
في سياق التحولات الاجتماعية والإعلامية المتسارعة، أصبحت قيادة الرأي أحد أبرز المؤثرات في تشكيل الوعي العام، وتوجيه المزاج الجمعي، والتأثير في القرارات والسلوكيات. غير أن هذا الموقع الحساس، الذي ظل تاريخيًا من نصيب العلماء، والمفكرين، والنخب الوطنية المجربة، بات اليوم عرضة للاختطاف من قبل موجة شعبوية مؤثرة، تُغذّيها منصات التواصل الاجتماعي، وتُضاعف من تأثيرها قابلية الجمهور للانفعال لا للتأمل، وللصوت العالي لا للكلمة الهادئة.
فاختلت معايير التأثير في المشهد العالمي والوطني الراهن، ولم تعد قيادة الرأي اليوم مرتبطة بالكفاءة أو السيرة أو التجربة، بل أصبحت ـ في كثير من الحالات ـ امتيازًا لمن يملكون أدوات الجذب الرقمي: سرعة التفاعل، جرأة الطرح، تبسيط القضايا، ومجاراة الأهواء العامة. هكذا نشأ جيل من "المؤثرين"، لا تُعرف لهم مواقف أصيلة ولا أدوار بنائية، يتصدرون النقاشات العامة، ويمارسون توجيهًا للرأي العام دونما أهلية معرفية أو حس وطني راسخ.
لا شك أن في هذا خللًا جوهريًا في المعادلة الطبيعية للتأثير حين تراجع أهل الرؤية والحكمة إلى الظل، وانبرى للقيادة الرقمية من لا يدرك خطورة الكلمة ولا مآلات المواقف.
وفي الحالة الموريتانية كان التحدي مضاعفا لاعتبارات عديدة:
• هشاشة الفضاء الإعلامي وعدم وجود إعلام وطني مهني قادر على غربلة الخطاب.
• غياب التربية الإعلامية لدى غالبية الشباب، بما يسهّل الوقوع في شرك الإثارة والتحريض.
• استفحال أزمة الثقة في المؤسسات، ما يجعل منابر السوشيال ميديا بديلًا مشوهًا لسلطة المعلومة والتحليل الرصين.
لقد أصبحنا نلاحظ أن بعض القضايا الوطنية المعقدة تُختزل في مقاطع قصيرة، أو تُدار بمنطق "الترند"، ويُساء فيها الظن بكل فاعل مؤسسي، ويُختلق فيها الصراع بدل التفاهم. وما هذا إلا نتيجة مباشرة لهيمنة صنّاع الرأي اللحظي على المجال العام.
في ظل هذا المشهد المرتبك، لا بد من تجديد الدعوة للنخب الوطنية، من أساتذة جامعيين، مفكرين، إعلاميين، أطر إداريين، ونشطاء جادين، إلى أن يستعيدوا زمام المبادرة، لا بالمناكفة، وإنما بطرح عاقل ومسؤول، يجمع بين الجرأة والرزانة، ويعلي من قيمة الوطن فوق الانتماءات الضيقة والمصالح الوقتية.
فالرأي حين ينفصل عن الوطنية، يتحول إلى فوضى فكرية، ومتى غابت التجربة، تسيدت الشعارات، وإن غاب الرشاد، حضرت الغوغائية.
و على كل ذي بصيرة أن لا يترك الميدان للفراغ، وأن يصدح بكلمة الحق... ولكن بعقل الدولة، لا بنَفَس التحريض.