أزمة التدوين وفوضى المنصات

منذ فترة ونحن نعمل، بقدرٍ عالٍ من المهنية، على تقييم المحتوى الذي يقدّمه عدد من المدونين عبر المنصات الرقمية. وقد قادتنا هذه المتابعة الموضوعية إلى خلاصة واضحة مفادها أن الساحة تعاني من طغيان محتويات تفتقر للشعبية الهادفة، وتعتمد على معلومات سطحية، ومعطيات غير موثوقة، تغيب عنها روح المسؤولية العلمية والمنهجية. وهو ما يعكس ضعفًا في التكوين المعرفي لدى بعض أصحاب هذه الصفحات، وانجرافًا وراء المزاجية والنرجسية على حساب القيمة والفكر.

وقد أدى هذا الخلل البنيوي إلى ظهور فئة من الصفحات “المنفوخة بالمتابعين”؛ جمهورها لا يبنى على جودة المحتوى بل على الإثارة المصطنعة: قصص مختلقة، أخبار بلا سند، مشاجرات مفتعلة، واستعراضات جوفاء لا تمت للتدوين بصلة. فبدل أن يكون التدوين منصة للتنوير، ومساحة لنشر الوعي، تحوّل — لدى البعض — إلى وسيلة لجذب الانتباه بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو تضليل الجمهور.

ومع مرور الوقت، حاول هؤلاء اقتحام مضمار النقاش السياسي، لكن محاولاتهم جاءت بعيدة عن روح النقاش السياسي الرصين، لكونها تفتقر إلى أبجديات التحليل، ولا ترتكز على فهمٍ حقيقي لآليات الشأن العام. فالمقابلات التي يقدمونها يغلب عليها الارتجال، وتطبعها السطحية، وتفتقر إلى الحد الأدنى من المهنية، مما جعل خطابهم أقرب إلى ضوضاء عابرة منه إلى رأي يستحق الإصغاء.

ومع تسارع الأحداث، بدأ الوعي المجتمعي يتشكل بشكل أوضح. فقد أدرك المواطن العادي — عبر التجربة — أن هذه الصفحات لم تعد مصدرًا للمعلومة، وأن أصحابها فقدوا القدرة على التأثير، بل أصبح كثير من الناس يتعامل مع هتافاتهم وتحليلاتهم الصبيانية بوصفها مادة للسخرية أكثر من كونها طرحًا جادًا.

إن هذا التحول يعكس حاجة المجتمع إلى مرجعية فكرية مستقرة؛ فبعد انقضاء موجة الانبهار اللحظي، يعود الجمهور إلى النخبة، وإلى أصحاب العلم والخبرة الذين يقدمون قراءة موضوعية تقوم على أسس منهجية ومنطقية. وهكذا يتأكد مرة بعد أخرى أن محتوى القيمة هو القادر على البقاء، وأن الضجيج — مهما علا — مصيره التلاشي.

د.محمدعالي الهاشمي