
لا جدال أن أي مسؤول مهما كان موضعه بحاجة إلى عون ومساعد ينفذ رؤيته التي رسمها من أجل النهوض بالتزاماته اتجاه الجهة التي منحته ثقة القيادة وأمدته بشرعية الإدارة.
يتأكد هذا الأمر ويتعزز حين يكون الأمر مرتبطا بمنصب رئيس الجمهورية الذي يعتبر صاحبه أعلى سلطة في البلد، ويتوقع بل يفترض أن تكون توجيهاته وتعليماته لديها من المحورية والأهمية ما يجعلها موضع تنفيذ فوري وتجسيد كلي.
إن المتتبع لما رود في كلمة رئيس الجمهورية أمام أطر وفاعلي مقاطعة انبيكت الأحواش من رفض لخطابات الشرائحية، والقبيلة ومنع استخدام النفوذ الوظيفي كوسيلة للاستغلال السياسي، يلحظ أنها تركت أثرا طيبا ولاقت قبولا حسنا لدى الطبقة الوسطى والطبقة الضعيفة من المجتمع .. لكنها قوبلت بتحفظات واسعة لدى النخبة، بكل أطيافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبدرجة أقل النخبة الثقافية، ولا يخرج هذا الإجماع سوى بيان خجول أصدره حزب الإنصاف زوال اليوم التالي للخطاب القيم.
لاحظوا كيف قل التفاعل وانعدام التداول خيم الصمت على مضمون ذلك الخطاب وكيف تم وأد أثره بل وحجبه سريعا عن دائرة التناول، وحينها ستدركون أن الأمر ليس صدفة بحال من الأحوال.
لم يكن هذا الأسلوب في التعامل مع توجيهات فخامة رئيس الجمهورية نشازا وحكرا على الموضوع أعلاه، بل إن المتتبع لما جرى ويجري في المشهد العام منذ أعلن فخامة رئيس الجمهورية حربه على الفساد في خرجاته المتعددة، يلحظ دون عناء كبير أن تناول ملف الحرب على الفساد غاب - أو غٌيب – عن ساحة التداول والتناول الموسع والشامل، سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي أو حتى الاجتماعي والثقافي، إذ أن تعليمات فخامة رئيس الجمهورية في ملف محاربة الفساد تم تناولها بشكل مؤقت وزخم ضعيف على وسائل الإعلام العمومية، ولم تمنح من الوقت والمساحة والنقاش والتداول ما يفترض أن يجده ملف بهذه الأهمية.
أما على الصعيد السياسي فإن الأحزاب السياسية غابت – في الغالب الأعم - عن مؤازرة هذا الخطاب ودعم هذا التوجه، اللهم إذا استثنينا بيانين اثنين، أحدهما صادر عن حزب الانصاف، والثاني عن حزب تواصل، وكلاهما لاحق لخطاب فخامة رئيس الجمهورية أمام خريجي المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء في قصر المؤتمرات، ولعل غياب الطبقة السياسية عن مواكبة رئيس الجمهورية في توجه بهذه الأمل أمر ملفت، إن لم يكن غريبا.
لم يقتصر غياب – أو تغييب- ملف محاربة الفساد على الشقين السياسي والإعلامي، بل إن المجال الاجتماعي والنقاش البيني خلا من أي تعميق بحث أو حوار أو جدل بشأن موضوع الفساد، والذي يفترض أن المجتمع هو المتضرر الأول من تبعاته.
أما على المستوى الثقافي فلم نسمع أو نشاهد ندوات فكرية أو ثقافية عن خطر الفساد على البنية الاجتماعية والثقافية، وعن الضرر البالغ الذي يمكن أن يلحقه الفساد بنمط التفكير والسلوك المجتمعي، ولا جدال أن للمثقف دورا يجب أن ينهض به في سبيل إنقاذ مجتمعه من الفساد عبر ما يمكنه من تنوير وإرشاد وتوضيح وتبيين.
غياب مؤازرة فخامة رئيس الجمهورية في ملفات بهذه الأهمية، من طرف أغلب النخب، يطرح عددا من علامات استفهام ويثير أكثر من علامة تعجب، لأن غيابا بهذا الحجم والشكل يحتاج إلى تبرير أو استقراء.
إن قراءة أولية غير فاحصة ولا متخصصة، تؤكد أن توجيهات فخامة رئيس الجمهورية بشأن ضرورة عدم السماح بتداول الخطاب الفئوي واستغلال النفوذ الوظيفي وعدم السماح بالفساد وضرورة التصدي له هي توجيهات تجب مؤازرتها ووضعها موضع ترحيب وعناية، كما تبرز أن تأخر النخبة عن تناول وتداول هذه التعليمات يكشف تعدد المتضررين منها وتغلغلهم في دهاليز الإدارة، و هو ما يدفع باتجاه تجميد أو تأجيل التعاطي مع هذه الملفات قدر المستطاع ، هذا إذا لم يمكن بالإمكان إزالتها من الأجندة الرسمية بطريقة أو بأخرى.
وهنا تبرز تساؤلات:
من المستفيد من غياب أو ضعف مؤازرة فخامة رئيس الجمهورية في ملف استغلال النفوذ وملف الحرب الفساد؟
وأي دور للنخبة السياسية والإعلامية والاجتماعية والثقافية في ملفات بهذه المكانة؟
ولمصلحة من يتم عدم التفاعل والتجاوب والتعاطي بإيجابية مع توجيهات فخامة رئيس الجمهورية في ملفات بهذه الأهمية؟
أسئلة تستحق أن تجد من يبحث لها عن جواب صريح يزيل اللبس ويكشف الغموض.
