
.
فعلى الصعيد الداخلي، كشفت زيارة الرئيس الغزواني وأكدت أن النظام كان في الحقيقة نظاماً قبلي غارقاً في المحسوبية والنهب. كانت خطابات الرئيس اعترافاً ضمنياً بأن نظامه منخورا من الداخل وعلى أعلى مستويات الهرم بما فيه من علل… وتحذيره لأقرب معاونيه كان إشارة قوية. والسؤال المطروح هو: هل كان ذلك مجرد لحظة أزمة نفسية وندم وجلد للذات أمام الشعب، في محاولة للتمايز وكسب راحة الضمير… أم هو بداية انقلاب حقيقي بزاوية 380 درجة ستتبعه إجراءات صارمة؟
وما يثير الشك هو أن الرجل انتظر السنة الثانية من ولايته الأخيرة ليتمرد على الوضع… أليس ذلك متأخراً قليلاً؟ بالنظر إلى الماضي البعيد والقريب وإلى تردده المتواصل في إطلاق معركة حقيقية ضد الفساد والنهب وسوء التسيير… فإن هذا الخطاب المفاجئ ضد القبلية قد لا يكون سوى جعجعة بلا طحن إن لم يتبع بالأفعال. وفي الوقت نفسه، أليس الغزواني بصدد الغرق في وضع كان هو نفسه قد أسهم في خلقه وتشجيعه منذ وصوله إلى السلطة عام 2019؟
ففي مواجهة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، استعمل الغزواني كل الوسائل المتاحة وفتح الأبواب على مصراعيها أمام التوافق، مقابل غض الطرف عن النهب، والقبلية، والمحسوبية، والعنصرية… باختصار، عن كل الانحرافات. لقد ترك معاونيه يتصرفون كما يشاؤون، يتحولون إلى نافذين اثرياء ، يحيط كل واحد منهم نفسه بحاشيته، يغتني على حساب الدولة، ويغني شبكاته العائلية والقبلية والاجتماعية، ويزرع أتباعه من صحفيين ومطبلين وضباط وشرطة وسياسيين… ورجال أعمال.
والسؤال الكبير هو: كيف سيتمكن من تفكيك كل هذا قبل 2029؟ وهل ستكون لديه الوسائل والوقت؟ وهل ستشعر “الدولة العميقة” بأن وجودها مهددا بما يكفي لمحاولة كبح جماحه وما يعتبره البعض ربما خيانة أو طعنة في الظهر؟
وعلى أي قوة سيتكئ الغزواني ليشرع في تحوله الحقيقي أو المتصنّع؟ إن ردود الفعل المرتبكة على خطابه في الحوض الشرقي، وتحذير الإسلاميين في تواصل من أي تلاعب بالدستور، والإشارة التي بعث بها بيرام بأنه ينظر بعين الرضا إلى نوايا الغزواني وقد يشارك في الحوار، وصمت الطبقة السياسية التقليدية التي تترقب مدخلاً للاندفاع نحوه… كلها تعبير عن مخاض إعادة تشكل الساحة السياسية، الذي لا يزال في بداياته.
شخصياً، أشك كثيراً في إمكانية عقد الحوار وسط هذا التشابك. وإذا قبل الغزواني رغم ذلك بالمضي فيه، فسيكون حينها ملزماً بأن يدفع مرة أخرى ثمناً باهظاً لتوافق جديد.
كل هذا يحدث في وقت تعيش فيه البلاد فقراً متفاقماً، وثراءً غير محدودا لعدد قليل من العائلات، وانهيار الأوقية، وتعميق الشرخ الاجتماعي، ومخاطر توترات عنيفة… وهجرة الشباب، وانهيار معنويات المجتمع، وانتشار المخدرات بين الشباب، وتدهور التعليم، وتدهور الحالة الصحية للسكان… وهذا هو الواقع اليومي للموريتانيين.
وهذا الوضع الداخلي لا يقل خطورة عن المجهولات التي تحيط ببيئتنا الإقليمية وتحت الإقليمية… فبعض السفارات تراقب ما يجري عندنا بدقة. غازنا وذهبنا ومعادننا النادرة وأورانيومنا… لا تترك الإمارات ولا فرنسا ولا الدول الأوروبية غير مبالية، كما أن موقعنا الجيوستراتيجي في قلب المغرب العربي والساحل يجعل بلادنا نقطة محورية في الصراعات العالمية الحالية وحركة السكان.
صحيح أن البركة قد رافقتنا إلى الآن ووقتنا من الأسوأ… لكن جميع العوامل متوفرة لدفعنا نحو ذلك الأسوأ بطريقة غير متوقعة. وليس غرور بعض المصفقين وأصحاب المديح هو ما ينبغي أن يمنعنا من البقاء متيقظين.
