وَبالجِدِّيَّةِ وَبالنَّجاحِ ذاتِه.
لقد دَخَلَ العالَمُ عَصرًا لَم تَعُد فِيهِ التَّفاهَةُ مُجرَّدَ اِنحِرافٍ ثَقافِيٍّ، بَلْ أَصبَحَت مَنظومَةَ إِنتاجٍ وَقِيَمٍ وَتَموِيلٍ وَتَرفِيهٍ، تُصنَعُ وَتُسَوَّقُ وَتُفرَضُ بوصْفِها نَمَطًا طَبيعِيًّا لِلحُضورِ الاِجتِماعِيّ.
عَصرٌ تُختَصَرُ فيهِ الفِكرَةُ إلى صُورَة، وَالوَعْيُ إلى تَعليق، وَالنَّجاحُ إلى عَدَدِ مُشاهَدات، وَتَتَحَوَّلُ فيهِ الشُّهرَةُ إلى غايَةٍ بِذاتِها حَتّى لو خَلَت مِن مَضمُون.
التَّفاهَةُ كَمُنتَجٍ لا كَظاهِرَة
التَّفاهَةُ اليَومَ تُصنَعُ كَما تُصنَعُ السِّلَع: تُعبَّأ، تُصدَّر، تُسوَّق، وَتُفرَضُ عَبْرَ خَوارِزميّاتٍ وَمَنَصّاتٍ وَمُحتوًى مَبنيٍّ على الإثارَةِ لا على القِيمَة.
لم تَعُد سُلوكًا فَردِيًّا بَل صِناعَةً عالَمِيَّةً تَعتمِدُ على:
- تَهييجِ الغرائِزِ بَدَلَ بِنَاءِ الوعي
- تَحويلِ المُتَلَقِّي مِن مُواطِنٍ إلى مُستَهلِك
- تَهميشِ المُحتَوَى العَميقِ لِصالِحِ المُحتَوَى السَّريع
- اِحتِقارِ المعرِفَة لِصالِحِ الاِنفِعال.
التَّفاهَةُ كَسُلْطَةٍ وَمِعيار
الخَطَرُ لَيْسَ في اِنْتِشارِ السَّطحِيَّةِ فَقَط، بَلْ في تَحَوُّلِها إلى مِعيارٍ لِلنَّجاح.
حِينَ يُصبِحُ الصَّوتُ الأعلَى أَهَمَّ مِن الفِكرَةِ الأقوَى، وَتُصبِحُ المُشاهَداتُ أَهَمَّ مِن الحَقيقَة، نَدخُلُ مَرحَلَةَ الهَيْمَنَةِ الرَّقَمِيَّةِ لِلتَّفاهَةِ.
لِماذا تَنتَشِرُ التَّفاهَة؟
اِقتِصادُ الاِنتِباه: الرِّبْحُ يَتبَعُ عَدَدَ الثَّوانِي على الشَّاشَة لا قِيمَةَ المُحتوَى.
تَصَحُّرُ المَشروعِ الحَضارِيّ: حِينَ يَغيبُ الهَدَفُ يَسهُلُ إشغالُ النّاسِ بالفارِغ
غِيابُ القُدوَة: حِينَ تَتوارَى الشَّخصيّاتُ الجادَّةُ يَتَصَدَّرُ المَشهَدَ مَن يَملَأُ الفَراغ.
السِّياقُ المُوريتانِيّ :
لَسْنا استِثناءً مِن هذِهِ الظَّاهِرَة؛ فالفَضاءُ الرَّقمِيّ عِندَنا بَاتَ في كَثيرٍ مِن الأحيَانِ ساحَةً لِتَضخيمِ الذَّاتِ، وَتوليدِ خُصومَاتٍ وَهمِيَّة، وَتَصنِيعِ أبطالٍ افتراضيين عاجزين في الواقع.
شخصٌ يَشتَري هاتِفًا بِشِقِّ الأنفُس، ويُعانِي يَوْمِيًّا لِتَوفيرِ باقَةِ إِنترنت مُحدودَة… ثُمَّ يَغرقُ في فَضاءٍ افتراضيٍّ يَبني فيهِ صورةً مُتَضَخِّمَةً لِنَفسِه:
- مُحَلِّلٍ سِياسِيّ
- مُفتٍ وَفَقيه
- خبيرٍ اِجتِماعِي
- وقاضٍ، ومُدَّعٍ عامّ، وحاكِمٍ ومُستأنِفٍ في آنٍ واحد
- ناطقٍ باسم “الشَّعب” و“القَبيلَة” و“الدَّولة” و "الشريحه".
- يَسبُّ هذا، وَيَقذِفُ ذاك، و يمدح هذا، وَيُوزِّعُ صُكوكَ الوَطَنِيَّة، وَيُقسِّمُ النّاسَ بين “صالح” و“سيّئ”، وهو لا يُدرِكُ أنَّ كُلَّ تِلكَ البُطولَةِ الافتراضيّةِ هي تَعويضٌ نَفسيٌّ عن عَجزٍ واقِعِيٍّ عن الإِنتاجِ وَالبِناء.
مِنَ النَّقدِ إلى الفِعل (خُطَّةٌ عَمَلِيَّة شاملة):
1. صناعةُ مُحتوى يُنافِسُ لا يَشتَكِي
المُحتوى القَيِّمُ يَجِبُ أن يَكون جاذبًا، مُتقَنًا، مُختصرًا، ومُصمَّمًا لِيَربَح مُعركةَ الانتباهِ بِجَمالِه وإتقانه.
2. تَمويلُ الجَودَةِ وبِناءُ اقتصادٍ جَديد للمَعنى
المُحتوى الجَيِّدُ يَحتاجُ إلى سوقٍ وتمويلٍ، لا إلى نوايا حسنة فقط.
ويُمكن تَمويلُه مِن:
- منصّات اشتراكاتٍ رمزية
- رعايات رسميّة وخاصّة
- صناديق وطنية لدعم المعرفة
- تحفيز الشركات لإنتاج محتوى تثقيفي عبر CSR
3. إِعادَةُ الاِعتِبارِ للقُدوَات وَالرُّموز
من دون نَماذِج مُلهِمَة، يَملأ الفَراغَ رموزُ التفاهة.
الحلّ هو إعادة حضور العلماء والمصلحين ورجال الفكر والأدب عبر محتوى مُنتَج بإتقان.
4. تَحصينُ العَقلِ بالنَّقدِ وَالتَّحليل
لا يَكفي مَنعُ التَّفاهَة؛ بَل يَجبُ كَشفُ آليّاتِها وتَعليمُ الأجيالِ كيف تُصنَعُ وتُسوَّق.
“مِن يفهم الخوارزميات… لن يقعَ ضحيةً لِما تصنعه.”
5. منصّة مسابقات وطنية يومية.
إطلاقُ منصّة تفاعلية وطنية للمسابقات تُحفّز على المعرفة وتوفر دخلاً صغيرًا لكنه دائم:
مكوّنات المنصّة:
- طرح 100 سؤال يومي بسيط وقصير
- مواضيع: الدين – الثقافة – التاريخ – الأخلاق – التربية المدنية
- مراعاة أوقات الصلاة وأوقات الدراسة
- جوائز صغيرة يومية أو أسبوعية تشجّع التعلم
تمويل المنصّة:
- اشتراكات رمزية
- إعلانات محترمة
- تبرعات ودعم وطني ودولي
- صناديق CSR
- شخصيات معروفة بالصدقات والعمل الخيري
الأثر:
- تحويل التصفح إلى مصدر دخل
- نشر ثقافة المعرفة اليومية
- تحجيم المساحات التي تُصنّع التفاهة
6. مسابقات وطنية لصنّاع المحتوى الهادف
تنظيم مسابقات دوريّة لاختيار:
- أفضل صانع محتوى تربوي.
- أفضل صانع محتوى ديني
- أفضل صانع محتوى ثقافي
- أفضل شابة/شاب في المحتوى الهادف
- أفضل بودكاست، أفضل تعليق صوتي، أفضل قصة قصيرة مصوّرة
مع جوائز مُعتبرة وتغطية إعلامية واسعة ليكون الظهور للجادين… لا للضجيج.
7. مبادرات عملية إضافية
أ – منصة “مِضمار” للمعرفة السريعة
تطبيق يومي يقدم: 3 دقائق معرفة، 3 دقائق قيمة، 3 دقائق مهارة. مع نظام نقاط يتحوّل إلى جوائز.
ب – مدرسة المؤثرين الجادين
برنامج وطني يُدرّب الشباب على:
صناعة الفيديو – الإلقاء – كتابة المحتوى – الأخلاق الرقمية – إدارة الحوار.
ج – مرصد وطني للتفاهة الرقمية
مركز يُصدر تقارير دورية عن:
نوعية المحتوى – التأثيرات الاجتماعية – التوصيات الإصلاحية – خرائط انتشار التفاهة.
د – مبادرة “ساعة بلا شاشة”
حملة أسبوعية وطنية لتهذيب العلاقة مع التكنولوجيا.
هـ – صندوق المعنى
صندوق وطني لتمويل الإنتاج الهادف، بمساهمة: الدولة,الشركات، المصارف، رجال الأعمال، المؤسسات الثقافية.
الخاتمة
لَسْنا ضِدَّ الفرحِ ولا الترفيهِ ولا الخفّةِ الجميلة؛
بَل ضدّ عَولَمَةِ الفَراغ الَّتي تُحوِّل الإنسانَ إلى مُجرّد مُستَهلِكٍ، وبطلٍ افتراضيٍّ عاجزٍ واقعيًّا.
حين تُصبِحُ القِيمَةُ رائِجَة… وتَتَاحُ سُبُلُ المَعنى… تَتَراجَعُ التَّفاهَةُ بلا صِراع.
#العافيه اموكنه#
