
أصدر أخي وزميلي الكاتب المبدع عبد الله ولد محمدي خلال سنة 2025 كتابا بعنوان: (رحلة الحج على خطي الجد)، استعرض فيه وقائع و مشاهدات من الرحلة البحرية لجده الشيخ الجليل محمد فال بن باب العلوي نحو مصر والحجاز في عام 1889 ( أي قبل أزيد من 136 سنة من صدور هذا الكتاب) .
يقع هذا الكتاب في (240) صفحة من الحجم المتوسط ، ويجمع بين الفائدة و المتعة ، لما يحتويه من معلومات مهمة، و بأسلوب شيق و ممتع، وقد أبدع فيه الزميل عبد الله كعادته وخالف فيه التقليد ؛ حيث أن أدب الرحلات يكون الكاتب هو صاحب الرحلة ، و لكن هذه الرحلة لجده ، وهو يتخيلها مما جعله كأنه يعيشها ؛ فقد سلك نفس مسار رحلة جده ، وجمع المعلومات بشكل رصين وموثق ، وجمع المراجع المكتوبة، وتحدث مع أحفاد من التقوا بجده على طول هذه الطريق البحرية، ووقف في الأماكن التي مر بها جده و التقط الصور هناك.
ومن ابداعاتها فيها أنه لم يتبع الترتيب الزمني للرحلة ليشوق القارئ لاكتشاف بعض أسرارها المهمة ؛ فمثلا بدأ الجد رحلته من (اتويفجيرت ) الواقعة حاليا قرب قرية تنبيعلي في مقاطعة الركيز بالجنوب الموريتاني، بينما يبدأ الكتاب بوصول الجد إلى طنجة ، وينتهي الكتاب كذلك بالوصول إلى طنجة ؛ ذلك أن الكاتب أراد أن يبدأ الرحلة من حيث بدأ الجد كتابة يومياته عنها، من مدينة فاس المغربية التي وصلها عبر طنجة و الرباط في طريق عودته من الحج إلى بيت الله الحرام و زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ومع أن الشيخ محمد فال بن باب من أعظم شعراء جيله ، وله ديوان مطبوع ، فلم تحتوي هذه اليوميات من شعره إلا على القليل جدا ، وخاصة الأبيات المؤثرة التي يودع فيها المدينة المنورة، ويقول فيها :
مضيت مع الركبان لما تحملوا # وللقبة الخضراء قلبي جانح
وللصخرة الحمراء التي من غدا بها # يواجه أنوار الهدى ويصافح
وللوجه والليتين مني تلفت # وللقلب خفق والدموع سوافح
ولو كنت قدرت الهوى ثم قدره #
لسال بماء الشأن مني الأباطح
فليل به بتناه ليل مسرة #
ويوم لنا فيه ظللناه صالح
بنفسي ومالي لو شريت بوقفة # بذاك الحمى والعهد إنى لرابح
*اكتشاف اليوميات*
يعتبر الكاتب أن هذه اليوميات التي اكتشفها عمه وحفيد الجد و سميه (العلامة محمد فال (اباه) بن عبد الله ) ، الذي يعتبر اليوم من أبرز علماء موريتانيا هي: "هدية الجد التي أرسلها لي عبر الزمن ، وبقيت محروسة بين طيات الكتب المخطوطة التي تركها طيلة أزيد من قرن و ثلاثة عقود إلى أن وصلت إلي لتدلنى على الطريق".
ويقول الكاتب أن هذه الورقات التي كتبت بخط موريتاني مغربي أصيل تبدأ ب (اللهم صل وسلم على محمد و على آله .
يسلم الكاتب على جميع الإخوان في الله وفي النسب والله يقينا وإياهم من وعثاء السفر وكآبة المنقلب)
ويضيف: (أما بعد فاعلموا أننا بحمد الله في خير و عافية وفي نعم ضافية ، وقد دخلنا مدينة فاس في ثالث شهر ربيع الثاني و معنا رسائل سيدي العربي بن السائح إلى الإخوان ) .
يقول الكاتب عبد الله أن اكتشاف المخطوط الذي يحتوي هذه الرحلة بعد وفاة الجد بفترة طويلة كان مفاجنا وتم الا حتفاء به كأنما ولد في العائلة مولود جديد.
ويتساءل لماذا كتب الجد هذه الرحلة ؟ هل كتبها لي خصيصا أنا الحفيد لكي أعيد إحياءها عبر إعادة سردها ؟ أم كتبها لشيخه أحمد بدي الذي كان ينوي التوجه إلى الحج قبل وفاته ؟ وهل أطلعه عليها ؟ وهل كانت مجرد مسودة لمشروع أكبر يترجم فيه للعلماء الذين لقيهم في طريقه ؟ هل كتب رحلته كاملة و ضاعت أم كتبها ولم يكملها ؟!
عبر(44) عنوانا سرد الكاتب هذه الرحلة من عنوانه الاول: (عبر البحر نحو طنجة ) إلى عنوانه الآخير (تحليق النوارس ).
*رحلة متعبة لغاية عظمى*
يقول الكاتب أن هذه الرحلة التي قام بها الشيخ الجليل محمد فال بن باب ، و العارف بالله محمد الكبير بن العباس ، و الأديب الشاعر محمد الحسن بن المين ، كانت رحلة متعبة استغرقت شهورا من العناء و لاقى أصحابها كثيرا من المحن لكنها محن لاتساوي شيئا أمام ما أحسوا به من هدوء نفس و طمأنينة وراحة بال بعد أداء فريضة الحج وزيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
انطلق الركب المبارك من عقلة (اتويفجيرت) ، التي تعتبر من أعرق منازل العلويين في أرض العقل في الجنوب الموريتاني ، و الواقعة على بعد عدة أميال من قرية تنبيعلي التي كان لها السبق في التقري بالمنطقة ، و مقبرتها التي تسمى (ببقيع الكبله) ، لما دفن فيها من أجلاء العلماء و الأولياء، ومنهم والد صاحب الرحلة العلامة باب بن أحمد بيب (المتوفى سنة 1885م )، و العلامة سيدي ولد احمدان (المتوفى سنة 1230هجرية )، و الشيخ الكبير سيدي مولود فال اليعقوبي (المتوفى في سنة 1267 هجرية ) ،و العبد الصالح المختار بن ببانا (المتوفى سنة..1299 هجرية . ) ، و الزعيم الوطني احمدو ولد حرمه ولد ببانا (المتوفى سنة 1979م ).
كانت الانطلاقة فجر الرابع من يونيو 1889م(5 شوال 1306 هجرية )، وكانت المحطة الأولي هي البتراء (التاكلالت)، موطن الفاضليين الديمانيين الذين سيكونون لاحقا من أحباب صاحب الرحلة ، و الذين انتشرت الطريقة التجانية فيهم على يديه . وقد ورد ذكر البتراء في كثير من أشعاره .
و اتجه الركب إلى مدينة اندر ، التي تبعد حوالي (480) كلم من اتويفجيرت، و الواقعة عند ملتقى البحرين ( المحيط الأطلسي ونهر السنغال)، وهي المعروفة حاليا بمدينة(سينلوى) ، وقد تأسست في منتصف القرن السابع عشر على يد مجموعة من البحارة الفرنسيين و أطلقوا عليها اسم قديسهم لويس. و كان عدد سكانها يومئذ يناهز عشرين ألفا.
و اختار الوفد ركوب القطار أو "سفينة البر"، و تركوا الجمال هناك. وكان خط السكة الحديدية قد اكتمل قبل ذلك بأربع سنوات .
وركبوا القطار لأول مرة في حياتهم يوم السابع من شوال 1306هجرية ليقطعوا المسافة بين اندر و دكار البالغة(180) كلم من الصباح الباكر إلى وقت الغروب.
وفي محطة القطار بدكار استقبلهم رجلان مغربيان أرسلهما لهم السيد الحاج أحمد أخو ناظر الزاوية التجانية بفاس الذي التقوا به في اندر.
قضوا أربع ليال في دكار وسط مايليق من تكريم و عناية .
ولأول مرة ركبوا البحر على متن سفينة عملاقة تسمى "السنغال" متجهين إلى مرسيليا مرورا بمحاذاة جزر الخالدات، وتعرضوا ثلاثتهم ل"دوار البحر" مدة ثلاثة أيام متتالية ،
وفي اليوم الخامس بدت جزيرة تينيريفي ، و هي إحدى جزر الخالدات ، بعد أن خف عليهم ماعانوا من دوار البحر، حينها مازح الشيخ محمد فال بن باب صديقه ورفيقه محمد الكبير بن العباس مذكرا إياه ببلدة إقامته التي تحتضنها جبال مشابهة في صحراء آدرار :
أقول وقد لاحت كنار جبالها # وأرسى بها البابور صبحا و أوجفا
ألا هل رأى الخل الكبير كهذه #
إلى جانب الزرقاء أو جنب أوجفا
بعد مكوث قصير في تينيريفي اتجهت السفينة إلى محاذاة ميناء طنجة ،ومنها إلى مارسيليا التي نزلوا فيها يبحثون عن سفينة متجهة إلى الإسكندرية ، حيث وجدوها في نفس اليوم .
وقد خلد الشيخ الجليل محمد فال بن باب عشرة أيام من ركوب البحر بأبيات يبدؤها بقوله:
أقول إذ ضم سطح الفلك جملتنا# باسم المهيمن مجراه مرساه
إلى أن يقول :
وفى الأحبة من كان يعجبه #
أن لا نجوز مدى الأيام مرآه
فليحزن إن كان لطف الله خص بمنة # بين الأحبة والأهلين مثواه
إن الذي رد موسى سوف يرجعنا# حتى تقر بعيد العود عيناه
قطعت السفينة بين مرسيليا والإسكندرية خمسة أيام كانت ممتعة، بفضل صعيدي وجدوه وصارت بينهم معه ألفة و مودة ، لأنه وجدهم يحفظون قصيدة البردة التي نظمها البوصيري في مدح سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وصلوا الاسكندرية يوم 27 من شوال سنة 1306هجرية الموافق 26 من يونيو 1889م وبقوا فيها إلى يوم 17 ذي القعدة 1306ه المواقف 15 يوليو 1889م ،حيث مكثوا فيها ( 19 ) يوما ، تمت معاملتهم فيها بلطف وكرم ونبل، وقاموا فيها بنشاطات علمية وربطوا فيها علاقات و دية مع سكان هذه المدينة العريقة التي تأسست سنة 331 قبل الميلاد .
من الإسكندرية اتجهوا إلى السويس عبر القطار، و يقال إنه إذا كانت "مصر هبة النيل" فإن "مدينة السويس هبة القناة" أي قناة السويس التي افتتحت في سنة 1869م واصبحت محط رحال سفن العالم .
قضى الوفد في مدينة السويس ثلاث ليال وليلتين في مينائها.
وفي اليوم الثالث من الإبحار من مدينة السويس وصلت الباخرة التي تقلهم إلى ميناء مدينة ينبع، ويطلق عليها "ينبع البحر" تمييزا لها عن "ينبع النخيل" التى تبعد عنها (52)كلم شرقا.
وينبع ، التي هي إحدى محافظات المدينة المنورة ، ارتبطت بأحداث كثيرة في التاريخ الإسلامي من أشهرها غزوة بواط ، ثاني غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
على الرغم مما كان يتعرض له الحجاج في تلك الفترة من محن، حينما يصلون إلى مقربة من جدة مثل ما يعرف بالحجر الصحي، و ابتزاز المراكب الشراعية ، والجمارك ، ودفع ( البقشيش) ، على الرغم من ذلك فإن الشيخ الجليل محمد فال بن باب ورفيقاه أكملوا إجراءاتهم بسرعة و اتجهوا إلى بيت السيد أحمد المشاط الذي كانوا يحملون إليه رسالة من صديقهم محمد أحيد بن سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي ، ولكنهم تفاجأوا بانه توفي قبل أربع سنوات ،وحينما هموا بالمغادرة أصر إبنه طاهر على بقائهم معه بعد أن علم أنهم كانوا يحملون رسالة لوالده.
و تعود جذور هذه الأسرة إلى مدينة فاس بالمغرب ، وقد اشتهرت بالمروءة و العلم و الصلاح .
وأقام معه الوفد إقامة مريحة و كانوا محل تبجيل و إكرام ، وهو ما عبر عنه صاحب الرحلة في تورية جميلة و جناس بديع :
لئن كان موت الشيخ احمد ذي الندى#
وتم صعيد للميمم طاهر
فلا يخشين وراد حوض نواله # مغيض أتى الجود مادام (طاهر)
*أداء المناسك وما يكتنفه*
من جدة انتقل الوفد إلى مكة المكرمة عبر القوافل التي تنتقل من جدة حسب نظام محدد ووقت معلوم تشرف عليه السلطات الإدارية الحاكمة التى يتقاسمها الأتراك مع شريف مكة ، وهو نظام ظل سائدا لمئات السنين. كانت الانطلاقة قبل غروب الشمس لأن بوابات جدة تغلق قبل الليل احتراسا من غارات البدو الذين يخيمون خارج جدة ، يتحينون الفرصة للإغارة عليها ليلا قصد النهب والسرقة .
وعلى الرغم من المخاطر الأمنية التي تكتنف سفر الحجاج ليلا ، حيث يكونون عرضة لهجمات اللصوص واعتداءاتهم ، إلا أنهم كانوا يفضلون السفر ليلا بدل السفر نهارا ، إدراكا منهم أن التعرض لضربات سيوف اللصوص أهون شأنا و أقل خطرا من التعرض لضربات الشمس، فهذه تهدد حياتهم و تلك تهدد أموالهم.
كان السفر على الجمال بإيجار ( شقدف) ناقة يتقاسمه شخصان ، والشقدف حسب ما يصفوه يشبه "الهودج" أو "الجحفة" التي كانت مستعملة في موريتانيا، وهو يحمي من أشعة الشمس، و تمكن الاستراحة فيه .
وقد أنشأ الشيخ الجليل محمد فال بن باب واصفا الرحلة :
من جدة خرج الحجيج بمغرب # مضوا إلى أن جاوزوا وقت الضحي
نزلوا وساروا مقصرا و تبوؤوا #
أم القرى حيث المؤذن صبحا
و الليل صيف و المطي مثقل# متوانيا متهاديا لن يبرحا
عندما اقتربوا من مكة اعترضهم الجنود الأتراك للتأكد من خلو القافلة من الكفار المتسللين ، وعلى بعد امتار اعترضهم جنود الشريف عون الذين أرسلهم مع المطوفين لجباية الضرائب من الحجاج.
دخلوا مكة عن طريق" الحجون" ، ومروا بأقدم مقبرة مأهولة في العالم وهي مقبرة ( المعلاة) التي دفنت فيها أم المؤمنين خديجة منت خويلد ، ووالدة النبي صلي الله عليه وسلم آمنة بنت وهب .
دخلوا المسجد الحرام من باب السلام، بعد أن أمنوا امتعتهم عند أحد( الأغوات)، وشرعوا في طواف القدوم، وسط إزدحام شديد في تلك السنة، حيث ناهز عدد الحجاج اربعمائة ألف حاج، وثم توجهوا إلى بئر زمزم، ثم السعي بين الصفا و المروة، وكان شارع المسعى من أشد الأماكن ازدحاما بسبب التجار الذين يعرضون بضاعتهم عليه.
أمضوا في المسجد الحرام خمسة أيام إلى ستة وكانوا يستظلون برواقه نهارا اتقاء حر الشمس و يخرجون إلى صحنه ليلا بعد غروب الشمس، و يطوفون بالكعبة بكرة وعشيا، و يحمدون الله على نعمائه، و يذكرونه، ويدعونه بأسمائه الحسنى و صفاته العلى أن يعينهم على أداء المناسك ويتقبل منهم .
وصادف يوم التروبة ذلك العام يوم الاثنين 8 ذي الحجة 1306 هجرية الموافق 5 أغسطس 1889م ، ولم تكن الطريق من مكة إلى منى تزيد على خمسة أميال إلا أنها في ذلك اليوم كانت مزدحمة ازدحاما شديدا حيث كان كل أهل مكة يخرجون إليها لحضور المراسم الاحتفالية تحت إشراف شريف مكة ، وكانت الأيام في ذروة الحر، مع حمارة الصيف إبان طلوع منزلة الذراع ، حيث ترتفع الحرارة إلى درجة الخمسين في الظل.
باتوا في مسجد الخيف بمنى رغم ما كان ينتاب الحجاج من خوف المبيت فيه بسبب اللصوص الذين كانوا يحومون حول المسجد ويتحينون الفرص للإنقضاض على الحجاج وسلبهم ما يملكون..
وفي الصباح توجهوا إلى عرفة ومكثوا في مسجد نمرة شطرا من النهار وصلوا فيه الظهر و العصر جمع تقديم ، و في المساء توجهوا إلى جبل الرحمة يتحرون مكان الصخرات التي وقف عليها النبي صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع، هذا مع أن عرفة كلها موقف.
وحينما حان وقت الإفاضة إلى المشعر الحرام توجهوا إلى المزدلفة حيث صلوا المغرب و العشاء جمع تأخير، التقطوا الحجارة التي سيرمون بها، وعند الفجر اتجهوا الى منى و قاموا برمي جمرة العقبة، لكنهم ، و عدد من الحجاج، ارتابوا في صحة رؤية الهلال، و احتاطوا
لذلك ؛ حيث عادوا أدراجهم ، بعد ما رموا جمرة العقبة إلى عرفة، ووقفوا فيها يوما كاملا، مع عدد كبير من الحجاج، وكان أقل زحمة من اليوم السابق إلا أن الأعراب كانوا يحومون حول الحجاج مثلما يحوم الصياد حول طريدته، ولم يكونوا يرون فى سلب الحجاج وحتى قتلهم عارا ولا شنارا وقد توارثوا كابرا عن كابر، مثلا يقول:(الحجاج رزق ساقه الله لنا أما رزق الحجاج فعلى الله) .
كان الوضع الصحي مخيفا بسبب احتمال انتشار الأوبئة، وقد فرح الحجاج حينما علموا خلو موسم الحج من وباءي الطاعون والكوليرا، وهما الوباءان الأكثر فتكا بين صفوف الحجاج، وعلى الرغم من ذلك فقد أصيب الحجاج بأمراض ناتجة عن الإجهاد البدني والقيظ الشديد وعفونة الهواء وتلوث الماء، وتعجلوا من منى التي تحولت إلى مسلخ كبير، وبقوا طريحي الفراش مدة ايام في مكة، و حينما تحسن وضعهم الصحي بادروا إلى القيام بطواف الإفاضة وأداء العمرة وبادروا بالالتحاق بقوافل الحجاج المتجهة إلى المدينة المنورة .
*في زيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم*
كانت الطريق من مكة إلى المدينة المنورة، في تلك الفترة ، من أكثر محطات الحج صعوبة وأكثرها خطورة، وأول صعوبة هي الحصول على الجمال و التعامل مع المقومين الذين يصفهم الجد بأنهم ( لادين لهم ولا مروءة) لأنهم ( كلما عقدت معهم عقدا حلوه، والأكثر منهم لايرضى إلا بأخذ الكراء نقدا، مع أن كثيرا منهم يهرب بالجمال ليلا).
وقد وصل حجاجنا إلى المدينة المنورة يوم الثاني من شهر المحرم سنة 1307ه الموافق يوم الأربعاء 28 أغسطس سنة 1889م، ودخلوا من باب السلام وهم يرددون السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم و سلطانه القديم ، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيئين ، السلام عليك وعلى آلك وأصحابك وآل بيتك وعلى النبئين وسائر الصالحين).
وفي المسجد يكررون (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك) ولم ينقطعوا عن ذكر الله و الدعاء.
يقدر عدد سكان المدينة المنورة في تلك الفترة بحوالي ثلاثين ألف نسمة ويتكون هؤلاء من أقلية من الأنصار أصليين وأكثرية من المهاجرين وافدين ، وهم يوصفون في الكتابات التاريخية بأنهم قوم أرقاء ظرفاء ، يحبون من هاجر إليهم ، ويتسمون بالرزانة و الهدوء، وتعاملهم مع الغرباء أكثر رقيا واحتراما من تعامل المكيين، وهم ودودون بشوشون جدا، ومضيافون، ومستعدون دائما لمد يد العون عند الاقتضاء .
والمدينة المنورة يصفها الكتاب في تلك الفترة بأنها إحدى المدن الرائعة في العالم ، وكانت بلغتنا اليوم (مدينة خضراء) تنتشر في جميع حاراتها المروج والرياض و البساتين ساعدها على ذلك ما حباها الله من منابع المياه العذبة.
وذكر الشيخ الجليل محمد فال بن باب أنه تعرف خلال إقامته بالمدينة المنورة على السيد/ عبد الجليل براده، وهو أحد علماء المدينة المنورة، وكان شاعرا وأديبا و لغويا ماهرا، وله ندوة أسبوعية تقام كل ثلاثاء في بستانه، وقد تعرف الشيخ في مجلس براده على عدد من الأدباء.
وقد حدث الشيخ عبد الجليل برادة الشيخ محمد فال عن لقائه بأخيه الناظم التجاني بن باب ، منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر، وكان براده حينها شابا يطلب العلم. وقد استفاد من الناظم استفادة كبيرة. وقد أنشده بعض أشعاره. و أطلعه على بعض أخباره وزواجه بإحدى بنات أهل المدينة، واأنه توفي في يوم واحد هو وصديق له اسمه المختار ، ودفنا بالبقيع الطاهر.
وكانت تلك هي أول اخبار يسمعها الجد عن أخيه الذي رحل إلى الحج قبل نصف قرن.
وقد أمضى الشيخ الجليل محمد فال بن باب أحد عشر يوما في المدينة المنورة وأرخ لذلك بحساب الجمل بقوله :
بطيبة كانت لنا ب (اي)ليلة زمن #(أي)كما كانت كذا - ياليتها كانت (كمن).
*في طريق العودة من الديار المقدسة*
توجه من المدينة المنورة إلى ينبع التى يعتبر الطريق إليها من المدينة من أكثر الطرق مشقة وأكثرها خطرا وأصعبها ؛ فتضاريسها هي الأشد وعورة وهي من أقل الطرق أمنا لأنها تخضع لنفوذ قبيلة حرب وسيطرتها وكم من مرة قطعت الطريق على الحجاج و احتجزت قوافلهم ونهبت أموالهم وقتلت كل من اعترض طريقها شر قتلة.
وسلك الشيخ محمد فال بن باب هذا الطرق الذي يمكن أن نسميه (طريق الموت) في خمسة أيام.
وفي ينبع يعاني الحجاج معاناة صعبة و لاتمكن مقارنتها بأي مكان آخر في الحجاز من حيث الصعوبة، حيث لا يوجد فيها ماء ولا طعام صالح للأكل، والنفايات تملأ الشوارع، وعلى الرغم من أنه عاين مظاهر البؤس لكن لم يعايشها، فقد أنعم الله عليه مدة إقامته في ينبع بالنزول في ضيافة محمد الارنؤوطي مسؤول (الشونه) في ينبع والذي كان قد تعرف عليه قبل ذلك على ظهر السفينة في الطريق إلى جدة وأكرمه هو وجماعته أحسن إكرام وامتد إكرامه إلى كل من يلتحق بهم .
مكت الشيخ محمد فال بن باب في ينبع تسعة عشر يوما كتب فيها على الأقل رسالتين إلى صديقه ورفيقه في الرحلة العارف بالله محمد الكبير بن العباس الذي بقي في المدينة المنورة ، ويطلب منه في رسائله أن يذكره كلما زار النبي صلى الله عليه وسلم وأن يدعو له كلما دعا لنفسه ويطلب منه أن يسلم له على الشيخ عبد الجليل برادة ويذكر له في إحدى رسائله بعض أخبار رفاقه في الرحلة مثل: محمد الماموه، وخيار وأبو المعالي الحسني و الطالب أحمد.
وفي السابع من صفر ركب الباخرة المتجهة من ينبع إلى طنجة .
وبعد يومين رست السفينة في ميناء الطور وهي بلدة صغيرة على خليج السويس ولها محجر صحي سيء السمعة يرهبه الحجاج ويخافونه خوفهم من النار ، وقد تم إنشاؤه سنة 1858 لفحص الحجاج العائدين من موسم الحج إلى بلدانهم، للتأكد من خلوهم من الأمراض المعدية مثل الطاعون والكوليرا ، وقد كتب الكثير من الحجاج الذين مروا به عن معاناة المارين له .
بقي الشيخ الجليل في محجر الطور يومين حمد الله عليهما و اعتبرهما راحة نزلت عليه و استأنف الرحلة وبعد ثلاثة أيام نزل فى بر بورسعيد .
في بورسعيد رأى هلال شهر ربيع الأول واستبشر به وهو ينشد:
أهلا بشهر المولد ×× شهر العلى والسؤدد
شهر النبي احمد×× شهر ربيع الأول
اهلا بشهر الفرح ×× شهر ذهاب الترح
وفخرنا والمرح ×× شهر النبي الأفضل
وبعد عشرة أيام من إبحاره من بورسعيد وصل الشيخ محمد فال بن باب لطنجة المغربية، صحبة رفيقه في رحلة العودة السيد محمد الحسن بن المين ، وكان ذاك يوم الاثنين العاشر من الربيع النبوي من عام 1307ه الموافق الثالث من شهر نوفمبر 1889م .
*فى المغرب: مهام تتحقق بعد حج مبرور*
ويبدو أن الشيخ الجليل محمد فال بن باب قد عقد العزم قبل سفره على أن يمر بالمغرب ليزور ضريح الشيخ سيدي أحمد التجاني في فاس، ويلتقي بالشيخ سيدى العربي بن السائح الذي كان نجمه قد بدأ يلمع في سماء المغرب ويشغل حديثه مجالس العلم ومنتديات العلماء، و إضافة إلى ذلك يحاول مقابلة سلطان المغرب الحسن الأول، ويقتني ما أمكن من الكتب والمخطوطات التب كان جمعها أشبه بإرث عائلي امتد ونما عبر القرون .
وقد تحقق له ما أراد ؛ فمن طنجة اتجه عبر البحر إلى الرباط، حيث التقى بالشيخ سيدي العربي بن السائح وسلمه رسالة يحملها إليه من شيخه الشيخ أحمد (آب) بن بدي العلوي، وهي رسالة مازال جوابها -بخط سيدي العربي نفسه- مصونا بعناية في مكتبة آل بدي بالنباغية. ومكث معه خمسة أشهر ووجد في مجلسه ضالته فسمع منه وأخذ عنه. ولاشك أنه حدثه عن أخيه التجاني الذي اشتهر عند التجانيين بالناظم، والذى ارتبط اسمه بسيدي العربي ارتباطا وثيقا، فقد مكث صحبته في مكناس ثلاثة أشهر من سنة 1841 هجرية ، قبل أن ينتقل الشيخ إلى الرباط، و نتج عن تلك الصحبة العلمية تأليف الشيخ سيدي العربي لأحد أهم كتب الطريقة التجانية وهو كتاب "بغية المستفيد" الذي شرح فيه أول نظم في قواعد وآداب الطريقة التجانية من تأليف التجاني نفسه وهو المسمي "منية المريد "، وقال في مطلعه :
قال ابن باب العلوي نسبه ×× المغربي المالكي مذهبه
وحينما قرر السفر من الرباط إلى فاس حيث زار ضريح الشيخ سيدي أحمد التجاني، ودعه سيدي العربي بن السائح وأعطاه جلبابه الذي لايزال وإلى اليوم هدية محفوظة ومصونة بين المخطوطات النادرة لدى العائلة للتبرك بها، وزوده بثلاث رسائل إلى أركان الزاوية التجانية، اولاها لمقدم الزاوية سيدي الغالي بن موسي بن معزور السلماني الحسني ، وهو رجل علم و معرفة اما الرسالة الثانية فهي موجهة إلى ناظر الزاوية سيدي محمد بن العربي ، و الرسالة الثالثة موجهة إلى المقدم سيدي محمد كنون أحد الحفاظ من علماء القروبين .
وقد أرسل الشيخ سيدي العربي رسالة إلى السلطان الحسن الأول وأطلع على محتواها الحاجب الوزير أحمد بن موسي (با حماد) وهو الرجل القوي بحكم قربه من السلطان ووظيفته كحاجب.
لم يتأخر السلطان في لقاء الشيخ الجليل محمد فال بن باب ويذكر في مذكراته أنه لقيه وحده لأن رفيقه محمد الحسن حبسته حمى، أما الوزير (با حماد) فقال وهو يقبل يد الجد "إن السلطان لا بد له من لقائكم ليتبرك بكم".. وقال له بعض الاخوان في فاس أنهم مارأوا الوزير (باحماد) يقبل يد أحد غيره إلا يد الشيخ ماء العينين و يد السلطان .
ويذكر الشيخ محمد فال بن باب في المذكرات أنه التقى السلطان لقاء مطولا و ليس معه أحد و بحث معه أحوال الحجاج و الفقهاء الذين زاروا المقام النبوي تلك السنة و انتهى الكلام عن الكتب و استنساخها وصعوبة اقتنائها. وحدد له الكتب التى يبحث عنها في قصيدة ألقاها أمامه.
وقال له السلطان أن كل هذه الكتب موجوده عند الاحباس ويمكن استنساخها، ولكن الشيخ محمد فال لم يكن لديه الوقت لانتظارها لأن سيدي العربي بن السائح يبستحثه على الالتحاق به حين يمر ركبه في طريقه إلى اندر .. وقام سيدي العربي بتنسيق ذلك مع الناظر سيدي محمدي كنون الذي يقيم أخوه في اندر ، ويمكن إرسال الكتب إليه.
لم يحدد الكاتب تاريخ عودة الشيخ الجليل محمد فال بن باب إلى منطقة العقل في الجنوب الموريتاني ولكنها قد تكون في شهر شعبان 1307 هجرية ، لأنه مكث مع سيدي العربي بن السائح خمسة أشهر وجاءه في شهر ربيع الأول ومكث في فاس فترة. وكما أشار إلى ذلك شعرا فقد رده الله إلى الأهل كما رد موسى إلى أمه لتقر عين الأحباب وينفع الله به البلاد والعباد .
وددت أن انقل في هذا العرض معلومات كثيرة وردت فى هذا الكتاب قصد الإفادة ولكن بدل ذلك أنصح بقراءة كتاب : " رحلة الحج على خطى الجد " للكاتب المبدع عبد الله ولد محمدي.
*محمد الحافظ بن محم*
طهران 22 اكتوبر 2025