غزواني في مواجهة الاستعلاء: قوة الهدوء لدى رجل الدولة بقلم: سيدي اعل جمال سگان

مشهد غير متكافئ، وحضور واثق
كثُرت التعليقات حول مشهد التُقط خلال مأدبة رسمية أُقيمت في البيت الأبيض، وحضرها عدد من رؤساء الدول الإفريقية. وقد أثارت تلك اللحظة، التي وثّقتها الكاميرات، الكثير من القراءات السريعة، بعضها كان مجحفًا، والعديد منها متحيزًا. إلا أن الموقف الذي اتخذه فخامة رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية، محمد ولد الشيخ الغزواني، يستحق أن يُقرأ من زاويته الصحيحة: زاوية الكرامة الواعية، والدبلوماسية الرصينة، والوطنية التي لا تحتاج إلى صخب.

إطار هذا اللقاء لم يكن لقاء نظراء، بل إن المشهدية برمّتها كانت مشبعة بدلالات رمزية مستمدة من نظام دولي قديم وهرمي، توهّم البعض بزواله. وأمام هذا النمط الاستعلائي، اختار الرئيس الغزواني أن يتخذ موقفًا يتّسم بالهدوء والرصانة. لم يكن ذلك الموقف ناتجًا عن ضعف، بل كان تعبيرًا عن استراتيجية محسوبة بعمق.

وحين أمسك فخامته بالكلمة، لم يطلب مكرمة، ولم يسعَ إلى استرضاء أحد، بل تحدّث باسم موريتانيا، بصوت رجل دولة يدرك تمامًا ثقل كل كلمة تخرج من فمه. تحدّث بالفرنسية من دون تكلّف، وبلهجة تعكس هويته الثقافية. لم يكن يسعى إلى إبهار بلاغي، بل إلى إيصال فكرة واضحة. فالمعنى لا يُقاس بزينة الألفاظ، بل بصدق الرسالة.

الترفّع في مواجهة الفظاظة
في لحظة محمّلة بالتوتر، قاطعه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأسلوبه المعروف بالحدّة والفظاظة. كانت مقاطعة جافة، خالية من اللياقة. ولعلّ كثيرين في مكانه كانوا سيتصرّفون بانفعال، إلا أن الرئيس الغزواني آثر التماسك، ولم ينجرّ إلى الرد. اختار أن يلتزم الصمت.

لكن هذا الصمت لم يكن ضعفًا، ولا خضوعًا، بل كان قرارًا واعيًا من رجل دولة يدرك أن المجابهة الفورية، في ظروف غير متكافئة، قد تأتي بنتائج عكسية. فالرد لا يكون دائمًا بالحديث، بل أحيانًا يكون في ضبط النفس. وقد مارس فخامته هذا الضبط بسمو وكبرياء.

كرامة لا تُرفع بالشعارات، بل تُجسَّد بالمواقف
الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ليس خطيب جماهير، إنه رجل نظام، ضابط سابق، تشرّب الانضباط، وتدرّب على قوة الكلمة المقننة، واستيعاب موازين القوى. منذ انتخابه، جسّد نمطًا من الحُكم يقوم على المسؤولية، والاستقرار، واستقلالية القرار الوطني. دبلوماسيته لا تركن إلى الضجيج، ولا إلى المزايدة. هي هادئة، لكنها حازمة. صامتة عند الضرورة، لكنها حاضرة في كل لحظة.

تلك الليلة، لم يرفع صوته، لا عن عجز، بل عن وعي. لم يرغب في أن يكون مشهد السيادة الوطنية عرضة للتشويه الإعلامي. أدرك أن كلمة واحدة في غير محلها قد تُستخدم ضد بلده. لذلك، كان صمته موقفًا. موقف مقاومة بصيغة أخرى. مقاومة محسوبة، وهادئة، وبليغة.

رفعة الامتناع عن الرد على الإهانة
هناك من رأى في هذا الصمت تراجعًا، لكنه في الحقيقة كان تعبيرًا عن فهم عميق لطبيعة المسؤولية الرئاسية. ففي ضجيج العلاقات الدولية، لا يكون الصمت انسحابًا، بل كثيرًا ما يكون قوة كامنة. هو وسيلة لتفادي الجلبة، والحفاظ على الرسالة الأهم: أن موريتانيا لا تحتاج إلى مواجهة لتثبت نفسها، فهي موجودة، سيدة، شامخة، يقودها رجلٌ واعٍ بمسؤولياته.

نعم، لم تكن المأدبة لقاءً بين نظراء، لكن في قلب هذا التفاوت، اختار الرئيس غزواني ألا يُضيف الصدام إلى الاستعلاء. حافظ على الأهم: صورة البلد، وكرامته، وسلامه الداخلي، ووقار قائد يعرف أن التاريخ لا يُحفظ بالكلمات النارية، بل بالبصيرة والرؤية.

مقاومة صامتة، وكرامة مصونة
اتهام الرئيس بأنه استسلم لإهانة ما، إنما هو تجاهل لتعقيدات اللحظة، ورمزية المشهد، ودهاء الموقف. لم يتراجع، ولم يفرّ، بل اختار أن يُقاوم بصمت. جعل من الصمت درعًا، ومن الكرامة ردًّا.

هذا الصمت ليس فارغًا، إنه رسالة. يحدّثنا ببلاغته الهادئة. يذكّرنا أن الدبلوماسية، خصوصًا بالنسبة لدولة كدولتنا، لا تحتاج إلى بهرجة لتكون فاعلة، بل تحتاج إلى رجال راسخين، يدركون واجبهم، وينقلون صوت شعبهم دون أن يفرّطوا في صورته أو هيبته.

وفي تلك اللحظة بالذات، أدّى فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مهمّته كاملة… لا بالضجيج، بل بالحكمة. لا بالصوت المرتفع، بل بوقار رجل الدولة.